في عام 4791م، حسب ما اذكر وكان قد خرجت من سجن كوبر بعد ان أمضيت عاماً كاملاً في الاعتقال التحفظي مع الاخوة الشيوعيين والديمقراطيين والاشتراكيين العرب «البعثيين كما كانوا يطلقون عليهم» عقب انقلاب المرحوم هاشم العطا وابتدأت مرة أخرى في مزاولة عملي بالمحاماة اتصل بي الأستاذ الطيب أبو جديري المحامي، وكان قد عاود نشاطه أيضاً بعد انقطاع، والأخ الطيب والذي يقيم الآن في لندن نسبة لمرضه، رد الله عليه العافية الكاملة ورده الى وطنه سليماً معافىً، كان عضواً في مركزية الحزب الشيوعي ومسؤولها في نقابة المحامين، وهو رجل رحب الصدر حلو الشمائل وديع في معاملته مع الآخرين، وهو ما يزال صديقاً مقرباً لي. المهم، في أحد الايام ونحن في المحكمة الجزئية بالخرطوم نمارس أعمالنا كالعادة أخذنا الطيب على جنب وقال في همس ان الاخ نقد يريد مقابلتك، وكان ردي الفوري، وهل هو موجود في السودان ولقد كنا نظن انه خارج القطر فاجابني الاخ الطيب انه موجود وانه يريد مقابلتي بصفتي مسؤولاً عن الاخوة البعثيين في امر لم يحدده له، فاجبته انني ارغب في مقابلة الاخ نقد، ولكنني لست مسؤولاً في حزب البعث، بل أنني لست عضواً في الحزب نفسه كما يعتقد الكثيرون رغم انني كنت الامين العام للاشتراكيين العرب الذي كان حزب البعث أحد مكوناتها. ولقد كانت هذه الحقيقة في ذلك الوقت ولم انضم لحزب البعث الا بعد ذلك بسنين عدة وفي بغداد ولعمل محدد لاسقاط نظام نميري القائم آنذاك وبشروط محددة تركته فيما بعد لعدم الإيفاء بهذه الشروط ولكن تلك قضية أخرى. المهم ذكرت للأخ الطيب انني يمكن ان اخطر مسؤول الحزب بحكم صلتي بهم لمقابلة الاستاذ نقد اذا اراد ولكن الاخ الطيب ذكر ان الاستاذ نقد يريد مقابلتك شخصياً، وعلى كل فهو سوف يعاود الاتصال بي ويخطرني بذلك. فعلاً وبعد عدة أيام ذكر لي الاخ الطيب ان الاستاذ نقد، عليه الرحمة، يود ان يقابلني أنا بالتحديد وبعد ذلك يترك لي أمر نقل الرسالة فيما بعد لمن اشاء. وكان الاخ نقد مختفياً في ذلك الوقت وسلطات الأمن تبحث عنه ومن يتعاون معه كذلك، فلقد رسم الاخ الطيب خطة المقابلة وبحكم ان الاخ الطيب كان يسكن في شقة مع عائلته في بداية شارع «3» بالعمارات من ناحية شارع محمد نجيب، وأنا أسكن في ذلك الوقت في نفس الشارع وعلى مسافة قريبة منه مع عائلتي، وفي منزل الوالد الشيخ شداد بالعمارات شارع «3» ايضاً. وغالبا ما اغادر منزلنا بعد الساعة الثامنة مساء للسهر مع بعض الاخوة في نادي الخرطوم الذي كان يقع خلفنا في شارع «1»، وكان الاخ الطيب عالماً بتحركاتي هذا ولقد طلب مني وبعد المقابلة الأخيرة بيومين أن أتحرك في نفس المواعيد وبالجلابية والعمة والطاقية ماشياً، ولكن بدل الذهاب الى نادي الخرطوم أذهب لهم في شقتهم في الطابق الثالث والتي أعرفها جيداً لمقابلة الأخ نقد. وفعلاً نفذت الخطة كما وضعها الأخ الطيب، وجدت الأخ المرحوم نقد في الصالون الذي نهض لمقابلتي هاشاً باشاً كعادته ولم يكن في الشقة سوى الاخ الطيب وحرمه السيدة نعمات عمر التي أشرفت على أعمال الضيافة. وأظن أن هذه المقابلة الأولى للمرحوم نقد خارج نطاق الحزب. رحب بي الأستاذ نقد وعانقني بحرارة ثم ابتدأ الحديث بشكري لمجازفتي الحضور لمقابلته في هذه الظروف الصعبة واعتذر لي عن اي ارتباك قد سببه اصراره في مقابلتي شخصياً في تنظيم القيادة بالنسبة لي الاخوة البعثيين، ولكنه ذكر لي انه رجل مطارد ولا يستطيع المغامرة بمقابلة الا من يثق فيه ويعرفه شخصياً جيداً وكذلك اختار مقابلتي تحديداً لذلك. وبعد ذلك قام بشكري وطلب تقديم الشكر لجميع الاخوة البعثيين «الاشتراكيين العرب» لمشاركتهم الاخوة في الحزب الشيوعي السجون والاعتقالات بصبر وجلد وبروح معنوية عالية، وان صمودنا وراء الاسوار كان يمده وبقية رفاقه بالقوة والاطمئنان ومواصلة النضال. ولقد شكرته على ذلك وذكرت ان واجب كل القوى الثورية ان تتضامن في وقت الشدة من اجل ديمقراطية وتقدم ورفاهية الوطن. بعد ذلك دخل الاخ المرحوم نقد في الموضوع الاساسي الذي طلب مقابلتي بشأنه، ولم يكن للغرابة يخص العمل الثوري في السودان، بل يخص وحدة قوى الثورة في العراق، بما يربط حزب البعث في السودان بحزب البعث في العراق، وذكر لي الاستاذ نقد، الذي كان ملما تماما بتفاصيل العمل الوطني في السودان وخارجه، ان هيئة الاحزاب الثورية في العراق، والتي كانت تضم آنذاك حزب البعث والحزب الشيوعي وبعض الأحزاب والقوى الاخرى، تعاني من الانقسام والتشرذم، وان حزب البعث وهو الحزب القائد وبيده السلطة لم يعد يهتم بها، وانه بحكم العلاقة التي تربط حزب البعث في السودان بحزب البعث في العراق، وبحكم علاقته الطيبة مع الحزب الشيوعي السوداني يرجو مني ان انقل للاخوة في السودان الرجاء الاتصال بالاخوة في العراق للعمل لوحدة القوى الثورية في العراق لمصلحة العراق والوطن العربي عموماً. شكرت الاخ نقد على ذلك والتزمت له بالاتصال بالمسؤول بحزب البعث في السودان لانقل هذه الرسالة لاهتمام الاخ نقد بها رغم الظروف الصعبة والملاحقة التي يعيشها، ثم قضينا معه بقية اللقاء في تناول الاخبار وفي ضيافة الاخت الفاضلة زوجة الأخ الطيب، وتسللت بعد ذلك في هدوء الى منزلي، اهتممت بالامر بالطبع، وابلغت الاخ جادين، والذي كان مسؤول حزب البعث في ذلك الحين، واهتم جادين بالامر وابلغه للقيادة في العراق، ولا ادري ماذا حدث بعد ذلك، الا ان الامور لم تسر على ما يرام في العراق بعد ذلك، لا في حزب البعث ولا في قيادة الجبهة التقدمية، ما ادى الى الحروب والخراب والدمار الذي عاشه العراق والأمة العربية بعد ذلك. ولقد أشار الأخ جادين الى هذه المقابلة في كتابه تجربة حزب البعث في السودان. بعد ذلك لم تتح الظروف مقابلة الاخ نقد، الا اننا كنا نتبادل الرسائل عن طريق الاخ والصديق المرحوم عبد الله صالح، والزميل عبد الله حل محل الاخ الطيب في قيادة فرع الحزب الشيوعي بنقابة المحامين بعد سفر الأخ الطيب وكنت وقتها وفي نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات قد تحولت الى قيادة اللجنة السياسية بحزب البعث التي كانت مهمتها الاتصال بالاحزاب المعارضة ومن ضمنها الحزب الشيوعي مدة من الزمن كما ذكرت من قبل. بعد توقيع نيفاشا، والاستعداد لخروج الأستاذ المرحوم نقد للعلن، اتصل بي الاخ صديق وزميلي في مجلس نقابة المحامين الاسبق جلال السيد وذكر لي انهم بصدد الاعداد لخروج الاخ نقد، والاعداد لذلك، وذكر لي بان هناك قائمة مصغرة من أعضاء واصدقاء الحزب للتبرع لذلك ودفعت المبلغ الذي حدده الاخ جلال دون نقاش كمساهمة متواضعة، بعد ذلك لم اقابل الاخ الا في بعض المناسبات واللقاءات الاجتماعية، وانني اذكر عندما كنت عضواً في المفوضية القومية للمراجعة الدستورية حيث قامت اللجنة الموقرة باعداد مسودة قانون الاحزاب السياسية ان قررت اللجنة مقابلة رؤساء الاحزاب السياسية ومن ضمنهم الاستاذ نقد. ولقد ترك لي ترتيب هذا اللقاء، وفعلاً تقابلنا مع الاخ المرحوم نقد في دار الحزب الشيوعي بالخرطوم «2» وكان اللقاء يضم رؤساء اللجنة الاخ ابيل الير ودكتور عبد الله ادريس وشخصي وآخرين، ولقد شرحنا للاستاذ نقد باستفاضة المشروع المقترح، وبالذات موضوع حل الاحزاب، الذي يهم الحزب الشيوعي بحكم انه الحزب الذي تعرض لهذه التجربة المرة، وبحكم انني كنت عضواً في الامانة العامة التي ناهضت هذا الحل في هيئة الدفاع عن الديمقراطية في حينها، وكان خطابي نيابة عن الاشتراكيين العرب في ادانة الحل في جريدة «الميدان»، العدد الاخير قبل الحل هو العنوان الرئيسي. ولقد التزمنا وبمبادرة من رئيس اللجنة وأعضائها ان يكون الجهة الوحيدة التي تملك الحل هي القضاء بناءً على ضوابط محددة، ولقد تم النقاش مطولاً مع الأخ نقد وآخرين في هذا الموضوع، وتم الاتفاق ان أتولى مع الأخ نقد أو من يمثله متابعة رد الحزب الشيوعي على هذه الاقتراحات. بعد ذلك لم أقابل الاخ نقد الا في مناسبة اجتماعية عند أحد الاخوان، ولقد داعبته انه رغم علاقتي القديمة مع الحزب الشيوعي لم يصلني كرت دعوة لحضور مؤتمره العام الاخير، ولقد استغرب الاخ نقد لذلك كثيراً وطلب مني بطريقة السودانيين ان امسح ذلك على وجهه، وانه سوف يستفسر عن الامر ولكنني ذكرت له سلامة وجهك، وان الامر لا يستحق كل هذا العناء. وبالفعل وبعد مدة حضر لي أحد الاخوان المسؤولين في الحزب، وقدم لي الدليل ان اسمي في مقدمة المدعوين، وان الخطأ كان في التوزيع. قصدت من كل ذلك ان المرحوم نقد، كما يعرف الجميع، يمثل شهامة الرجل السوداني القديم الاصيل، وانه رجل واسع الأفق والصدر ومناضل على المستوى الوطني والقومي والعالمي، رحمه الله رحمة واسعة بقدر ما أدى من خدمات لأمته ولوطنه والعزاء للشعب السوداني والاخوان رفقائه وإخوانه خاصة الأخ والصديق يوسف حسين، عضو المكتب السياسي، والناطق الرسمي باسم الحزب وهو صديقي منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي، والأخ الصديق الطيب أبو جديري والأخ الصديق جلال السيد، والأخ الصديق كمال الجزولي والأخ الصديق عثمان يوسف وأخيه الأكبر المهندس صديق يوسف، وتلك قبيلة من المناضلين، وكل الرفاق والإخوة زملاء الكفاح والنضال وأسرته الكريمة، (إنا لله وإنا اليه راجعون).