"ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    تايسون يصنف أعظم 5 ملاكمين في التاريخ    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    دبابيس ودالشريف    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان بعد انفصال الجنوب: انخفاض حالات التهميش المتعددة (2/2)
نشر في الصحافة يوم 19 - 03 - 2012

بيتر وودوارد جامعة ريدنغ، المملكة المتحدة
ترجمة: سيف الدين عبد الحميد
التعليم واللغة والتهميش
المزروعي كاتبٌ ظل يمثل له البُعد الثقافي للسياسة جانباً مهماً لذا فلا غرو أن رأى التهميش المتعلق باللغة جزءاً من «حالات التهميش المتعددة» في السودان، ففي إفريقيا جنوب الصحراء كانت لغات التعليم الرسمية المهيمنة هي اللغات الاستعمارية السابقة اللغتين الإنجليزية والفرنسية في حين كان للغة العربية دورٌ مهم تلعبه في شمال إفريقيا. وقد شهد الحكم البريطاني للسودان اللغة العربية وقد احتوت أساساً على المستوى قبل الثانوي في حين أن التعليم الإرسالي في الجنوب استخدم اللغة الإنجليزية للتعليم المحدود الذي أصبح متاحاً. وكانت النتيجة انقساماً واضحاً تهميش شمال/ جنوب أقل من كونها حصيلة ازدواجية ثنائية. لقد نالت النخبة السودانية تعليمها في اللغة الإنجليزية على المستوى الجامعي في حين أنها نُشِّئت على استخدام اللغة العربية باعتبارها اللغة الأولى للبلاد، أما أفراد النخبة الجنوبية فيعتبرون اللغة الإنجليزية هي لغتهم المختارة في حين أن لديهم إلماماً عاماً باللغة العربية مع وجود نسخة محلية كثيراً ما يُشار إليها ب»عربي جوبا» منتشرة انتشاراً واسعاً في الدولة الجديدة. أضف لذلك أن النخب في الجنوب على وجه الخصوص وفي أجزاء من الشمال أيضاً ربما كانوا متضلعين في اللغات واللهجات المحلية.
إن الجوانب البراغماتية للسياسة اللغوية مفهومة: فلقد أشار بعض الأساتذة الجامعيين مثلاً إلى أن معايير اللغتين الإنجليزية والعربية باتت تتدنى منذ الاستقلال، وبالتالي فإن هذا في حدِّ ذاته أثار قضايا اللغة في التعليم الثانوي والعالي. وعلى أية حال فقد دخلت وجهة النظر السياسية في الجدال مع ظهور الصراعات في الجنوب، وكما أشار المزروعي فإن التعليم الإرسالي قوبل بهجومٍ من نظام عبود الذي سعى أيضاً إلى تعزيز اللغة العربية باعتبارها وسيلة للتعليم في الإقليم. وبعد إنقلاب عام 1989م كان هناك برنامج تعريبٍ عاجل في كل النظام التعليمي مصحوباً بتوكيد جديد على التعليم الديني الذي يُظهر وجه الإسلام في الأساس. وقد رأى كثيرون في ذلك جزئياً على الأقل محاولة لإقرار «هيمنة إسلامية» تتمخض بمرور الوقت عن «إنسانٍ سودانيٍّ جديد». إن المسألة التي تلت انفصال جنوب السودان هي مسألة اللغة التي تم تبسيطها الآن، وبشكلٍ ما فإن الجدل بالنسبة للسودان قد لا يتغير كثيراً، فالشيء الكثير سيعتمد سياسياً على مدى محاولة حزب المؤتمر الوطني الحاكم للرجوع إلى بداية التسعينيات ومواصلة عملية تعريبٍ أكثر، ولكن فوق ذاك الاحتمال ستظل القضايا البراغماتية للغة مستمرة. هناك اعترافٌ بالأهمية المتواصلة للغة الإنجليزية وبالأخص في عولمة التعليم العالي، وسيبحث كثير من الطلاب عن تعليم اللغة الإنجليزية سواءً داخل السودان أو في الخارج. ورغم ذلك ومع الإمكانات المحدودة لإتاحة اللغة الإنجليزية ومع النمو المتسارع للشباب فإنه من غير المرجح بالنسبة للكثيرين أن يتجاوز الواقع التعليمي مدىً أبعد من اللغة العربية وربما بحواجز تمييزية وبغيضة تجعل الناس ينظرون بشكلٍ غير متكافئ إلى نجاح المحظوظين من ذوي التعليم ثنائي اللغة.
وماذا عن اللغات المحلية التي ربما كان لها دورٌ مهم لتلعبه في الحياة اليومية المحلية وربما في التعبير عن الشئون الجهوية. فهل يُنظر إلى هذه اللغات باعتبارها لغاتٍ هامشية أم سيكون لها دورٌ تلعبه؟ إن كثيراً من العلماء التربويين ظلوا يخشون اضمحلال اللغات الأصلية وأحسوا أن هذه اللغات يجب المحافظة عليها بطريقةٍ ما. وفي الحقيقة كان المؤتمر الذي خاطبه المزروعي قد استضافه ما أصبح يسمى بمعهد الدراسات الآسيوية والإفريقية التابع لجامعة الخرطوم والذي لعبت فيه دراسة اللغات دوراً مهماً.
التهميش الاقتصادي
لم يصنف المزروعي عام 1968م التهميش الاقتصادي باعتباره عاملاً، ففي تلك المرحلة ربما بدا مشروع الجزيرة يدين بالكثير للاستغلال الاستعماري البريطاني أكثر مما يدين للاتجاه الذي نحته الحكومات التي تلت استقلال البلاد. ولكن كان لذلك أن يتغير خاصة بالنتيجة إلى التطورات التي حدثت في العقود التالية في الوقت الذي كان فيه السودان يسعى إلى أن يصبح مصدراً للنفط وسلة غذاءٍ للعالم العربي. وفي الأوقات الأخيرة كان الحديث الذي يدور حول «مثلث حمدي» مستقبل اقتصادي قائم حول تنمية المنطقة المركزية للبلاد مع قليل اهتمام بالمناطق النائية يُذكِّر بالتهميش. ومثل ذلك أيضاً كانت هناك المحاولة لتشجيع موجة جديدة من الاستثمار الأجنبي في الزراعة مع الأخذ في البال أن التوسعات السابقة في الزراعة المروية والزراعة الآلية المطرية قد صحبها نزوحٌ وسخطٌ محلييْن بما في ذلك اقتراح دعم الحركة الشعبية/ قطاع الشمال في مناطق كجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان.
منذ دفع عجلة النمو الاقتصادي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات وجهت حركات المعارضة السياسية النقد باستمرار للتنمية الاقتصادية للبلاد خاصة إذا كانت تلك الحركات قائمة في ما أصبح أحياناً يوصف ب»المناطق المهمشة». وقد شهدت الستينيات مثل هذه المحاولة التي قامت بها الحركات لكي تظهر نفسها داخل العملية السياسية خاصة بعد ثورة أكتوبر عام 1964م بيد أنها أحرزت تقدماً قليلاً في ذلك الوقت مع فرض الأحزاب الطائفية السيطرة من جديد على النظام السياسي. ولكن بروز الجيش الشعبي لتحرير السودان عام 1983م حمل أهمية جديدة للقضايا الاقتصادية للتهميش، ومن ناحية آيديولوجية ربط النقاد ذلك بالدعم الذي تلقته الحركة الجديدة من نظام منقستو المدعوم سوفيتياً في إثيوبيا رغم أن القضية كانت واضحة جداً بالنسبة لقائد الجيش الشعبي لتحرير السودان جون قرنق كما أوضحت أطروحته للدكتوراه. ولم يكن الاقتصاد هو القضية الوحيدة في بيانات قرنق الأكثر شعبية ولكن فهمه للاقتصاد كان واضحاً في الطرق التي استهدف بها الجيش الشعبي صناعة النفط بالهجوم على بانتيو ومشروع قناة جونقلي المصمم لتطوير الزراعة الشمالية (وأيضاً الزراعة المصرية)، وقد ساهمت كلتا الخطوتين الهجوميتين في الزيادة السريعة في ديون السودان الخارجية التي ظلت تمثل قضية فيما بعد. وظهر نقدٌُ مماثل في دارفور خلال التسعينيات وسط المجموعة التي أصبحت تعرف بحركة العدل والمساواة، وكانت حركة العدل والمساواة قد تبنت في مايو عام 2000م نشر «الكتاب الأسود: اختلال السلطة والثروة في السودان» والترويج له في السودان حيث عكس الكتاب الهيمنة السياسية والعنصرية والاقتصادية لثلاث مجموعاتٍ عرقية من الشمال النهري وهي الدناقلة والشايقية والجعليون. وعلى حدِّ تعبير فلنت وديوال فإن «الكتاب أوضح أن كل مناطق السودان الأخرى [لا دارفور فقط] كانت مهمشة على نحوٍ صارخ». ولكن لم ينتهِ الاعتراف بقضايا التهميش الاقتصادي في مناطق السودان النائية مع توقيع اتفاقية السلام الشامل وانفصال الجنوب، فبدلاً عن ذلك ضُمِّنت القضايا الاقتصادية بالشروط التي وافقت عليها حكومة السودان فيما يتعلق بجهديها الكبيرين لحفظ السلام في الشمال وهما اتفاقية سلام شرق السودان عام 2006م واتفاقية سلام دارفور عام 2011م. وليس المقام هنا مقاماً لمناقشة أية اتفاقية بالتفصيل ولكن الاعتراف بالحاجة لهذه الاتفاقيات واحتوائها على مسائل اقتصادية مهمة يشير إلى المدى الذي أصبحت فيه القضية تمثل جانباً من جوانب التهميش. ولكن حتى إذا تم تنفيذها فلن يكون ذلك نهاية القضية بالنسبة إلى التنمية الاقتصادية كما يدلُّ على ذلك سدُّ مروي الذي بُني اخيراً حيث أثار شكاوى مماثلة وسط بعض المجموعات المحلية في الروافد الشمالية للنيل.
حدود التكامل
رسمت ورقة المزروعي التي أعدها عام 1968م تمييزاً واضحاً بين الشمال والجنوب حين كتب قائلاً: «تشكل العلاقات بين الشمال والجنوب إحدى أزمات الانشقاق الأكثر حِدَّة في القارة الإفريقية قاطبة». وفي المقابل كان المزروعي يعتقد ب»أنك إذا أخذت الإقليم الشمالي المهيمن لوحده معياراً تجد أن السودان هو أحد البلدان الأكثر تكاملاً في إفريقيا». واستشهد المزروعي بما أورده يوسف فضل حسن في عزو ذلك إلى انتشار الإسلام واللغة العربية في الشمال، الشيء الذي خلق على حدِّ تعبير يوسف فضل «شعوراً من التماسك وسط سكان البلاد متغايري الخواص». وأيد المزروعي وجهة نظره عن الشمال بالرجوع إلى ثورة أكتوبر 1964م على وجه الخصوص التي لم تعكس شعبية الدعوة إلى الرجوع إلى الحكومة الديمقراطية فحسب بل عكست قبول ذلك من جانب نظام عبود بالتنحي من ناحية وعدم الانتقام من الحكام السابقين من ناحية أخرى بمجرد أن نجحت الثورة (وكثيرٌ من الناس نظروا إلى الانتفاضة التي أطاحت بنظام نميري بضوءٍ مماثل). ولكن ربما يسأل سائل إلى أيِّ مدىً استمر هذا التوافق عبر السنين، فقد كانت هناك بالطبع محاولات شملت محاولات إثارة ربيع عربي شعبي في السودان في 2011م. وربما يقال إن عدم نجاح الثورة بالمقارنة مع عامي 1964م و1985م يعكس زيادة التدابير الأمنية في المناطق الحضرية تحت نظام 1989م الذي تبناها بمساعدة نظرائه الإيرانيين المتمرسين، ولكن يمكن أيضاً أن يسأل سائل مفترضاً صحة وجهة نظر المزروعي إلى أيِّ مدىً ظل التوافق الذي انتبه له المزروعي باقياً؟ فقد كان هناك رأيٌ في الثمانينيات فحواه أن التوافق الاجتماعي مرتبط باستشراء هوية سودانية كانت في الأساس نتاج مناطق الشمال النهرية، وهي هوية انداحت إلى مناطق الشمال الأخرى على الأقل، وكان أحد سبل اندياحها من خلال نمو التجارة المرتبطة ارتباطاً واضحاً بالقوة الاقتصادية والاجتماعية للجلابة. وكان يعزز ذلك الوجود غير المتجانس لأولئك المنتمين للمناطق النهرية في الحكومة المحلية (حيث تم تعيين المسؤولين بأعدادٍ متزايدة عندما تم في السبعينيات إلغاء الإدارة الأهلية التي أسسها البريطانيون) وفي التعليم (الذي توسع بسرعة) وفي بقية المهن.
وعلى أية حال ناقش آخرون الأثر التكاملي لانتشار الشماليين النهريين في المواقع الأخرى وأشاروا إلى أن وجودهم في هذه المواقع ربما يثير مشاعر مضادة لشخصية جهوية أو عرقية بل طبقية تساهم في الاستخدام مصطلح «التهميش» الانتقادي الذي يستخدمه زعماء الحركات الجهوية. وبالأخص وكما سلف الذكر فقد كان هناك اضطرابٌ وصراعٌ في كثير من المناطق التي تصور نفسها باعتبارها «مهمشة». ونظرياً كان القصد من تطبيق الفيدرالية أن تصبح هي الحل، ولكن الأمر المفتوح للنقاش هو ما إذا كان هذا يعني الفيدرالية التي تنزع نزوعاً في اتجاه الأنموذج الأمريكي أم الأنموذج السوفيتي، وفي الواقع أن ازدياد الصراع يوحي بأن الأنموذج الفيدرالي كان فاشلاً في عددٍ من المناطق على الأقل. و تؤيد تلك الفكرة في الحقيقة الحاجة إلى خلق مزيدٍ من التقدم كما في اتفاقية سلام شرق السودان واتفاقية سلام دارفور. ويبدو في المستقبل المنظور على الأقل أن أية أفكار لتجانسٍ أكثر لأهالي الشمال من النوع الذي كان شائعاً وسط طلاب نظريات الحداثة في الستينيات بات باقياً رهن الانتظار، وبالتالي فإن كان لمستوى الصراع أن يُقلل فيجب تكييف الجهوية وتوفيقها. لقد قاد انفصال الجنوب إلى حديث أكثر عن الانقسامات في السودان كما هو مرسخٌ الآن، ولكن من المحتمل أن يكون ذلك أقل قبولاً من جانب المجتمع الدولي الذي يمكن له أن يمارس حق نقضٍ حقيقي: فبلاد الصومال كانت لها دعوى أقوى من جنوب السودان للاعتراف بها فيما يتعلق بالحكم بيد أنها باتت غير معترفٍ بها بعد 20 عاماً من تأسيسها. ويبدو أن الانتقال الأكثر فاعلية هو الطريق الوحيد إلى الأمام بما يقتضيه ذلك اقتصادياً لا سياسياً فحسب، فمن السهل أن تكون هناك جهود لربط ذلك عملياً بتوسيع الرقابة الحزبية مثلما يبدو جارياً في إثيوبيا في الأعوام الأخيرة (ومثلما هو سائد في حليف السودان اللصيق الصين)، ولكن ما يمكن له أن يتجذر في بلدٍ ما قد لا ينجح بالضرورة في بلدٍ أخرى. وقد لا يزال السودان هو بلد الجهويات ولو أنها جهويات يتعين عليها أن تتعلم العيش معاً.
جنوب السودان: أهي ذات القضايا أم قضايا مختلفة؟
هناك خطورة من أن جنوب السودان ربما يبدو في طريقه لأن يختار البحث عن هويةٍ تنزع إلى توكيد التهميش الماضي، ففي أيام استقلال الجنوب في يوليو 2011م طرح الرئيس سلفا كير قصة هويةٍ بدا أنها تعتمد بقوة على موقف الدولة الجديدة فيما يتعلق بتجاربها المتعاقبة التي فُرضت على الجنوب والتي كان عليه أن يقاوم بها. وكانت أول إشارة أطلقها سلفا كير موجهة إلى تجارة الرقيق في القرن التاسع عشر خلال الحكم التركي/ المصري والمهدية والمقاومة التي أبدتها المجتمعات المحلية. وكانت الفترة الثانية هي فترة الحكم البريطاني خلال الحكم الثنائي والذي قاومته بعض المجتمعات الجنوبية بضراوة في بعض المناطق (وعندما قمع البريطانيون المقاومة ساهمت سياساتهم في السودان في غياب التنمية والتي ساهمت في التهميش الشامل في المدى الطويل). وأتت الفترة الثالثة مع الاستقلال والمقاومة المسلحة في حربين طويلتين ضد الهيمنة التي حاولتها الحكومات المتعاقبة في الشمال. إن استعراض سلفا كير لمقاومة العدوان الخارجي يعتبر أمراً مفهوماً في سياق الظروف التي كان يتحدث فيها، فكثير من الساسة يلجأون إلى استقطاب التأييد بتحديد عدوٍّ خارجي وتأكيد وجوده سواءً أكان هذا العدو حقيقياً أم خيالياً. والأمر المقلق هو أساس رسالته المحدود فيما يتعلق بالدولة الجديدة، فبادئ ذي بدء تعتبر رسالته استفزازية كونها تطلق في وقتٍ يوجد فيه عدد من القضايا العالقة مع الجار الشمالي الجديد وبعض هذه القضايا له ارتباط بالصراعات الحالية على كلا جانبي الحدود. ثانياً، هذه الرسالة تنظر إلى الوراء في وقتٍ يجب فيه على جنوب السودان أن يتطلع إلى الأمام فيما يتعلق ببناء هويته. ثالثاً، لم تعكس الرسالة إلا القليل لتحديد هوية جنوب السودان فيما يتعلق بالتعاطي مع مستقبله.
إن قضايا التهميش ستكون مختلفة الآن ذلك أن جنوب السودان يعتبر دولة مستقلة ولكن لا يعني هذا أن المواضيع التي تطرق إليها المزروعي ليست ذات صلة، فمن الواضح أن الجنوب يحدد نفسه بحسبانه جزءاً من العالم الإفريقي بدلاً عن العالم العربي ولكن ما يعنيه هذا ما يزال واضحاً أنه في مرحلة تطور أولية. وهذا ليس معنياً فحسب بالتجمعات الإقليمية المرتبطة به أو غير المرتبطة بل معنياً بالعلاقات مع الدول العربية غير السودان. وواضح أن عدداً من الدول العربية أومأت سلفاً إلى رغبتها في العمل مع الجنوب، ولكن في المقابل أكد الجنوب استقلاله أيضاً بالخطوات التي اتخذها كزيارة سلفا كير لإسرائيل في 2012م والتي يجب أن تعتبر مفاضلة تمييزية بالنسبة للدولة الجديدة بحكم الانتقاد المتوقع الذي تلقاه سلفا كير من السودان.
قضايا الدين ليست غير ذات صلة أيضاً لأنه ورغم أن هناك أقلية من المسلمين في البلاد الجديدة فما تزال الأسئلة تثار حول الطوائف المسيحية المختلفة مثل بعض الوافدين الإنجيليين الأمريكيين الذين وصلوا أخيراً من الذين رأوا أنفسهم كما تقدم ذكره في الطليعة في صراعٍ بائن مع العالم المسلم. ويمكن أن تكون هناك أسئلة أيضاً حيال المسيحية فيما يتعلق بتعابير الأديان الإفريقية التي تبدو ماثلة بكثافة داخل البلاد. إن التهميش الاقتصادي قد يتخذ أيضاً شكل هويةٍ عرقية لا سيما عندما يستحضر المرء الاتهامات التي وُجهت إلى هيمنة الدينكا المزعومة في السبعينيات والمزايا الاقتصادية التي يستمدها هذا التجمع العرقي الأكبر في الجنوب من الهيمنة الاقتصادية. وقد يكون هذا في المستقبل القريب مرتبطاً بقضايا تدور حول المستفيدين من الثروة النفطية. ومن الملاحظ أيضاً أن عدداً من صفقات الأراضي التي قيل إنها تؤثر على 9% من البلاد قد شوهدت وهي تعقد مع المستثمرين الأجانب والتي من المرجح أن يكون لها أثرٌ على المجتمعات المحلية بطرق قد تكون سلبية في الأسلوب عندما ينظر المرء إلى مناطق مثل النيل الأزرق وجبال النوبة منذ السبعينيات. فبالنظر إلى غياب التنمية في الجنوب فإن كثيراً من ذلك يكون موضع تفكر ولكن كثرة الصراعات العرقية في الدولة الجديدة والتي أعلنت منذ الاستقلال تشير إلى حساسية كل هذه القضايا، وهي قضايا يرتبط كثيرٌ منها ارتباطاً واضحاً بقضايا الموارد.
خاتمة
الخاتمة هي أنه قد لا توجد نهاية لقضايا التهميش والهوية في البلدين المنفصلين الآن، ولكن الانفصال يعني أن تلك القضايا ستناقش في سياقاتٍ جديدة وبالتالي بدينامياتٍ مختلفة. وهذه المناقشات تظل سرمدية لأنه لا توجد نهاية بيد أن هناك تغيرات في ما أصبح أوضاعاً متطورة، فمهما تكون درجة الخصومة كبيرة عندما تنفصل دولة ما (فعقودٌ من الصراع لا تحسم بسرعة) فإن عملية الانفصال تظل معقدة وخطيرة. إن من الطبيعي أن تكون لك الرغبة في التطلع إلى إعادة صياغة الهويات في المستقبل ولكن المستقبل يحمل معه أيضاً أثقال الماضي، فقضايا التهميش في كلا السودان وجنوب السودان ستظل مستمرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.