مدخل: مازال للمدينة غناؤها الرطب ومازال حزنها وجَّاعاً!! (1) بحر أم درمان (غريق): بمثلما يمنح (الفرح النبيل).. وينقشه تذكاراً، في دروب (المدينة)، يمتد ذلك (البحر الصحاب)، إلى قطوفه الدانية، من أصحاب الأجل الماثلك (للبكا) - في (أم درمان)، طقوسه، وآدابه، ليس، كأي مدن أخرى: تشهد ساحات (أحمد شرفي)، و(البكري) و(حمد النيل)، سيولا، من البشر: الحزن العميق، تبديه العيون الرقراقة ولا يمنع ذلك ابتسامات مقتضبة، أو ربما تجاوزت الاقتضاب، و(للعمامات) و(الطواقي)، في يومها ذاك لغة مبهمة، يتصدى لتفسيرها بعض أقذاذ المشاركين في (الدافئة)، نهار الصيف لايرحم، وللعرق النفاذ رائحة، وبعض صيحات توجه الناس.. بما يضفي شيئاً من الرهق.. - يكورك شيخ (أحمد): - الصلاة.. يا ناس الصلاة - صلح العنقريب.. خليه على القبلة شوية شمال.. أيوه - صلي بينا.. يا شيخ الطاهر - لا الشيخ قال جاي وبالفعل يجئ (الشيخ)، ليبدأ بعدها، بكاء حاراً.. لقادم، من بعيد تبدو عليه وعثاء السفر.. - ديل ناس (أم روابة). (2) كان (عثمان) ود بت النور، يبكي في مرارة، فراق والده الذي شكل مع والدته، عقداً نضيداً، من عقود (أم در)، علمت (أم درمان)، عشقهما النبيل، وعلمت (أم درمان) كيف (؟؟؟) شيوخها أن يرزقا (ولداً أو بنتاً) يبل الشوق، خيال (عثمان) تجاوز (المقابر والفاتحة)، كانت خالته (سكينة)، المصادمة، تقول كلاماً منظماً رائعاً، ترثي فيه والده، توبها (الساكوبيس)، تستدير في مساحاته، دوائر شاحبة، تمزح بزيوت الطبيخ... كان (أحمد ود البتول)، يصرخ، في قوة، خائرة - ادخلني جوة.. (خنقته) العبرة، دا امر الله.. كانت ردود الفعل، على غير المتوقع، اندفعت (سكينة) نحوه، في انفعال عنيف، وهي تصرخ في حُرقة: - ووب.. حي ووب.... وووب.. الليلة انت يالحنين.. فكان المزيد - من النواح يشكل في (الحي) لوحة الحزن الجميل... ذرفت بت النور دمعاً سخيناً على رفيق دربها، كان جمالها في لحظة الحزن.. مسكوناً بالرهق المثير والعفاف الطاهر، مرقت، من خاطرها - سكاكين الذكرى، كان الشريط، في ذاكرتها، يواسي بؤسها، وكانت (سكينة) شقيقتها الجميلة، مازالت ترشق، كل الاذان، تراتيلا من كتاب الموت في (أم درمان)، وكان رجع صدى (ود الفكي)، في دمعاته الوقورة.. تجاوزاً لحرمة (بيت البكا): هذه التي ستسفر في موقف حزنها، عن شعرها الأسود ومسيرتها التي ترقد، في اهمال، غير مقصود: هي ذات بت (البيان)، عند مكي ود عروسة، لماذا رفضته وهو التاجر (القيافة)، لماذا لم يكن أهلها تجاهه، تعاطفاً، رغم (فقرهم)، قال له (ود الحسن)، المشهور بصراحته: - العبادي ما قال عينهم مليانة.. (3) في زحمة المأتم، تبادل الرجال الذكريات، في مرارة، (فسكينة) التي وصفها بعض أفندية ذلك الزمان، بأنها ذات لون بهي of agolden yellow colour!! كانت من غير نصيبه رضى بقسمته في (زعل) شديد - امتد إلى (حساسية)، فرحل من حي (البيان)، حين فاجأه (عثمان)، وهو يسأل في احترام.. - يا عم ابراهيم... (يقصد ود الفكي)... ناس خديجة دايرين يشيلوا معاك الفاتحة.. كانت نظرة (ود الفكي)، تعبر الزمن، وتهجر المكان وتسافر إلى بعيد.. ولم تأخذ الفاتحة مع ناس (خديجة) غير لحظات قليلة، اشعلت رحلة السفر، إلى حفلة عُرس القمر... وفيها (سكينة) وتحدياتها الجاسرة.. وعيونها (القواطع) لماذا مزجت (سكينة) نواحها في ذلك العرس، اجمل غناء صياع أم درمان، ترهق (عتيق) في كبرياء ؟؟؟؟ في اعتداد (قوة عينه) وكان (ود البارودي)، العريس، جميلاً، فارساً، في ثوب (السرتي) الفضفاض، تتمناه ؟؟؟؟؟ (القلعة) وظباء (بيت المال) امتلأت عيون (ود الفكي) بالدمع الهتون، وهو يتابع في صحو غريب مناحة (سكينة) في فضاء ذلك اليوم.. (4) وما أحلى ديك مناظر... فيها (البيان) تجلى بين مسفرات أهلة ونخبة عرب اجلة ناس عليها فرحة.. وناس طريحة جرحى وناس قلوبها آسرة وألف ألف عاشق - يذوب غرام وحسرة.. غزال عيونه كاحلة... رشيق قوامه وأحلى ملك زمام فؤادي... وترك عضاي ناحله ما أحلى ابتسامه يسحرني ارتسامه ويسكرني راح كلامه اخترق الحزن - قلبه اختراقاً - وكأن جراح الكلمات تطعن في قسوة - ذاكرة (ود الفكي)... ويردي في داخلها.. مركز الشعور والاحساس.. تثاقل الجسم.. وبردت الأعضاء... ندت عن شفتيه آهة حرَّي، وارتسمت الشهامة في محياه.. قبولاً وصبراً حين لم يحتمله كرسي البكا.. سقط (ود الفكي) مسجياً.. صرخت (سكينة..) ازداد.. بكاؤها حرقه... ونحيباً: كانت وجعاً يعتصر الوجع: أحى يا ود أمي.. يا حليلك.. وووب... حي... حي.... حي ووب مضت (بت النور) تذكر في حزن عميق، كل أول ليه آخر.. (إنا لله وإنا إليه راجعون). يتساءل الناس في أم درمان - عن (وجعة) حي (البيان) وحمل الليل في تلك الأمسية نواحاً غريباً استغرق (سكينة) واندلق حزناً (كثيفاً).. على داخلها المرهق.. كانت (القنجة) الثقيلة.. تحجب الاحساس.. ازدحمت مقابر أحمد شرفي.. وهي تدفن «ود الفكي» (5) في زمان بعد ذلك الزمان - التقى في دكان (أبي) - عليه رحمة الله - خلف دكان (هريدي) - وفي زقاق ضيق عند (قهوة شديد) - بعض سماسرة السوق تميزوا بالاناقة والملابس النظيفة والذكاء الحاد، وبعض المرح ذكروا فيما ذكروا.. (حي البيان) - وترحموا على صديقهم (ود الفكي) - تندروا بقفشات (ود السرة)، كانوا عصبة تحاول - أن تبني نفسها - على حشوة الحياة. - (سيد كبريت) حكى شيئاً عن قرينته (بنت النور): كانت بت ناس - قال (عبد الرحمن ود حجة) - نقلاً عن شقيقه (محمد شيال الأغاني - بعضاً من قفشات (ود السرة): كان (حبرتجياً) - عبد الله محمد الفاضل.. (ود رقية).. سأل عن (عثمان) عامل شنو.. - (ود الصادق) حلف بالطلاق.. ان يدفع له مصاريف المدرسة - حين مرَّ (نمرة واحد) على جلستهم الصباحية - شاركهم فنجان القهوة.. التي كان يدق (بنها) «شلبي» في (قهوة شديد) لم يقل شيئاً كثيراً - لكن نقل إليهم - ضرورة عمل كشف.. فالأسبوع القادم.. عرس ود بت النور (عثمان).. إلى بنت خالته (سكينة)! خفق قلب (السماسرة)، بكى (عبد الله ود الدبل) كعادته - وضحك في بكاء (سيد طه).. وتولى «الحواته» إعداد الكشف - ومضى به إليهم على (كرار عبد المؤمن). (كتب هذه الخواطر في قهوة منيستير في مدينة رين شمال غرب فرنسا - مايو 1976).. إضافات (1) قبل وفاة الشاعر عتيق بشهرين - كنت معه في منزله بحي أبي روف حكى كثيراً - كعادته في صراحة.. حين أتى على ليلة عرس البارودي.. وحضورها.. ثقلت حروفه لم يقل شيئاً كان محياه يجسد الحزن - سافر وجدانه بعيداً وقبل أن أستأذنه خارجاً جاب (سيرة) ليلة عرس (البيان)، ترنم - وهو غارق.. في حلم بعيد.. بعيد ٭ الجنان في الدنيا والليالي تدور ٭ أم دي ليلة وجمعت بين شموس وبدور ٭ أم دي ليلة القدر الفيها زي ماتدور العفاف والرقة و(القدارة) تدور سكت هنيهة.. ليقول لي: - الغُنية دي.. غناها (الأمين برهان) سنة 1932.. وحين سجلت في (القاهرة) شال معاه حاج سرور.. وكرومه (2) كان ليل (أم درمان) في يومه ذاك يبترد حزناً طاغياً.. ويلملم أطياف فرح قادم: وكان خروجاً شيقاً من نص.. تراجع ليسكن (حشا بت النور).. وهي تستعيد - في داخلها.. الألق القديم.