في العام 1994م، عندما شارفت القوات المسلحة على دخول مدينة نملي قال احد القيادات العسكرية النافذة حينئذٍ ان البندقية وحدها لا تستطيع ان تفعل اكثر مما تم انجازه بل آن الاوان الى دعم المجهود العسكري بعمل سياسي راشد يقلل الخسائر ويبلغ المقاصد، لكن كان للسياسيين حينها رأي آخر في الحين تصدى له احد السياسيين النافذين من اهل الحل والعقد قائلا لا حوار ولا تفاوض قبل دخول نملي مهما كلف ذلك. ولأسباب كثيرة في ذلك الوقت تتعلق بالمتغيرات السياسية التي طرأت على الساحة الاقليمية والدولية افضى الى حصار السودان اقتصاديا وسياسيا مستغلين فيها بعض دول الجوار بالمقابل وجدت الحركة الشعبية الفصيل الرئيسي (قرنق) دعماً دولياً غير مسبوق حيث تمكنت من اعادة ترتيب اوراقها من جديد وتحولت من موقع الدفاع الى امتلاك زمام المبادرة في الهجوم على مواقع القوات المسلحة مما اجبرها على التراجع حتى الميل اربعين الذي استبسلت فيه القوات المسلحة والمجاهدون بطريقة تماثل تماما معركة كرري وام دبيكرات وسيلي. عنئذ اقتنع الساسة بضرورة المعالجة السياسية عبر التفاوض بعض مضى بضع سنوات من صرخة الجنرال الحكيم فكانت نيفاشا.. اليوم والتاريخ يعيد نفسه والحكمة تقول يجب ان تسود استراتيجية المعالجات السياسية ويجب ان تسكت البندقية حتى يرخص ثمها او ان استخدمت فلا يتجاوز رد العدوان قيد انملة.. سُقنا هذه المقدمة لتأكيد ما هو مؤكد ان الاقتصاد لا ينفصل عن السياسة بل هما في تزاوج كاثوليكي دائم لاطلاق بينهما.. للخروج من هذه الازمة الاقتصادية يلزم تحريك الجمود في ملفات سياسية كثيرة من بينها علاقات السودان الخارجية خاصة مع الولاياتالمتحدةالامريكية والاتحاد الاوربي مع اتخاذ سياسة مالية تتصف بالكفاءة والفاعلية حيث اصبحت السياسة المالية اداة رئيسة من ادوات السياسة الاقتصادية في توجيه المسار الاقتصادي ومعالجة ما يتعرض له من هزات وازمات.. غير ان السياسة المالية وحدها لا تستطيع ان تحقق كافة الاهداف التي ينشدها الاقتصاد الوطني بل ينبغي التنسيق بينها وبين السياسات الاخرى كما ان السياسة المالية تتأثر بعوامل متعددة منها ما هو سياسي والآخر اداري... الخ هنالك وسيلتان ماليتان يمكن ان يحدثا حراكاً بل كسر الجمود في الوضع الاقتصادي الراهن وهما تخفيض الضرائب وخفض الانفاق الحكومي.. تخفيض الضرائب خلال هذه الفترة سوف يؤدي الى زيادة الانفاق وما ينتج عنه من ارتفاع القوة الشرائية المتاحة للافراد والمشروعات وتكون الضرائب غير المباشرة المفروضة على السلع الاستهلاكية اكثر فعالية في هذه الحالة.. ارتفاع القوة الشرائية يحرك السوق ويحفز الاستثمار في نفس الوقت يشجع الصادر ومن خلال زيادة حجم الصادر يمكن توفير النقد الاجنبي الذي يعمل بدوره على تثبيت سعر الصرف للعملة الوطنية بالتالي تبدأ الاسعار في الانخفاض التدريجي. أثر تخفيض الضرائب يحفز الانتاج ويشجع الصادر يساعد كذلك على تخفيض البطالة.. على سبيل المثال قطاع الثروة الحيوانية يعتبر من اكبر القطاعات المحركة للاقتصاد السوداني وتشكل نسبة كبيرة في الناتج المحلي الاجمالي الا ان هذا القطاع مهمل تماما من حيث توفير مدخلات الانتاج والعناية البيطرية والخدمات الاخرى ،في نفس الوقت مثقل بالاعباء الضريبية ما يجعل صادر الضأن مثلا قليل العائد.. تفرض على الحيوان في السودان اليوم اكثر من ستة انواع من الضرائب على سبيل المثال عندما يكون الحيوان في حيازة صاحبه يدفع ضريبة القطعان واذا عبر الراعي الحدود الادارية لولايته بحثا عن الماء والكلأ يدفع ضريبة الذبيح واذا تم ترحيله الى ميناء التصدير يتم دفع ضريبة العبور ثم ضريبة الصادر.. فضلا عن تفنن بعض المحليات في استنساخ مسميات جديدة لضرائب ورسوم بطريقة لم يشهدها العهد التركي.. حتى ان بعضهم ذهب الى فرض ضرائب تدفع على الحيوان العابر لحدودهم الجغرافية باسم ضريبة المغادرة وهي تشابه ضريبة المغادرة التي تفرض على الاشخاص المسافرين عبر مطارات السودان دون غيره من العالمين..! ألم يكن مثل هذه الأتاوات والرسوم المفروضة على الحيوان والتي تزيد عن 6 أنواع عائقا للصادر؟ هل يستطيع الخروف السوداني المنافسة في الاسواق الاقليمية؟ اذاً كيف ترقية الصادر والنهوض به في ظل هذه الجبايات؟ دون ترقية الصادر لن تقوم للاقتصاد السوداني قائمة. الجانب الثاني خفض الانفاق الحكومي ضروري لأنه يخفف العبء على الموازنة العامة، كما هو معلوم فإن المال ممركز في الخرطوم تحول للولايات جعلا شهريا لا يسمن ولا يغني من جوع ثم يقوم القائمون على امر الولايات بمركزتها على رئاسة الولايات ولا تتناسب الاعتمادات المالية للمحليات الا بالقدر الذي يسد رمق الفصل الاول وتترك بقية الصرف الخاص بتقديم الخدمات للمحليات فهي الاخرى تقوم بفرض الرسوم على اللين واليابس لتسيير اغراضها مما اضر بحركة الصادر في السودان من ثم الاقتصاد الكلي. عندما يقال تخفيض الانفاق الحكومي يعني تخفيض الهياكل ليتناسب حجمها مع القدرة المالية للدولة. مسألة انشاء وزارات ومحليات لاغراض الترضيات السياسية ليس بجديد على السياسة السودانية بل ظلت سمة ملازمة ومستمرة في ظل جميع الحكومات.. في ظل اول حكومة وطنية 1953م، اصبحت مصلحة صغيرة مثل النقل الميكانيكي وزارة والمخازن والمهمات وزارة واستمر استنساخ الوزارات حتى يوم الناس هذا. عندما جاءت الانقاذ كان عدد الولايات 9 أصبحت اليوم 17 وعدد المحافظات (المحليات) 19 سارت 133 وعدد المجالس 240 صارت اكثر من 674 مجلس. في احدى الولايات لا داعي لذكر اسمها لا يوجد بها طبيب اسنان واحد ولكن يوجد بها 12 وزيراً ولائياً و9 محليات على رأس كل محلية معتمد يمتطي عربة لاند كروزر قيمتها تتجاوز 450 ألف جنيه سوداني اي ما يعادل مرتب طبيب الاسنان لمدة 12 سنة..! اذا تم تخفيض محلية واحدة في تلك الولاية ينعم الناس بطبيب اسنان لمدة 12 سنة متتالية.. تخفيض هذه الهياكل يساعد على توفير اعتمادات يمكن ان تذهب الى الخدمات.. تقليص في المرحلة ضرورة يمليها الواقع الاقتصادي الراهن حيث يتجاوز عدد الوزراء الاتحاديين والولائيين والمعتمدين واعضاء المجالس القومية والولائية اكثر من 1576 شخص. شركة جنرال موتور الامريكية تتجاوز ايراداتها السنوية للعام 2011م، 150 بليون دولار وهي تعادل ضعفي الناتج المحلي الاجمالي للسودان لعام 2011م، تجدر الاشارة الى ان الادارة التنفيذية لهذه الشركة تتكون من 8 أشخاص يعاونهم مجلس ادارة غير مفرغ يتكون من 7 أشخاص وهي تعمل في 157 دولة وجملة العاملين لم يتجاوز ال 207 ألف شخص. على الرغم من ان وجه الشبه قد يكون ضعيفا ولكن عادة حجم الموارد المراد ادارته يحدد عدد المديرين..