شهدت الخرطوم خلال الأسبوع المنصرم مؤتمراً غاية في الاهمية، وان لم يجد التركيز الاعلامي المطلوب ولا الزخم الكافي كعادة الاعلام في بلادي، وهو المؤتمر الاقليمي للسيطرة على الأسلحة الصغيرة والخفيفة بمشاركة دول إفريقيا الوسطى تشاد ليبيا والكنغو والمنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، وتقول تقارير الأممالمتحدة إن هنالك ما يقارب ال «360» مليون قطعة سلاح منتشرة حول العالم. وافريقيا وحدها تحظى بنصيب وافر منها يزيد عن ال «100» مليون قطعة، وطبعاً لا أحد يعلم كميات السلاح الموجودة بين السودانيين، لأن الاحصاء عندنا ليس ضرورياً، ومن قبل لقد احصاهم وعدهم عداً، ولكنها بصريح العبارة مهولة ومتاحة للجميع خاصة في مناطق النزاعات، وإن كان السودان كله قد تحول الى بؤر نزاع. وقدرت الدراسات أن باليمن السعيد ويا للسعادة ما بين «40» الى «50» مليون قطعة سلاح متداولة بين أيدي مواطنيها، وإن ذهبت بعض التقارير إلى اقل من ذلك، ولكن في كل الأحوال اقرت بأن كل أسرة تملك ما لا يقل عن ثلاث قطع سلاح في المتوسط بمعدل قطعة لكل رجل بالغ في بداية الأمر. والسودانيون وبحكم علاقاتهم مع الشعب اليمني كانوا يستغربون لثقافة حمل السلاح لدى اليمني، وكيف أن الطالب يدخل متوشحاً سلاحه غرفة الدرس، ولكن اليوم زالت الغرابة، ووصل حمل السلاح وسط الشعب السوداني درجة الالفة، الأمر الذي جعلني احاول المقارنة ما بين اليوم وأكثر من عقدين من الزمان. ومع انفراط الامن في دارفور انتشر السلاح الناري والآلي وبرزت ظاهرة النهب المسلح والحروبات القبلية ونتيجتها ازهاق ارواح كثيرة من المواطنين وسلب ونهب اموال وممتلكات المواطنين، بالاضافة الى الممتلكات العامة. ولمواجهة الأمر قررت الانقاذ ومع ايامها الاولى أن تضع حداً لهذا العبث، فرمت بأصلب عناصرها والياً لدارفور الدكتور الطبيب ابراهيم محمد خير لمهمة محددة هي استعادة الأمن وجمع السلاح، وألا يكون السلاح إلا عند الحكومة، وأن يعيد هيبة الدولة. وكان الرجل رجل دولة حقيقي ووضع اولويات خطته وجعل هناك مناطق حمراء، وحرم حمل السلاح وفق خطة وبرنامج، وبدأ في تطبيق الخطة أولاً بالإعلان عن تسليم السلاح في زمن محدد بعده يتم التعامل مع كل من يحمل سلاحاً. ووفق القانون استخدم في حملته كل الوسائل، ولم يهمل الجانب الإعلامي التوعوي والإعلام المحلي الشعبي من الحكامات والبوشانيين والهدايين والشعراء والبرامكة، وغنوا الأغاني ورقص الناس رقصة السلاح «أرمي نارك تحمي ديارك وأرضاً سلاح». لقد كان الناس في دارفور يحملون السلاح لاسباب اجتماعية وثقافية اكثر من أن تكون اقتصادية وسياسية، كما أن نوعية السلاح الذي يحمله الانسان كان يدل على النوايا من حمل السلاح، فهناك من كان يحمله لضرورة وبقدر معلوم، ولكن أن يتحول حمل السلاح لأهداف جديدة فهذا هو الأمر الذي يستحق الاهتمام. ولأسباب جيوسياسية جعلت دارفور محط أنظار ومنطقة ضغط منخفض أدت لهبوب رياح عاتية هبت عليها من كل الجهات، اضطرب واختل نظام الاشياء، ومنها حمل السلاح، حتى صار ما يحمله الخارجون عن القانون والمواطنون من سلاح هو أحدث وأقوى مما يحمله رجل الدولة الرسمي، واختلط الحابل بالنابل، وكانت تجربة جمع السلاح في دارفور فكرة جيدة الا ان التنفيذ شابه قصور كبير. وكانت النتائج كارثية في بعض الأماكن، فقد تحدث معي عدد من مواطني دارفور في بعض المحليات بأن السلاح جمع من المستقرين وهم قبائل بعينها، ولم يجمع من الرحل المنتشرين في الأصقاع وهم قبائل بعينها، ولكن لم يساورني شك في أن هناك سوء نية وقصد. ويبدو أن القصور جاء نتيجة لأسباب لوجستية وعملياتية. صحيح أن بعضهم رفض الفكرة جملة وتفصيلاً، وبعضهم لم تتمكن السلطات من الوصول اليهم، ونتج عن ذلك عدم توازن القوة، الأمر الذي عرض المستقرين الى استهداف مباشر من قبل أعدائهم بعد أن صاروا مكتوفي الأيدي بعد أن سلموا سلاحهم الذي يدافعون به عن أنفسهم وعن ممتلكاتهم، خاصة إذا علمنا أن الدولة لم تتمكن من بسط هيبتها على كامل التراب الدارفوري آنذاك. وكانت تجربة جمع السلاح في دارفور تجربة جديرة بالدراسة والاهتمام والوقوف، وكان يمكن تطويرها، خاصة أن رجلاً مثل دكتور الطيب رجل بحثي، ولم تهتم الحكومة لكثرة التنبيهات التي كانت تأتيها من قبل المواطنين إلى خطورة انتشار السلاح ووجوده بحوزة مجموعات معينة، إلى أن حمل الجميع السلاح ووجوه صوب الحكومة نفسها. ولا يسألني أحد من أين حصل المواطنون على السلاح، لأن هذا السؤال من نوعية الأسئلة الغبية التي لا يسألها الا الأغبياء وأنا منهم. وفي إحدى المحليات الريفية من ولايات دارفور ذكروا لي أن أهم مصدر للسلاح المنتشر هو مخازن الدولة وولايات الجوار ودول الجوار، ودارفور تجاور أكبر منطقة لحركة السلاح في العالم، وهي الشريط بين الكاميرون وتشاد وإفريقيا الوسطى والكنغو، فالحديث عن خطورة الأسلحة الخفيفة والصغيرة وخطورتها حديث لازم فائدة، ولم يتعد القاعات والغرف، لأن ما يدور بالخارج هو مزيد من تجييش وتسليح البشر. والناس هنا يطلبون السلاح لأن أسباب حمل السلاح متوفرة، فالقبائل تريد تسليح مليشياتها لحماية أرضها وعرضها، والحركات المسلحة تريد تسليح الأطفال ليعينوها على قتال العدو، والحكومة تريد تسليح حليفاتها، والجميع يقول: «بندقيتي حبيبتي» «كلاش ساعتين ولا اغتراب سنتين»، وكل هذه الثقافة قد عشعشت في ربوع الوطن من أقصاه الى اقصاه، وربما هذا المؤتمر هو المؤتمر الصحيح في المكان الخطأ. و «حلاً بالسلاح ولا حلاً بالإيد» كما يقول المثل الجديد، وكل الذي أراه اليوم هو الغلبة للسلاح، وإلا فكيف لأناس ليست لهم أية كفاءات أو اوزان وسط مجتمعاتهم ينالون مقامات عليا فقط لأنهم حملوا السلاح. و «شكراً سلاح» ألم تكن هذه دعوة لحمل السلاح، وما فائدة الشهادات والخبرات إذا كان نيل المعالي بهذه الطريقة. وكانت جامعة الخرطوم في زماننا تقول إن الدخول بالشهادات فقط وليس بالدبابات، عندما حاولوا دخولها في ذلك الحين. وحدثي ابني أنس الطالب بجامعة الخرطوم بأن الطلاب يتسلحون بالعلم وبالسلاح الآخر أيضاً. وليس عيباً أن نعد العدة ولكن وفق نظام وضبط، لأن انتشار السلاح وثقافة السلاح يجران الى جرائم اخرى كثيرة مرادفة لا حصر لها، وبلا شك أن الضرورات تبيح المحظورات، ولكن أن تتحول الحياة كلها إلى ضرورة فهذه ليست بحياة، ولا بد من إعادة النظر والتفكير في استراتيجيات وآليات جديدة للحد من ظاهرة انتشار السلاح وسط مجموعات كانت في الماضي خارج هذه الدائرة منهم الطلاب. وأن تسعى الدولة والمجتمع إلى الحد من جعل أسباب حمل السلاح ضرورة، فالذين يحملون السلاح من أجل مطالب سياسية يتم التحاور معهم سياسياً، والذين يحملون السلاح من أجل حماية أنفسهم وممتلكاتهم توفر لهم الدولة الحماية، والذين يحملون السلاح حرابةً جزاؤهم معروف، والحكومة وحدها سيد البندقية، ودولة يحمل مواطنوها السلاح لحماية أنفسهم هي دولة بلا هيبة، وإن ذهبت هيبة الدولة ذهبت وإن بقيت واقفة، فتسليم أي مواطن قطعة سلاح لا يحقق الأمن بل يزيد من الإحساس بالخوف. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً.