ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيتر وودوارد جامعة ريدنغ، المملكة المتحدة
السودان بعد انفصال الجنوب: انخفاض حالات التهميش المتع
نشر في الصحافة يوم 17 - 03 - 2012


ددة (1/2)
تنشر « الصحافة» في حلقات محتوى الندوة التي قدمها بروفسور بيتر وودوارد بمركز مأمون بحيري الأسبوع الماضي
بُعيد تصويت الجنوبيين للانفصال في يناير 2011م أعلن الرئيس السوداني عمر البشير أن الانفصال سيخلق وضعاً يمكن فيه للسودان أن يحدد نهائياً هويته باعتباره دولة عربية وإسلامية تحكم بموجب قانون الشريعة. ولم يكن ذاك الإعلان إعلاناً مفاجئاً، فالدول تسعى لترسيخ الهويات بل تسعى لاختراعها إذا دعت الضرورة وهو موضوعٌ بات مألوفاً بشكلٍ واضح لدى المؤرخين في الأعوام الأخيرة. وكان البشير يقول إن الجنوب لم يكن أبداً ذا هويةٍ سودانية كاملة وأن القليلين يتشكُّكون في أن هذا الإقليم كان جزءاً مهماً من المحادثات التي جرت حول هوية البلاد على الأقل منذ بروز القومية بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.
أصبح «التهميش» في السنين الأخيرة مصطلحاً مستخدماً بشكل مضطرد في مناقشة صراعات السودان وبروز الهويات الجديدة المرتبطة بهذه الصراعات فيما يتعلق بشكل الدولة. فمنذ عام 1983م بات المصطلح أمراً جوهرياً بالنسبة للجيش الشعبي لتحرير السودان كما التقط لاحقاً في مناطق الشمال مثل دارفور حيث يتم التعبير عنه عموماً بالمفردات الاجتماعية/ الاقتصادية. وعلى أية حال فالمصطلح ليس جديداً برغم أن الطرق التي استخدم بها باتت تختلف بمرور السنين: فأول عهدٍ لي بمعرفة هذا المصطلح كان في عام 1968م عندما كان هناك مؤتمرٌ قدَّم فيه علي المزروعي ورقة عن «حالات التهميش المتعددة» في السودان. وهذه الورقة التي أقدمها إليكم ستناقش مفهوم «التهميش» كما قدَّمه المزروعي وكما قدَّمه آخرون فيما بعد بما فيهم جون قرنق وستنظر إلى أيٍِ مدىً سيعالج انفصال الجنوب الصورة السلبية لقضايا التهميش بالنسبة للسودان وجنوب السودان؟ فإعلان البشير القائل بإمكان تأسيس هوية السودان بصورة واضحة في النهاية قد قادني إلى أن اتساءل إلى أيِّ مدىً سيكشف انفصال الجنوب في الواقع الأمور بالنسبة للسودان وبالنسبة لجنوب السودان؟
السودانيون بحسبانهم أفارقة/ عرب
كانت هذه القضية عام 1968م في صدارة اهتمام المزروعي كما باتت منذ الاستقلال محلَّ نقاشٍ كثير. كانت هذه القضية تاريخياً محل أخذٍ ورد: فالبعض يقولون جدلاً إن تغلغل «العرب» وهويتهم في السودان ظلا مستمريْن لعدة قرون، وربما يشير آخرون إلى حكام مملكة سنار المزعوم عدم عروبتهم للإيحاء بأن موضوع هذه الهوية أمرٌ مغرض. ولكن منذ الاستقلال عام 1956م أصبح الأمر ذا أهمية متزايدة في الوقت الذي أصبحت فيه قضايا «عربي» و»إفريقي» تحظى بنقاشٍ أكثر، فالبعض تصور السودان باعتباره «جسراً» على غرار ما هو موضح في كتابات محمد عمر بشير وعلى غرار طريقة فرانسيس دينق الخاصة. ويمكن للسودان أن يتشكل من كليهما، فالمزروعي تحدث عن («الازدواجية الثنائية»: الهوية الثنائية الإفريقية/ العربية أنموذجاً)، وقد تشكك آخرون في ذلك، فربما كان نظام عبود هو أول نظام يشير إلى أن «الجنوب الإفريقي» كان إلى حدٍّ كبير نتاجاً للسياسات الاستعمارية البريطانية التي يمكن تغييرها وباستخدام القوة إذا دعت الضرورة. وكان ذلك نهجاً اتبعه لاحقاً النظام العسكري الثالث بعد أن استولى على السلطة عام 1989م، وقوبلت كلتا المحاولتين بصراعٍ متزايد في الجنوب. وفي الواقع ساهمت المحاولة الأخيرة في الرأي المذكور لدى بعض الأوساط الإسلامية وفحواه أن الشمال «العربي» يجب أن يهجر الجنوب إذا دعت الضرورة (أشير في بعض الأوساط إلى أنه وبتوقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005م «تخلت» حكومة السودان عن «الجنوب الإفريقي»).
مع انفصال جنوب السودان طُرح سؤالٌ فحواه إلى أيِّ مدىً تمت إزالة عائق الهوية القومية وما إذا كان بالإمكان للسودان بشكله الحالي أن يجد شعوراً بالهوية أكثر توحداً حول هوية «عربية» أقلّ اختلافاً حولها. ومع ذلك ففي السودان الشمالي السابق كان وضع الهوية العربية نفسه موضوع قدرٍ من الخلاف، وفي نفس الوقت هناك أيضاً عناصر من السكان في الشمال ربما ترتاب في توكيدٍ جديدٍ محتمل حول هوية عربية. والأكثر وضوحاً أن هناك أقلية معتبرة من أناسٍ ذوي أصلٍ جنوبي يعيشون في السودان الجديد ويتحدث كثيرٌ منهم اللغة العربية ولكنهم ربما لا يقبلون بالضرورة بهوية عربية لا سيما إذا كانت هناك سياسات تمييزية مثل إقصاء الجنوبيين من الوظائف العامة وترك قضية مواطنتهم غير واضحة مما يجعل البعض منهم يخشى من أن يكون متشرداً لا يحمل جنسية. وقد فتحت أزمة دارفور أيضاً دائرة أخرى أثيرت فيها الهوية العربية حيث حاولت الأوصاف التبسيطية خاصة في الولايات المتحدة أن تطرح ذلك باعتباره جبهة جديدة في الصراع الإفريقي/ العربي القومي. وأشار آخرون إلى الرابط الأكثر محلية للهويات العرقية/ العربية في الوقت الذي ربطت فيه بعض تعابير المجموعات المتمردة مظالمها بالهيمنة العربية النهرية القومية. وهذا يختلف اختلافاً واضحاً مع أولئك الذين رأوا في انتشار تلكم المؤثرات وسيلة تقود الكثيرين على نطاق الشمال على الطريق المفضي إلى أن يصبحوا «سودانيين». والدائرة الأخرى التي باتت فيها الهوية العربية تحت المجهر كانت وسط الكثير من السودانيين العاملين في الخارج في العالم العربي، فكشفهم لتنوع المناهج بالنسبة للهوية في تلك الدول قاد إلى التساؤل عما إذا كانت هناك هوية عربية بقدرما هي مجموعة صفات ثقافية مشتركة بدلاً عن كونها هوية سياسية مشتركة وأن تلك الهوية السياسية تسيطر عليها في الواقع مصالح دولة فردية. لقد أصبحت آخر لغة من السياسة السودانية مصبوغة بتعابير العرقية والهيمنة والإقصاء للمجموعات العرقية المختلفة. وعندما كتب المزروعي مادته كان التفكير شائعاً وسط الأكاديميين بأن «الحداثة» ستشهد الهويات القومية وهي تحلُّ محلَّ الهويات العرقية، ولكن من خلال ما يُنظر إليه كثيراً بأنه تنافس على غنائم الدولة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر فقد قيل إن العرقية لديها قوة جديدة في الحياة السياسية والاقتصادية لا في السودان فحسب بل في كثير من البلدان الأخرى أيضاً. وإذا كانت هذه هي الحالة فهل ستخرُّ أية محاولة لتعزيز الهوية العربية في السودان بشكله الحالي على أرضٍ صخرية؟
علاقات السودان بجيرانه العرب والأفارقة
كان المزروعي يكتب مادته في وقتٍ كانت فيه القومية العربية تشكل قوة فعالة برغم انتكاسة حرب عام 1967م وفي وقتٍ ظل فيه السودان يتطلع نحو الشمال في سنيِّ النميري بما في ذلك الاتحاد المقترح مع مصر وليبيا الذي أعقبت الفشل فيه لاحقاً تدابير تكاملٍ مختلفة مع مصر السادات. وكانت السبعينيات أيضاً تمثل الفترة التي صيغت فيها روابط أكبر مع دول شبه الجزيرة العربية شملت استثماراً ملموساً في زراعة السودان الذي كان من المفترض أن يصبح «سلة غذاء» العالم العربي. ولاحقاً وعندما برزت الحرب الأهلية الثانية في الجنوب بعد عام 1983م تم توجيه النداء إلى الدول العربية لتقديم المساعدة العسكرية خاصة بعد أن هددت انتصارات الجيش الشعبي لتحرير السودان بنقل الحرب إلى داخل الشمال، وبدت المساعدة أحياناً ذات مردودٍ ارتكاسي. وفي التسعينيات سعى النظام إلى تصدير أنموذجه الإسلامي من خلال مؤسسة مؤتمره العربي والإسلامي مما أدى إلى ذعر جيرانه العرب الأكثر محافظة. وكان ذلك توجهاً جلب العزلة والعقوبات الدولية التي عرَّضت النظام إلى تهديداتٍ جديدة وقادت إلى تغيير مفاجئ في السياسة على مشارف عقد التسعينيات. ويبدو أن السودان ما زال يسعى إلى علاقة خاصة مع العالم العربي، وأخيراً جداً كان السعي إلى العلاقة يأتي بدعاوى نابعة من نظامٍ جاء عبر انقلابٍ في 1989م وهو نظام ظهيرٌ للربيع العربي بل وربما كان يمثل منارة الربيع العربي الذي يأمل النظام أن يتمخض عن قوة أعظم للحركات الإسلامية في كثير من البلدان مثل تونس وليبيا وفوق ذلك مصر.
رغم ذلك يجب على السودان أيضاً أن يتعايش مع وضعه في إفريقيا ومع عدد من الجيران الأفارقة الذين كثيراً ما كان لديهم قلق حيال شخصيته العربية. وبالتأكيد فإن المجموعات المتمردة الرئيسة في الجنوب أولها الأنيانيا ومن ثم الجيش الشعبي لتحرير السودان كان يُنظر إليها بعين العطف على الأقل من جانب بعض الجيران الأفارقة بسبب ما يوصف بأنها حكومات عربية وإسلامية في الخرطوم. ومع انفصال جنوب السودان ما تزال هناك أهمية كبيرة للجيران الأفارقة، ففي الشرق إريتريا وإثيوبيا لديهما أهمية، فأريتريا هي التي لعبت دوراً كبيراً في اتفاقية سلام شرق السودان عام 2006م، وربما لم تكن تلكم الاتفاقية تمثل أفضل صفقة ممكنة لأهالي الشرق ولكن يجب على حكومة السودان أن تدرك كيف أن العلاقات مع إريتريا مهمة لرقعةٍ من البلاد ذات أهمية استراتيجية. إن موازنة العلاقات مع إريتريا وإثيوبيا تعتبر مهمة بالغة الدقة بحكم صراعهما الحدودي المر الذي ما زال غير محسوم بيد أنها علاقات حيوية بالنظر إلى نمو علاقات السودان الاقتصادية مع إثيوبيا بما في ذلك توفير الكثير من النفط الذي تستورده إثيوبيا. كما أن صراع دارفور المستمر بات يمثل أيضاً تذكرة بأهمية تشاد حيث خلقت تلك الأهمية منعطفاً في كلا البلدين تراجعا بسببه من دعمهما لهجمات المتمردين على العاصمتين إلى توقيع اتفاقية بين الحكومتين صُممت لتقييد حركة متمرديهما في دارفور وشرق تشاد. أما العلاقات مع يوغندا وكينيا التي كانت ذات مرة مهمة بالنسبة للحرب والسلام في الجنوب فتبدو الآن أكثر بُعداً لأن السودان الآن حصل على جارٍ إفريقيٍّ جديدٍ مهم ومتداخلٍ معه يشكله جنوب السودان. وليس هذا المقام مقام تكرار كل القضايا العالقة بين السودان وجنوب السودان ولكن المعني أن القضية الأكثر إلحاحاً لسياسة السودان الخارجية هي جاره الجديد، فلو سعى السودان للتأكيد على علاقاته العربية في سياسته الخارجية فعليه أن يأخذ في البال أن علاقاته الخارجية المباشرة الأكثر أهمية هي علاقاته مع جيرانه الأفارقة.
الحدود الدينية
لن تكون قضية الدين بالكاد من الأهمية بمكان طالما أنها كانت هي القضية التي انقسمت الدولة على أساسها. ورغم أن الجنوب كان من الممكن أن يكون «هامشياً» بسبب أيِّ بُعدٍ من الأبعاد المذكورة لكن قضية الدين هي التي أفضت إلى الانقسام نتيجة دمجها داخل اتفاقية السلام الشامل إضافة إلى إصرار الحكومة على قيام دولة إسلامية بدلاً عن دولة علمانية، الأمر الذي أثار حق الجنوب في إجراء استفتاءٍ حول الانفصال. لقد بات مستوى هذه القضية وأهميتها معروفاً منذ مدة طويلة، فالمزروعي وصفها ب»المواجهة الأكثر إثارة في إفريقيا بين السلطة الإسلامية المحلية وبين المسيحية ذات الطابع الاغترابي» (في إشارةٍ إلى دور البعثات الأوربية والأمريكية من مختلف الملل التي أدخلت المسيحية في الجنوب). فالسؤال الذي يبرز بالنظر إلى حِدَّة ذلك الوصف الذي أطلقه المزروعي هو إلى أيِّ مدىً اختفى وضع المسيحيين من السياسة السودانية؟ فهناك على الأقل مجموعتان من المسيحيين ما تزال تعيش في الشمال: إحداها هم المسيحيون الجنوبيون الذين ورد ذكرهم آنفاً وثانيتهما هي الجالية القبطية المسيحية حيث عانت كلتا المجموعتين من التمييز، فالأقباط عاشوا وقتاً حرجاً غاية الحرج في بداية التسعينيات عندما قدَّم النظام الجديد تأويله للشريعة. فالقلق فيما يتعلق بكلتا المجموعتين ينْصَبُّ على حقوقهما الإنسانية وحريتهما في العبادة بموجب الدستور الجديد المقترح، فبروز الحركات الإسلامية في إطار الربيع العربي أفضى إلى همومٍ جديدة أبدتها المجموعات المسيحية الأهلية على نطاق الشرق الأوسط. ويقود هذا إلى السؤال المشابه عن طبيعة ذلك الدستور ومن الذي يقوم بصياغته حقيقة؟ فأهميته لا يمكن المبالغة فيها طالما أن الحفاظ على الشريعة هو الموضوع الجوهري للحكومة في المفاوضات التي قادت إلى اتفاقية السلام الشامل بل هو في الواقع مبرر وجودها الايديولوجي منذ عام 1989م. لقد قامت الحكومة بعد كل شيء بتنفيذ انقلابها لكي تمنع حدوث صفقة سلام محتملة بين حكومة الصادق المهدي المنتخبة آنذاك والجيش الشعبي لتحرير السودان وهي صفقة كان يُعتقد أنها ستشمل إلغاءً محتملاً لقوانين الشريعة الكائنة التي تُعرف بقوانين سبتمبر والتي أدخلها الحاكم العسكري السابق جعفر نميري في عام 1983م. وقد استولت الجبهة الإسلامية القومية على السلطة في عام 1989م بنيَّة فرض قوانين شريعتها وحاولت أن تفعل ذلك بوحشيةٍ كبيرة في الفترة الأكثر قمعاً في التجربة السودانية الشمالية منذ الاستقلال وفي ذات الوقت الذي كانت تبذل فيه جهداً مُنظَّماً لسحق الجيش الشعبي لتحرير السودان في الجنوب. وقد باءت الجبهة الإسلامية القومية بالفشل في كلتا محاولتيها لأنه وفي الوقت الذي كان فيه الجيش الشعبي لتحرير السودان يقاوم مقاومة ناجحة لم يستطع النظام استقطاب الأفئدة والعقول في الشمال برغم المحاولات التي كانت تقودها الدولة للقيام بذلك، فالحكم الآيديولوجي كان يحتاج إلى فرض نظامه العقائدي أو إقناع الناس به. ورغم سنوات القمع كانت هناك معارضة مستمرة بالتعاون مع الجيش الشعبي لتحرير السودان مع نهاية التسعينيات، وبرغم محاولات النظام لإقرار سيطرةٍ جديدة من خلال النظام التعليمي لكن الانتماءات التقليدية ظلت راكزة. ورمزياً بدت التجربة تنتهي في عام 1999م بإزاحة حسن الترابي من السلطة إذ كان الترابي يمثل لمدة طويلة دور الموظف السري لكل المشروع الإسلامي في السودان. وبدلاً عن ذلك وبمساعدة دخول النفط في ذات العام تحول حزب المؤتمر الوطني خليفة الجبهة الإسلامية القومية إلى مناهج أكثر تقليدية في بناء علاقات المحسوبية (في الوقت الذي كان يركز فيه على القوة حيال الصراع الناشب في دارفور). وشمل هذا جزئياً الاعتراف بعدم تجانس الإسلام في السودان مع وجود هيئاتٍ تتراوح ما بين الصوفية التقليدية إلى السلفية المستوردة حديثاً مع اتجاهاتٍ عديدةٍ أخرى، وقد رأى البعض في هذا بما فيهم المزروعي إسلاماً إفريقياً شاملاً يعكس قارةً باتت الصوفية رائجةً فيها ومنتشرة انتشاراً واسعاً لعدة قرون مروراً بظهور سلفية الجزيرة العربية التي انتمى إليها كثيرٌ من السودانيين عندما كانوا يعملون هناك.
إن المنهج المأخوذ الآن غير واضح، فبعض الأصوات الصادرة من حزب المؤتمر الوطني ذات طبيعةٍ تهديدية توحي بعقد النيَّة على فرض قانون شريعةٍ صارم ولكن في ذات الوقت نجد الحكومة قد سعت إلى التقرب من الأحزاب والمجموعات السياسية الأخرى ذات القاعدة الإسلامية وإلى القيام بدمجها ولو بصفة ثانوية. فهل يوحي هذا الأمر بتبني منهج توافقي لبناء الدستور الإسلامي الذي جرت محاولته في مطلع التسعينيات؟ وهل يشي بضرورة محاولة استقطاب مشاركة أكبر من قبل نظامٍ ذي قدراتٍ محدودة ويواجه الآن انكماشاً اقتصادياً متوقعاً؟ أم أنه مجرد تحريفٍ للحقائق في الوقت الذي يعمل فيه حزب المؤتمر الوطني في آنٍ معاً على الدخول في تسوية مذلة للمعارضة وإضعافها؟ لكن من الواضح أن انفصال الجنوب لا يمثل نهاية مسألة الدين والسياسة في السودان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.