استغرب كثيرون من التوجه الأخير للحكومة السودانية نحو التقارب مع دولة جنوب السودان ومحاولة بعث روح جديدة ظهرت جلية أثناء الزيارة الأخيرة لوفد دولة الجنوب للخرطوم، والتى جاءت لتقديم الدعوة لرئيس حكومة السودان المشير البشير لزيارة جوبا ولتوقيع بروتوكولات الحريات الأربع، وإتفاقيات أخرى لم تتضح ماهيتها حتى الآن وربما تكون ذات علاقة بإنهاء الأزمة فى جنوب كردفان والنيل الأزرق، وكل ذلك فى إطار التحول الكبير المتوقع أن تشهده العلاقة بين الدولتين فى المستقبل القريب، وجه الغرابة أن أدار الطرفان مباحثاتهما الأخيرة بالخرطوم والتى توجت ببيان مشترك يحمل قدرا غير قليل من الإخاء والود والثقة، حيث أكد فيه الطرفان رغبتهما في بناء علاقات جوار حسن يؤسس لتعاون مشترك منظور في المجالات الأمنية والاقتصادية والسياسية بينها، وليس ذلك فحسب بل اتفقا على ان الأمن المتبادل هو مدخل رئيس لبناء الثقة ومعالجة القضايا والتحديات الأخرى. والسؤال المطروح: هل هذا التحول الأخير جاء من دوافع إستراتيجية من قبل الطرفين أم انه تكتيك سياسى إقتضته ضرورات المرحلة نتيجة ضغوط خارجية ؟! ذهب محللون إلى أنها ضغوط أمريكية جاءت عبر الإتحاد الأفريقى عززتها بقانون سلام السودان وحزمة أخرى من الضغوط تحت بند التدخلات الإنسانية والممرات الآمنة فى جنوب كردفان والنيل الأزرق والحظر العسكرى والإقتصادى ، ومذكرة التوقيف الجنائية لوزير الدفاع ، ورفع الدعم عن الجنوب ، ثم جاءت العين الحمراء الموجهة مباشرة للسودان وجنوب السودان أن يكف كل منهما عن تقديم الدعم للحركات المناوئة لكل منهما وإيقاف التصعيد العسكرى ، الا ان العميد م / محمد مركزو كوكو عضو البرلمان السودانى ورئيس اللجنة السياسية لأبناء جبال النوبة بالمؤتمر الوطنى يرفض أن يكون التقارب الأخير نتيجة ضغوط خارجية، وعلل كوكو ذلك لرؤية الطرفين لما يعود بالفائدة لمصلحة البلدين فيما لا يستبعد الدكتور/ فرح عقار القيادى بالمؤتمر الوطنى أن تكون هنالك ضغوطا خارجية قد مورست على الطرفين بحيث أن النزاع الذى يدور بالمنطقة قد أصبح مهددا للأمن والسلم الدوليين، ويرى العقار أن الملف الأمنى أهم هذه الملفات لأن التدخلات العسكرية من قبل الطرفين لدعم مليشيات مناوئة للآخر هى سبب المشاكل التى قادت لأزمة السودان . من جانبه ذهب الدكتور/ محمد الأمين خليفة القيادى بالمؤتمر الشعبى فى إتجاه مغاير تماما وقال ل(الصحافة) أن العلاقة البينية بين السودان وجنوب السودان قد ضاعت أصلا بسبب إنعدام الثقة بين الدولتين ، ويرى خليفة أن ما يجرى الآن من محاولات لإعادة الثقة بين الدولتين ما هو إلا ترميم دون أساس متين ولا يرى أفضل من أن يصفه ب(المكياج على وجه قبيح )، مبينا أن العلاقة بين الدولتين يجب أن تبنى على إستراتيجيات واضحة المعالم، معتبرا مايجرى بين السودان وجنوب السودان لا يعدو أن يكون تكتيكات سياسية وقال إنها لا تبعث على الثقة بينهما، معتبرا أن ما يجرى فى النيل الأزرق وجنوب كردفان من حروب ما هى إلا بسبب الفروقات الثقافية ، وعجز الحكومة عن إدارة هذا التنوع حتى ينعكس خيرا لأهل السودان ، معتقدا بأنها ستبقى هكذا وستقود الشعب السودانى لصراع ثقافى وسوء إدارة وربما تؤدى لحروب أكثر دموية أو نزاع بين الدولتين ، وعزا خليفة ذلك لذات المبررات التى ظل يروج لها أهل الجنوب أن جنوب كردفان والنيل الأزرق الأقرب رحما لهم. إلا أن منير شيخ الدين رئيس الحزب القومى السودانى الديمقراطى - مستشاروالى جنوب كردفان يرحب بشدة بالتقارب بين السودان وجنوب السودان ويقول إنه يخدم مصالح الدولتين وشعبى البلدين ، ويراه قد تأخر كثيرا ، مشيرا الى أن البلدين أحوج ما يكونان لهذا الإتفاق ليخدما مصالحهما المشتركة الأمنية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية . إلا أن أبشر محمد حسن رفاى الباحث الإستراتيجى والمحلل السياسى يقول إن العلاقة بين الدولتين حتمية حيث لا غنى لأحدهما عن الآخر، واصفا ذلك التقارب بالإستراتيجى، ودافع رفاى عن هذا الإتجاه بشدة قائلا حتى لو جاء على كتف التكتيك لأن القوة الكامنة بين الطرفين هى التى تدفعهما فى إتجاه الخير ، وانتقد رفاى تسمية المسائل مكان النزاع بالعالقة ضمن بنود إتفاقية نيفاشا ، وإعتبرها قضايا إستراتيجية مصيرية تحكم شكل العلاقة بين الدولتين ، ويعبر عن اعتقاده في أن نيفاشا أخطأت فى ذلك ، وينادي رفاى بضرورة أن يكون هنالك بروتوكول خامس يسمى بروتوكول القضايا الإستراتيجية ، إلا أن رفاى يستدرك قليلا ليقول إن الطرفين قد أدركا ضرورة حل هذه المسائل الإستراتيجية بمزيد من الجرأة والصراحة والوضوح ، فهي مسائل لن تحلها الطرق التقليدية ،ويقول ان البعد الإقليمى فرض حتمية المعالجة الآنية لها إذ ترى دول الإقليم ان إستقرار القارة الأفريقية يتعلق بمصير العلاقة بين السودان وجنوب السودان لأجل التنمية فى الإقليم ورفاهية إنسان القارة ، واشار الى ان فشل الدولتين يعنى فشل الإتحاد الأفريقى وقد يقود لتدخل دولى سافر يعود على المنطقة بوبال لا يحمد عقباه ، أما عن التدخلات الدولية في شؤون الدولتين فيقول رفاى إنها تحكمها ثلاثة منطلقات الاولى تمثلها الدول ذات النظرة الإقتصادية التي ترى أن مصالحها ترتبط بإستقرار العلاقة بين الدولتين، والثانية دول ترى أن عليها تعهدات لإنهاء الصراع نهائيا، وفئة ثالثة هم تجار حرب ويدفعون فى إتجاه إثارة الحرب بالمنطقة وقد أصبحت فى ظل الشفافية والوضوح والحلول السلمية لابد لها من تغيير تكتيكاتها. من جانبه اعتبر أحمد محمد هارون والى جنوب كردفان التقارب بين الدولتين الجارتين يأتي من ابعاد إستراتيجية وإن جاء فى شكل تكتيك سياسى وقال ل(الصحافة) فى حوار مطول ينشر قريبا أن الدولتين بلا شك كانتا دولة واحدة وشعباً واحداً وتجمعهما روابط إجتماعية وإقتصادية وثقافية راسخة، ويرى هارون أن الإنفصال أو كما يسميه البعض بالإستقلال كان يجب أن يدار بصورة حسنة لأجل مراعاة البعد الإستراتيجى للدولتين لأجل مصالح الشعبين ، رادا التناحر والتخاصم بل الحرب نفسها لظروف إستثنائية، مؤكدا أن التقارب وإن جاء فى شكل تكتيكى فلابد من الدفع به لتحقيق الهدف الأساسى وهو تحقيق الأهداف الإستراتيجية للبلدين.