لا أدري من الذي أوقع في روع الشعب السوداني أنه شعب واعٍ ومعلم ورائد يتجاوز بوعيه كل شعوب المنطقة! أهم علماء الاجتماع الذين يدرسون حالات المجتمعات في مراحل تطورها المختلفة؟ أم المؤرخون الذين يحصون تلك المراحل ويوثقونها؟ أم هم المفكرون الذين يجرون المقاربات بين الشعوب ويعكفون على دراسة البنيات الفكرية والعقائدية والابداعية التي توجه الشعب والأمة؟! أنا شخصياً لم تقع عيني يوماً على دراسة تشخص وتملك وترصد نمو وتطور الوعي السوداني الذي يؤهله لمقام الريادة هذا الذي يدعيه!! ولكن الذي زرع هذا (الوهم) وظل يردده تكراراً ومراراً هم الساسة من أهل السلطة والمعارضة الذين تقتضي مصالحهم (منافقة) هذا الشعب علهم يكسبون عطفه وولاءه. وإلا فقل لي ما هي مظاهر ارتفاع وعي شعب وريادته وهو الذي ظل أكثر من نصف قرن كاملاً بعد الاستقلال لا يصل إلى وحدة اجتماعية وسياسية تعصمه من صراعات الجهوية والعصبيات القبلية؟! أو لم يستطع أن يكمل بنيانه الاقتصادي والتنموي حتى على مستوى البنيات الأساسية التي تجمع شتات أطرافه المتباعدة!؟ بل ما هي مميزات الوعي والريادة لشعب ظل يتدهور قيماً وسلوكاً واقتصاداً وتتقلص موارده ومصادر تنميته كل عقد من الزمان حتى انهارت كل ركائزه الناجحة دون أن تقوم مقامها ركائز جديدة وفق سنن التطور التي انتهجتها الشعوب الأخرى؟! فمشروعاتنا الزراعية الرائدة والناجحة انهارت بفعل الانسان لا الطبيعة ولا تغيرات المناخ. ووسائل نقلنا الحديدية والجوية توقفت عوضاً عن التطور والتحديث كما هو حادث في البلدان الشبيهة بأوضاعنا أو حتى التي هي أضعف منا موارداً مادية وبشرية! وضوابط خدمتنا المدنية التي كانت مفخرة في افريقيا صارت (مسخرة)!! ومؤسسات ضبط المال وحسن ادارته تحولت إلى أجهزة استنزاف للموارد وسوء استخدامها، فاستبدلنا المخازن والمهمات والنقل الميكانيكي والأشغال العامة التي كانت تغطي حاجة الدولة في التأثيث والمعدات والصيانة والانشاءات، بالسوق ومؤسسات القطاع الخاص - المتحللة من قيود العطاءات والتعاقدات وشروط الجودة - والتي صارت هاوية لابتلاع المال العام بإجحاف ونهب صريحين!! أين هو هذا الوعي والريادة التي لا نراها على الأرض وان كنا نسمعها في أناشيد المنشدين وخطب السياسيين وتطبيل الاعلام الزائف؟! ما هو المرفق الذي لم يلحقه الخراب؟! وما هي الخدمة التي لم يصبها التدهور؟ وما هي المؤسسات التي لم تمتد إليها يد التزوير والاختلاس والتعدي؟! ومع ذلك لا ننفك من الادعاء، ولا ينفك سياسيونا حكاماً ومعارضة يتملقوننا بصفات الريادة والوعي وتعليم الشعوب!! ونحن نرتاد كل يوم مرحلة جديدة من الخراب والتقهقر والفوضى!! فإذا تحدثنا عن تجهيز وتحديث المستشفيات والمرافق الصحية فإننا نقولها وعيوننا على مستشفيات الخرطوم ومراكز العلاج الخاص بها، أما مراكز الصحة ومستشفياتها في كوستي والأبيض ومدني وسنار والدمازين والفاشر وكسلا والقضارف وكل بقاع السودان شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً فلا نتجرأ بالاشارة إليها لأنها متراجعة في سلم التدهور حتى عن وضعها الذي ورثناه قبل عقدين من الزمان، دعك من تطورها فان هذا حديث خرافة يا أم عمرو!! وإذا تحدثنا عن خدمات المياه تحسرنا على أيام كانت الحنفيات تصب ماءً نقياً صافياً طوال الأربعة والعشرين ساعة يومياً، فإذا بها الآن لا تتدفق - حتى مع استعمال الموتورات - إلا كل ثلاثة أيام أو أسبوع أحياناً. وهي ظاهرة صارت من لوازم الحياة حتى في الخرطوم التي تقع بين أكبر نهرين في العالم، دعك من عواصم ومدن الولايات والقرى والأرياف التي لا يعرف ساستنا أين مواقعها في خريطة البلاد حيث لا يزال الانسان هناك يعتمد على مياه الحفائر الخريفية والآبار السطحية الشحيحة! واذا ما تساءلنا عن التعليم الذي تمتليء أشواق وزارات التعليم في بلادنا بنجاحاته الموسمية في امتحانات شهادتي الأساس والثانوية، فاننا سنجدهم يتحدثون باحصائيات المدن الكبرى وعواصمالولايات، ويتناسون عن قصد - أو عن جهل - حال التعليم في الأرياف والفرقان حيث تظل مئات من مدارس (لم ينجح أحد) تطل برؤوسها نتيجة النقص العددي والنوعي في المعلم والكتاب والمباني ومعينات التعليم وانهيار البيئة التعليمية والفقر المشرد من التعليم حتى أن الصف الأول - بمرحلة الأساس - يقبل ستين أو سبعين تلميذاً فإذا ما وصل إلى الثامن يكون قد بقى من تلاميذه سبعة أو عشرة تلاميذ فقط!! هذا التسرب للموارد البشرية والفاقد التربوي العائد إلى حضن الأمية المرتدة ومنذ المرحلة الأساسية لا يشعر به أحد لا في وزارات التربية ولائية واتحادية ولا الدولة التي ظلت ترفع عقيرتها في كل مناسبة، وأحياناً بلا مناسبة بأنها قد فتحت آلاف المدارس وطبقت سياسة (تعميم التعليم) وهي لا تدري أن مدارسها الفارغة من كل معينات ومقومات التعليم في الأرياف قد أحالت السياسة إلى (تعميم التجهيل)!! فمائة طالب ناجح ومتفوق بمدارس كاملة التأهيل خير من ألف طالب فاشل يحشرون في (حظائر) مدارس الأرياف! ولكن من الذي يحس بهذه المأساة ووزراء ومديرو التعليم ووراؤهم كل الدستوريين في العاصمة والأقاليم يدفعون بأبنائهم وبناتهم إلى (المدارس النموذجية والخاصة) وهي مدارس ذات معايير (مالية) لا يطيقونها إلا هم وكبار رجال الأعمال!! تلك هي الخدمات الاساسية الثلاث (الصحة - التعليم - المياه) والتي لا معنى لوجود السلطة والحكومة إلا بتوفرها والارتقاء بمستوياتها. فهل تمكننا المقارنة بين مدارس ومستشفيات ومياه الستينيات والسبعينيات من القرن الذي مضى ومدارس ومستشفيات ومياه العقد الأول من هذا القرن الحادي والعشرين من ابراز مؤشر الارتفاع أم الهبوط؟ لا تقل لي بأن اتساع الخدمة الآن لا يقارن مع ضمور الخدمة آنذاك. فان النسبة لا تزال محفوظة بين موارد البلاد آنذاك وفرص وموارد البلاد الآن. ولكن الأزمة الحقيقية هي في انعكاس معادلة (الأولويات) تماماً بين الماضي والحاضر. المشكلة في القدرة على (ضبط) الموارد وحسن (توظيفها)! المشكلة في الادارة والصرف عليها بين (البساطة) آنذاك (والترهل) الآن! المشكلة في مدى (انفاذ) القانون وتساوي المواطنين أمامه! المشكلة في (أخلاقيات العمل) التي سادت آنذاك (وفساد الذمم) الذي استشرى الآن! المشكلة في (ارتفاع) الحس الوطني آنذاك (وسقوط) الروح الوطنية الآن! المشكلة في الساسة (الأطهار) قديماً والساسة (الأشرار) حديثاً! إذن أزمة السودان لم تكن يوماً نتيجة لشح الموارد أو استنزاف الحرب أو قلة الكوادر المدربة أو حتى التآمر الدولي، ولكن الانسان (المواطن) الذي كان يواجه الأوضاع آنذاك ليس هو بذات مواصفات (المواطن) الذي يعيش الأوضاع الآن، والسياسي الذي ظل يتعامل مع الدولة والقانون آنذاك ليس من ذات صنف الساسة الذين يديرون البلاد الآن حكاماً ومعارضين!! انهم كانوا إذا حكموا يحكمون بشرف، وإذا عارضوا يعارضون بشرف، لأنهم كانوا يتصرفون بإيمان أنهم مرتهنون إلى الوطن لا إلى الحزب ولا إلى موقع سلطوي أو وظيفي أو إلى امتيازات ومصالح ولذا عاشوا فقراء وماتوا فقراء لم يعرفوا تطاولاً في البنيان ولا تكدساً في الثروات أو انتشاراً في مجالس الادارات والجمع بين الوظائف. والآن نحن جميعاً - حكاماً ومعارضين وشعباً - نجد أنفسنا نقف على تلة والخراب يحاصرنا من كل اتجاه والبلاد تتمزق من أطرافها بعدم الاستقرار والنزوح وتوقف التنمية، وتهاجر كل رؤوس الأموال - وطنية وأجنبية - إلى دول الجوار حتى بتنا لا نجد مستأجرين لأبراجنا العاجية اللامعة بعد أن داهمنا داء التطاول في البنيان ولكن من جيوب الدولة ومواردها، فكل وزارة أو ادارة أو صندوق يوظف الموارد - لا أدري من أين اجتلبها - في بناء البرج والقاعات الفخيمة حتى باستغلال أموال الضعفاء من المعاشيين والتأمينات الاجتماعية!! وكل ذلك على حساب ماء وطعام وتعليم وعلاج المواطنين الذين سيسألنا الله عنهم يوم القيامة! يوم نُسأل عن كم مدرسة بنينا وكم مستشفى شيدنا - خارج الخرطوم بالطبع - وكم جائعاً أطعمنا وكم يتيماً كفلنا وكم مشرداً أوينا!! ولا نُسأل (قطعاً) عن كم برج بنينا، وكم قاعة شيدنا، وكم شارعاً رصفنا، وكم مطاراً شيدنا، وكم خزاناً أقمنا!! فإذا لم تكن الموارد - محلية أو قروضاً - كافية للمستويين اللذين أشرنا إليهما، فهل من حسن ادارة الموارد (وفق النفع الانساني العام) أن نوجهها لاحياء مشروعات الزراعة - التي يعتاش منها الناس ويأكلون - في الجزيرة وخور أبو حبل وجبل مرة وغرب السافنا والدالي والمزموم والنيل الأبيض والرهد وكنانة والقضارف، أم نوجهها لبناء مطار الخرطوم الجديد؟ وهل الأولوية (وفق النفع الانساني العام) في اعادة تأهيل مستشفيات الأبيض ومدني والقضارف والفاشر وكسلا - التي أظهرت التحقيقات الصحفية حالتها المزرية والفاضحة - أم بناء أبراج الواحة والوزارات والقاعات الدولية؟! ان ساستنا وحكامنا محتاجون إلى دروس في (فقه الأولويات)، إذ لا يعقل أن تترى الاعتذارات بالحرب والحصار وانقطاع البترول عن خدمات المياه والتعليم والصحة ودعم الغذاء - للدرجة التي يبشرنا فيها المجلس النيابي برفع الدعم عن المحروقات - بينما الأبراج (المستفزة) والكباري (المستفزة) والمطارات (المستفزة) وشوارع الأسفلت الناعمة وأرصفتها (المستفزة) تُشاد أمام أعيننا وفي ذات وقت الاعتذار بالحرب والحصار، وكأنما هي تمدُ ألسنتها (استهزاءً) من مطالبات الكادحين والعطاشى والجوعى والمرضى الذين لا يرتادون الأبراج العاجية ولا يعرفون الطريق إلى المطارات القديمة دع عنك الجديدة!! إلى متى يا حكامنا وساستنا في الحكومة والمعارضة؟! إلى متى وأنتم مشغولون عن كل هذه الهموم بصراع السلطة بين (تمكين) النظام أو (اسقاطه)؟! ما الذي يعود على المواطن من الخيارين؟! ما هي حسنات النظام حتى يرضى (بتمكينه) وما هي سيئات السلطة حتى يسعى (لاسقاطها) ليأتي بعدها للحكم بمعارضة هي أكثر منها هزالاً وضعفاً؟!! ما هي مصلحة المواطن في صراع الأفيال هذا الذي أصبح هو شغل كل أحزابنا على طرفي المعادلة السياسية؟! أما آن الأوان يا ساستنا - وقد كدنا ننتهي من معارك التحرير والقضاء على التمرد وبدأت بوادر وحدة تجاه هدف حماية الأرض والعرض - أن تتوقفوا قليلاً للنظر في دواخلكم وتسألون - لأول مرة - لا عن ما تريدون، ولكن عن ما يريده هذا الشعب الصابر الذي لا تلتفتون إليه إلا في الملمات والمحن والضوائق الانتخابية!! أهل يستحق هذا الشعب - الرائد كما تقولون - هذا التجاهل من ساسته حكاماً ومعارضين؟ أين هي مقترحات حلولكم لمشكلات معاشه بعد أن صرفت الأسرة كل مدخراتها لتكمل للولد والبنت تعليمهما الجامعي، وعندما تخرجا بتقديرات ممتازة نتيجة للسهر والتعب ودعوات الوالدين، ظلا يدوران في اتجاه القبل الأربعة بحثاً عن عمل حتى ولو كان دون تخصصهما طوال خمسة أعوام دون طائل ولا بارقة أمل، فما هي خططكم ومشروعاتكم - حكومة ومعارضة - من أجل فرص عمل لهؤلاء الذين يتضاعف عددهم كل عام؟! وهذا المواطن الذي يدور بأبنائه وفلذات أكباده المرضى على المستشفيات فترده (جباياتها) عن عملية أو دواء يشكل حاجزاً بينه وبين الموت دون أن يستطيع دفعه - ماذا فعلتم أو أنتم فاعلون له؟! وهذا العطش الذي استشرى في المدن والبوادي لبلاد بها أكبر مخزون مائي في العالم جوفاً وسطحاً، ومع ذلك تموت فيها الزراعة عطشاً ولا يستقي انسانها وحيوانها إلا من اناء واحد - ولا يكادون!! ما هي خططكم ودراساتكم وبرامجكم - وأنتم تتصارعون حول كراسي السلطة - لانقاذ البلاد من مهلكة العطش زرعاً وضرعاً وانساناً؟! أما آن الأوان يا أهل السياسة لمواجهة (حقائق) الوضع الاجتماعي لهذا الشعب الذي طال صبره وانتظاره وتخطى (أوهام) السلطة التي ظللتم تتناكفون حولها نصف قرن كامل وتتوارثون صراعاتها جيلاً بعد جيل دون أن تبلغوا بها ومنها ما تريدون!! أما آن لكم أن تواجهوا (بشجاعة) ماذا يريد الشعب عوضاً عن ماذا تريدون أنتم؟! فقد آن لنا أن نقول ماذا يريد الشعب.