رسمت المساجلات الصحفية لنفسها طريقا فارقا في العقود الماضية من تاريخنا المهني، فقد كانت ملح الأوراق في بلاط صاحبة الجلالة الملكي، وزاد المجالس الانيقة في ارجاء البلاد، ومعين الفكر والمتعة وحسن الذوق الذي لا ينضب لجمهور القراء، والمتبتلين العاشقين لمحاسن الكلم. ولما كانت ستينيات القرن الماضي من أزهى حقب الفكر والكتابة، لانها شهدت اصطراع تيارات سياسية وفكرية وثقافية مختلفة في المشهد السوداني، فقد افرزت اقلام عملاقة وعقول حرة تحلق في السموات دون حتى قيود دنيوية. ومن اشهر تلك الاقلام التي تساجلت فكريا على صفحات جريدة « الصحافة» في اواخر الستينيات الراحلين صلاح احمد ابراهيم وعمر مصطفى المكي. وتعيد الصحيفة نشرها اثراءً للساحة الفكرية والصحفية. يقولون إن «الريس» يخالط البرجوازيين ورجال المال والأعمال وكبار الكبار، فينبغي أن يبهرهم بالأصالة عن الطبقة العاملة بمستوى ملبسه ومسكنه ومشربه ومأكله وعطره ليؤثر فيهم وينال احترامهم. عجباً! عجباً! إن زعيم حزب شيوعي ينال احترام البرجوازيين لا بمظهره البرجوازي ولكن بمدى نفوذ حزبه وسط الكادحين ومقدرته على الضرب بهم، لإيهامهم بأنه مثلهم و«الحالة ون»، ولكن بفضح نفاقهم وتعرية حقائقهم البشعة، لا بالتنازل و«شيلوني أشيلكم»، ولكن بإجبارهم على احترام طبقته، وذلك باستمساكه هو أولاً وقبلهم على احترام طبقته وبتمثيلها في كل شيء. حين ذهب فيدل كاسترو وهو رئيس حكومة لها دوي في العالم لا رئيس حزب صغير الى الاممالمتحدة رفض ان ينزل في فنادق نيويورك الفاخرة ومباني منهاتن المترفة، بل قصد هارلم حارة الزنوج، هارلم «عشش فلاتة» نيويورك، هارلم «مدينة الكرتون بالمقاييس» الاميركية، هارلم الجريمة والفاقة والجرذان والصناح قالوا له: لا يا سيادة الرئيس كاسترو هذا لا يليق بمقامك الرفيع، قال لهم ليس لي مقام ارفع من مقام هؤلاء. هؤلاء هم قومي وأهلي ومعشري ولست خيراً منهم في شيء لأنهم شبه الذي جئت منهم، اقودهم وأمثلهم في كل شيء، قالوا له ليفحموه: لن نستطيع حمايتك في حي الاجرام هذا، وحقاً الطيور على اشكالها تقع وشبه الشيء منجذب اليه. رد الزنوج انت منا يا كاسترو ابن الشعب الوفي وسوف نحميك، وحموه ليل نهار، ولكن كاسترو ثوري كاسترو يأكل الجمر، كاسترو قلبه حار ومشاعره امينة واحاسيسه شعبية، فزعيم البروليتاريا السودانية ولعله يمتعض من هذا التعبير وهو نديم العلية والصفوة، فهو بصراحة غير بروليتاري، هو بأمانة مجرد مثقف برجوازي صغير ما يزال يحب رواسب طبقته الاصلية ويخجل في الواقع من انتمائه للطبقة التي يزعم انه ينتمي اليها، انه يتقزز من العمال، فلا يرى أبداً في صحبة العمال ورفقة الناس العاديين الذين كل مواهبهم انهم كادحون، ولا يخفى تبرمه من الشيوعيين العاديين، وتراه في عجلة من امره في كل اجتماع الا ريثما يشع ويتألق، وسرعان ما يعتذر عن الاسئلة والاجابات والنقاش «بارتباط» سابق، بعمل مهم، ليقضي أمسياته الأكثر رشاقة من خطوات البالية في الارز او الواحة او في بيوت سراة القوم وعليتهم، حيث النجيلة والراحة، او في قعدة مختصرة في بيت «رفيق» ليس من الناشفين رفيق ظريف يجيد تنظيم القعدات المختصرة يشرب أفخر الشراب ويلبس أغلى الثياب ويتحدث بترف. انني لا اهاجم شخصه في هذا، ولكنني اوبخ فيه المناضل وقائد الكادحين الذي سمح بكل هذا وجمح نحو كل هذا وما يزال يتحدث عن التضحية وعن النقاء الثوري. فإذا كان مستوى المعيشة الذي يعيشه لا سيما ملبسه من الخمسة بالمائة التي يقتطعها من قوت عيال العامل المسكين والموظف المحمول، فإنه يكون قد ارتكب كبيرة «ما زاد عن قوتنا فالكادحون به أولى، فقومي لمال الحزب رديها» وإذا كان يستجديها من أصدقائه فهذا سقوط، واذا كانت تصله عطايا فالحزب اولى، وكان ينبغي أن يصرفها بمسؤولية، واذا كانت تصله هدايا كان ينبغي أن يضع لهذا الامر حداً فإنه افساد. ما هو مصدر دخل «أمير» عام الحزب قبل النيابة والنيابة تعطيه خمسين جنيها فقط اذا الزم نفسه بما الزم به غيره؟ فيا شيوعيون ما هي مصادر دخل زعيمكم ومن أين له هذا؟ «يا زميل مرهج» من أين لعبد الخالق هذا الرفه؟ يا محترفي الحزب بالأرياف من أين هذا النعيم؟ ولكن لماذا الهجوم الشخصي واستهداف السلوك؟ لأنه بإزاء التأليه والتقديس والعبادة ينبغي أن يأتي من يبول على رأس الصنم، ينبغي أن يأتي من يعري النفاق والخداع والدجل، ومن يبدد الهالة الزائفة من على رأس القديس الزائف رأس سيزار بورجيا وطرطوف وسبورتين في بروجرام واحد، لقد كان الاوسا جيفو اونسو ادومجا الكنتامنتو منبع الحكمة والشرف،نكروما هو ايضا يتغنى بالاشتراكية والنضال ونبذ الحياة المترفة «خطبة الفجر المشهورة» بل هو قد نشأ اساساً كقائد للصعاليك او ما اطلقوا عليهم «شفع البرندات» اي الناس العاديين. وكان سيادته يحمل لحية اشتراكية ومسبحة ثورية ولكنه كان في مفاسده ومباذله وراحاته يبدد اموال الفقراء والكادحين في شراء عربة «صن بيم» غالية لمحظية، وفي اهداء منزل من منازل الدولة لاخرى وفي تنصيب ثالثة مفتشة لمركز «تمالي» في الشمال وكانت فتحية رزق تعيش كامبراطورة بينما كان طفله الصغير يتلقى التحية العسكرية من الضباط العظام ثم كانت له فوق ذلك شركات واعمال تجارية وحسابات جارية «في الميزانية العامة يرصد له مليونان لا يسأل عن كيفية صرفهما». هل سأل الشيوعيون ما اذا كان امينهم العام مثلاً وبعض اعضاء لجنتهم المركزية في شركة تجارية مع عدو لدود للحزب وهل بحثوا في جوانب حياته الخاصة وخباياها التي بدأت تطفو للسطح وليس للمحترف حياة خاصة الا بالقدر الضروري اذ ينبغي ان يكون قد باع نفسه للحزب وللشعب وللقضية. ان لدي «الكثير المثير الخطر» والخطايا تفوح وعليهم ان يتمنوا صمتي لان مثلي ارعن وان تكلمت بما اعلم سيعرف الشعب اي جيف منتنه تسير على قدمين ولا ينبغي ان يقعد الشيوعيون على آذانهم يرددون «الله يكذب الشينة» والشينة منكورة ولكنها واقعة واقعة. لست علم الله ممن يطرق عيوب الناس الخاصة لعلمنا بانا لنا مثل الانام عيوب، كما يقول الشاعر الدكتور عبد الله الطيب، ولكن حين تمزج الخاص بالعام، وحين يكون هناك معياران واحد لنا وواحد للناس فهذا ما يدفع الى التزام ما لا يلزم، وما يجعلني اعمل على تمزيق الاقنعة المستعارة وازالة المساحيق. يامراؤون. اتبلعون الجمل وتعفون عن الابرة؟ اين النقد والنقد الذاتي؟ ومن ذا الذي نصبكم على الآخرين قضاة وانتم انفسكم تسعى بين ايديكم مخازيكم. وليس هو السلوك المنحرف وحده والشذوذ المرائي.. الذي ينبغي على الشيوعيين المخلصين احتراشه احتراش الضباب بل هناك ما هو ادهى وامر... فلقد بسط الريس كما كان يفعل مؤسس النكرومائية التي هي «على مراحل الانتهازية» في تعريف بعضهم ظلا ذا ثلاث شعب على الحزب فحشا الاجهزة العليا بكثير من المعوزين للمؤهل النظري والسلوكي والمناقب الثورية ولو شئت لاسميت هذه الخشب المسندة، وحرم المعارضة والمخالفة ودأب على اغتيال كل من كان يمثل البديل مستخدما اساليب جهنمية، واشاع المجاعة الفكرية والادقاع الذهني حتى يتجلى كأوحد زمانه وعبقري عصره وبلغت به العزة بالاثم حد سرقة مجهود «باسل ديفيدسون» والضحك به على طلاب الجامعة بعد ان انتحله لنفسه والعجب ان دار الفكر الاشتراكي دعت المثقفين لمناقشته وبالطبع بعد ان ظهر المخبوء انتهى ذكر هذا العمل الفذ وصارت لائحة الحزب كالدستور الاميركي وثيقة جميلة منمقة ورغبة طيبة وانعدم النقد وقدوة النقد الذاتي، ولا اظن ان ثمة نقد ذاتي امين نزل منذ ان انتقد قاسم امين نفسه وانفرد قداسته بالوحي فلا يكتب غيره الا للضرورة القصوى محتفظا لنفسه بحق الخطأ والنكوص عنه دون مسؤولية او محاسبة للنفس وباحتكار صنع نظرية الثورة السودانية واستغنى بكتاباته المضجرة مثل «آفاق جديدة» وغيره عن المراجع الاساسية للنظرية وصار الحزب بكلمات محرر الميدان هو عبد الخالق وعبد الخالق هو الحزب وامات الروح الثورية واضعف التربية البروليتارية حتى خلت صحف الحزب الداخلية من اية حيوية بناءة ومشاركة حثيثة من الاعضاء العاديين ومن تبادل الافكار والخبرات واي نقد جاد كما خلت الصحف العلنية من اي مذاق ثوري واقتصرت على اخبار تحركات هيئة الحزب البرلمانية التي هي نيافته وعلى احسن الفروض على مجرد وصف الاحوال دون استخلاص الكادحين للثورة وخلت من اي هجوم حازم على المخازي الجارية فلا ينزل فيها شيء جاد ذو قيمة تعليمية ثورية اللهم ما عدا الوثيقة التي اعدها نخبة من المفكرين الماركسيين «اقرأ الريس وحده» لكي تكون بديلاً للمناقشات المثيرة التي تدور حول اليسار الجديد في الرأي العام ولاقتراحي حول الوحدة في «الصحافة» وتضخمت بروستات هذا الحزب بكل امراض المجتمع بسياسة الارضاء والاغضاء والاستمالة والرشوة بحيث صار المحترف المحظوظ يعيش في المستوى الاجتماعي لرصفائه في الخدمة المدنية بينما زميله سيء الحظ يشرب من مياه الترع ويركب رجليه بين القرى ويحيا في مسغبة وصار الحزب مليئاً بذوي العاهات النفسية وبعضهم انطلق بها في الشوارع وصارت ذمم المؤلفة قلوبهم او مرشحي البطانة الفاسدة وغيرهم تشرى بالسفر الى الخارج او الاقامة هناك وبهدايا الزواج الفاخرة وبالبعثات وبالصداقات المترفة وكالاوساجيفو كانتامنتو نكروما اشرأبت حول الريس حلقة من المتملقين والمتواطئين والشركاء في الاعمال التجارية السرية والساكتين على الطنينة وكل هامان لفرعون وكل كريم ثابت وانطون بوللي وكل مهديء لخواطر الريس الذي لا يقوم عليه القولون الا حين ينزنق والعضو المخلص آخر من يعلم او ربما يغالط النفس والحقيقة لكي لا يعلم فما رئيسهم غير ليبرالي نشأ في الثقافة البريطانية اولاً ثم صار يأكل افضل ما في المائدتين أخيراً. يقول لي الذين أحبهم واحترمهم واثق في عافيتهم واخلاصهم من اعضاء الحزب في القيادة والقاعدة: الامر ليس كذلك يا صلاح ولسنا بهائم وأنت لا تعرف كثيراً مما يدور. وهذا حق. أنا لا أعرف كثيراً مما يدور ولكنني ايضاً اعرف كثيراً مما يدور. ولكن مما أنا مستيقن منه تماماً ان هذا الحزب صار حزب مصالحة واصلاح حزب نشاط اجتماعي «مهذب» ومواقف سياسية لا تقلق بال أحد. عبد الخالق يصرح في الأيام عدد 03/6 عن صفقة الاقمار الصناعية بقوله «لا تهمنا الصراعات الدائرة وليس موضوعنا موضوع الشركات والافراد والشخصيات المنتفعين بذلك لماذا؟ وفي الضياء أذن الحامل طرشاء» حول هذه القضية. ايكون ثمة شريك تجاري له دخل بالموضوع؟؟؟ صار هم الحزب اذن اكتساب احترام البرجوازيين وعطفهم ولطفهم بالتعاطف والتلاطف مستلاً مخالبه الثورية فلا لون أحمر الا لون الروج والمونيكير متناسياً واجباته الاساسية في فضح الاوضاع القائمة وكشف المصالح المصطرعة في القطر والقارة متناسياً واجباته في تأجيج نيران الغضب والثورة في السودان وفي الثوار من جيران السودان. لقد صار الحزب وا اسفاه «عفريتة» لصورة زعيمه حزب ناعم الملمس الا على امثالي من الخارجين مقبول لدى جميع الدوائر عاقل ومتفاهم ومعتدل ومعطر. نعم مشاغب احياناً ولكن كما يشاغب صبي شقي يكسر زجاج نافذة وطبق صيني «كي يدور الهمس عنه تشيطناً» بغرض الاحتفاظ بالجاذبية تلهب خيال الشعب والشباب، على انه لا يرغب في تقويض بناء مائل او تغيير حال زائل منهمكاً بوعي او غير وعي في نفخ بالونة الريس وتلميعه لكي يجد طريقه في المستقبل القريب الى القصر الجمهوري لاداء القسم وكزعيمه صار الحزب يمشي في الهندام الانيق خطوه لمس وحديثه همس وايامه شهر عسل والاشيا معدن. وهيئته البرلمانية أي عبد الخالق مشغولة عنه لا سيما عن فروعه النائية ونشاطه اليومي في مواقع الثورة والتمرد بترقيع النظام ومؤسسات النظام كما ينظف طير البقر انياب التمساح، بكلام لا يحرج جهة ولا يسبب جراحاً. ان نخبة من المفكرين الماركسيين الاحرار من قبضة راشد الخانقة بصدد اصدار شيء حول امراض الحركة الاشتراكية بالتفصيل وبطريقة تشريحية تحليلية مستأنية ولكن هذا القول مجرد تذكرة لمن يعي ولمن له عقل وفي الليلة القادمة ننظر في موضوع الطرد من الحزب الذي جننوا به العالم وفلقوا به دماغ الحقيقة ولمتعة القارئ سننشر في النهاية قصيدة «الشاعر والقوميسار». 21 يوليو 1968م رقم العدد «1661»