أجواء السياسة والعمل العام فى أيامنا هذه تكاد تقبض النفس وتخنق الأمل فما عاد فيها سوى الهم والغم والإحباط . تكاثرت الضربات الموجعة على رؤوسنا .. من إنفصال الجنوب الى دارفور الى أبيى الى هجليج الى النيل الأزرق الى المحنة الإقتصادية التى فتكت بأقوات الناس ومعاشهم حتى أصبحت الحياة قطعة من الجحيم .. وكذلك يحزننا بؤس المشهد السياسى بكل ما فيه من تنافر وتصارع وسباب وشتائم لم تعرفها أجواء السياسة فى بلادنا لما يزيد عن نصف قرن . لقد كتبنا وقلنا بالصوت العالي حتى نضبت أقلامنا وجفت حلوقنا ونحن ندعو للإصلاح والتوافق الوطنى وإنقاذ البلاد إنقاذاً حقيقياً بالعمل الجاد وليس بالشعارات التي سرعان ما تتبخر في الهواء وكأنها سحابة عابرة إلا أننا على ما يبدو كنا نرفع الأذان بمالطا ، وكان عشمنا فى الإصلاح كعشم إبليس فى الجنة كما يقول أهلنا ، فما من أمل أن يستجيب أحد للنصح .. حكام ومعارضون .. إذ إتفق كلا الطرفين على سد آذانهم عن النصح وأدمنوا الصراع على حافة الهاوية التى باتت تتهدد الوطن بأكمله ، ويبدو الا منجاة لنا منها في المستقبل . فى وسط هذه الأجواء المحبطة ظللنا نتسقط الأخبار عسى أن نحظى ببارقة أمل أو خبر منعش يمنحنا التوازن النفسى والقدرة على الصمود ومواصلة اسداء النصح للقائمين على الامر حتى نرى الوطن الذى ما عشقنا سواه ينجو من الكارثة التى تتهدده . وشاءت إرادة الله ولطفه أن نحظى بخبرين كانا كالنسمات المنعشة فى هذا الهجير السياسى والمناخى الذى نعيشه . الخبر الأول كان توقيع مذكرة تفاهم بين شركة سكر كنانة وجامعة الخرطوم ممثلة فى معهد أبحاث السلام ... أى شراكة بين أكبر مكون فى قطاع الأعمال السودانى وأكبر مؤسسة أكاديمية بحثية فى البلاد . قد يتسرع البعض ويقول ما هذا الترف الذى تكتبون عنه وتبشرون به ومعظم أبناء هذا الشعب يعانون من أجل رغيف العيش وجرعة الدواء ؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل المشروع تكمن فى كلمة واحدة .. السلام .. فبالسلام وحده تنهزم كافة آلامنا ومشاكلنا ومعاناتنا .. السياسية والإقتصادية والإجتماعية والتنموية ، وهذه الشراكة ما بين كنانة وجامعة الخرطوم تسعى لتوطيد السلام فى بلادنا عبر الدعم المادى الذى تقدمه كنانة للجامعة مقابل تنشيط وتفعيل جهد الجامعة فى المبادرة بأطروحات بحثية وعلمية تنشد السلام وتسعى له . لقد سئمنا مبادرات الهواة وإجتهادات (الفهلوية) وأيفاع السياسة الذين تزدحم بهم الساحة الآن ، وآن لنا أن نعهد بأمر السلام والبناء الوطنى ومستقبلنا السياسى لمؤسساتنا القومية الأكاديمية التى تذخر بالعلماء والخبراء فى شتى ضروب المعارف من العلوم السياسية الى الإقتصاد والتخطيط والعلاقات الدولية ، وأن نمنحهم الفرصة ليقدموا رؤية علمية تخرجنا من هذا المأزق السياسى الذى نعيشه . ومعهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم والذى تعهدت كنانة بدعمه عبر هذه الشراكة الإيجابية له رصيد هائل من الإسهام فى قضايانا الوطنية عبر مشاريع عدة من بينها : مشروع الحوار الدارفورى (وثيقة هايدلبرج) .. مشروع إدماج حقوق المرأة فى عمليات سلام دارفور بالتعاون مع الأممالمتحدة .. مشروع المشورة الشعبية فى جنوب كردفان والنيل الأزرق بالتعاون مع السفارة الهولندية بالخرطوم .. مشروع الوحدة الوطنية والوفاق .. معايير توزيع الثروة فى السودان .. مشروع المعدل القومى للخدمات فى السودان الذى رصد توزيع الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها فى كل ولايات السودان .. مؤتمر أزمة دارفور .. مؤتمرالتنوع الثقافى والسلام فى السودان .. الندوة الإقليمية حول دول الجوار السودانى .. مؤتمر قضايا المرأة والنوع فى الدستور .. محاضرة (السياسة الأمريكية تجاه السودان) التى قدمها روبرت زوليك نائب وزيرة الخارجية الأمريكية .. محاضرة عن المحكمة الجنائية الدولية قدمتها وزيرة العدل الألمانية السابقة ... كل هذه الأنشطة وغيرها هى أول ما نحتاجه لإنارة الأضواء الأكاديمية الكاشفة فى مسارنا السياسى المظلم ، وبغيرها لن نستطيع التقدم خطوة واحدة للأمام فى هذا الدرب الشاق . ودول العالم بأكمله بدءً من الولاياتالمتحدةالأمريكية التى باتت تعتمد إعتماداً أساسياً على معاهد ومؤسسات البحث العلمى في كل المجالات وتغدق عليها الأموال الوفيرة بمليارات الدولارات من أجل بناء إستراتيجيتها المستقبلية .. لم يعد فى عالم اليوم مجال للفهلوة والهتاف فى رسم السياسات .. السياسة اليوم يخطط لها الخبراء والأكاديميون ويبقى على الساسة مهمة التنفيذ فقط بينما نحن فى السودان نسخر من الخبراء والأكاديميين ونحصرهم فى سجن الوظيفة ونطردهم من مسرح السياسة فالسياسة فى فهمنا سوق بضاعته الحناجر القوية ورص الكلام . إن شركة كنانة حين تدعم مثل هذا الجهد الخلاق الذى تقوم به الجامعة عبر مؤسساتها ومراكزها البحثية المتخصصة إنما تدعم السلام والبناء الوطنى وبالتالى تدعم مناخات التنمية وجذب الاستثمار والنمو الإقتصادى والإستقرار السياسى لأن وكما قال احد المستثمرين : ان ما من احد عاقل يرمي بأمواله في بلد يشتعل بالحريق، وليس هذا بغريب على شركة متعددة الجنسيات قامت لتحقق حلم وطنى كبير ولتقدم نموذجاً ساطعاً على إيجابية الشراكة بين موارد السودان ورأس المال العربى والدولى . ولقد توقفت طويلاً عند وجود ممثل دولة الكويت -التي تملك اغلبية اسهم شركة كنانة - لحظة توقيع مذكرة التفاهم بين مدير جامعة الخرطوم بروفسير الصديق أحمد المصطفى الشيخ حياتي ومدير كنانة الأستاذ محمد المرضى التجانى ، فللكويت أيادٍ كريمة تجاه هذا الوطن وكلنا نذكر ما فعلته دولة الكويت وما فعله سفيرها الراحل الأخ عبد الله السريع (أو عبدالله جوبا كما يسميه أهل السودان) لبلادنا من دعم سخى ، فقد كانوا أصحاب نظرة بعيدة وذكية تجاه التقارب العربى ، وتجاه التقارب بين العرب والأفارقة وبين المسلمين والمسيحيين . ولقد تدخلت السياسة عندنا ذات يوم فكادت أن تفسد هذه العلاقة النموذجية بين البلدين الشقيقين الى أن تم تدارك الأمر وتخفيف حدة المرارات بعد جهد كبير وسنوات مهدرة . إن التنمية والبناء الإقتصادى يموتان تحت ظل مناخات الحروب وعدم الإستقرار السياسى وإن كنا نريد فعلاً أن يتعافى إقتصادنا بعد تداعيات الإنفصال فعلينا أن نسعى لتوطيد السلام ، فالحرب (تطفش) أى عاقل ، وأهل المال كلهم عقلاء ولا ننتظر منهم أن يلقوا بمليارات الدولارات فى وطن تعصف ريحه وترعد سماواته ، لذلك فإن خطوة (كنانة) الداعمة لأبحاث السلام بالجامعة تعتبر نظرة عقلانية ثاقبة للمستقبل وليت أهل السياسة يدركون فيملكون ذات النظرة ، وهى تأتى كإمتداد طبيعى لنهج الرأسمال الوطنى فى بلادنا الذى دعم معارك تحررنا الوطنى منذ مؤتمر الخريجين حين أسهم ببناء المدارس الأهلية مثل مدرسة المؤتمر الثانوية التي تقف الآن شامخة على ضفة النيل الغربية بمدينة أم درمان وكذلك البنوك الوطنية مثل البنك التجارى السودانى والمؤسسات الإجتماعية مثل معهد القرش وأوقف الخيرون من الرأسماليين الوطنيين أموالهم كأوقاف لبناء المستشفيات والمراكز الصحية ، وبالمقابل فإن مؤسسات التعليم العالى فى بلادنا مثل جامعة الخرطوم ومنذ عهد كلية غردون ومدرسة كتشنر الطبية ظلت رأس الرمح فى قضايانا الوطنية وفى ثوراتنا وانتفاضاتنا الشعبية ويكفى أن نذكر لها بالفضل والإمتنان مؤتمر المائدة المستديرة عقب ثورة اكتوبر الذى جسد أول نظرة موضوعية لأزمة الجنوب ولكن للأسف تغافل كل السياسيين عن تلك النظرة . إذاً هى شراكة مثمرة مابين كنانة والجامعة ... شراكة تقول إن السلام هو أول ما تحتاجه التنمية. ولهذا فإننا نتطلع ان يحقق معهد ابحاث السلام الذي هو احد مؤسسات جامعة الخرطوم النجاح المطلوب ونشر ثقافة السلام بالدراسات والبحوث الموضوعية ونقل تجارب الشعوب الاخرى في هذا المضمار، بالقدر الذي يمكن جميع اهل السودان يستوعبون تلك الثقافة الانسانية الرفيعة التي نادت بها كل الاديان السماوية ، ويعملون على نشرها ويجسدونها واقعاً يعيشونه.لذلك فإن جامعة الخرطوم وهى الجامعة الام لها اعداد هائلة من خريجيها نهلوا من علمها وحصلوا على اعلى الدرجات العلمية مما اهلهم لشغل المناصب الرفيعة ولعل دولة الكويت كانت من اوائل الدول التي شكلت مصدر جذب لهم وشاركوا مع ابنائها في صنع نهضة دولة الكويت الحديثة فهؤلاء يمكنهم في اي مكان ان يقدموا لهذا المعهد عصارة علمهم وتجاربهم في صناعة السلام في بلادهم. الخبر المفرح الثانى وسط أجواء الكآبة والعك السياسى هو إعتزام مجموعة شركات دال تأهيل وحدة التصوير الفوتغرافى بوزارة الثقافة وصيانة كنوزها من أرشيف الصور الفوتغرافية ، وهو أرشيف يعتبره المختصون ذاكرة الوطن وخزانة تاريخه السياسى الاجتماعي والثقافي ، ومن المؤسف أن هذه الوحدة التى كانت تتبع لوزارة الإعلام ظلت موضع التهميش والإهمال وافتعال الحرائق من قبل الحكومات المتعاقبة بسبب الكيد السياسى فكان الضحية هو الوطن مما حرم أجيالاً لاحقة من التعرف على تأريخ أجدادهم وآبائهم وأرشيف أوطانهم . ما من أمة تزدرى تاريخها مثل ما نفعل نحن فكثير من أساطين السياسة ورموزها رحلوا دون أن يكتبوا سطراً واحداً عن تاريخ كانوا أحد صناعه ، ولدينا فهم خاطىء مفاده أن كتابة المذكرات هو تمجيد للذات وتزكية للنفس وتطاول فوق الآخرين فى حين أنى أراه تواضع و(مسكنة) فى غير موضعها لذلك لا عجب أن الأجيال الجديدة لا تعرف عن الزعيم الأزهرى إلا (الصينية) التى أمام منزله ، وعبد الله خليل هو فى نظرهم (محطة) عابرة تتجاوزها الحافلات ، والصادق المهدى كما أجاب أحدهم هو مفجر الثورة المهدية الذى طرد الترك والإنجليز ! بل وأكثر من هذا فعقب الإستقلال تطوعنا بإنزال تمثالى غردون وكتشنر ووضعناها فى المخازن ، بدل أن نضعها فى المتاحف لنذكر الأجيال بقهرنا لأكبر دولة عظمى فى ذلك الوقت وهى بريطانيا ، فكان أن أخذتهما بلادهم ونحن فرحون بما فعلنا . ولقد رأيت عبر شبكة ال نت قبل فترة فيلماً وثائقياً حول محاكمات الشجرة الشهيرة التى أعقبت إنقلاب هاشم العطا فى يوليو 71 وأزعم أننى كنت الصحفى السودانى الوحيد الذى حضر تلك المحاكمات بجانب صحافيين من بريطانيا وفرنسا ومن بينهم الصحفى الشهير ايريك لورو وبعض الصحفيين المصريين . ولقد حزنت وتساءلت كيف يملك العالم ويتداول أرشيفنا السياسى بينما نحن لا نملك من هذا الأرشيف سطراً أو صورةً أو فيلماً ؟ ! كذلك فإن جامعة درم البريطانية الشهيرة تعتبر أكبر مستودع لتاريخ السودان الحديث فهى تملك قسماً كاملاً مختصاً بتاريخ السودان بما فيه من وثائق وعشرات الآلاف من الصور والأفلام مما جعلها قبلة للباحثين المهتمين بتاريخ السودان سواء كانوا من أبناء السودان أو من الدول الأخرى . إن هذه الخطوة الإيجابية التى أقدمت عليها مجموعة شركات دال هى خطوة كبيرة حتى لا نصبح أمة بلا ذاكرة ووطن بلا تاريخ وآمل أن يتمدد جهد دال بما لديها من علاقات دولية لإستعادة نماذج من أرشيفنا السياسى والإجتماعى من كل جامعات العالم ومراكزه البحثية مثل جامعة درم وجامعة لندن ومكتبة الكونجرس الأمريكى الشهيرة وليت الشركة تقيم معرضاً دائماً وثابتاً لهذا الأرشيف . إن ما أقدمت عليه شركتا دال وكنانة يمثل نموذجاً يجب أن يحتذى فى التواصل مابين البيوتات التجارية الكبيرة ومؤسسات المجتمع السودانى مثل جامعة الخرطوم ووزارة الثقافة بما يعود بالنفع على بلادنا . هذان هما الخبران المفرحان اللذان سعدت بهما فى أيام الكآبة والعك السياسى الذى نعيشه ، وإنى مع الأسف لم يعد لى أمل أن يتكرم علينا أهل السياسة بمثل هذه الأخبار المفرحة فهم لا يجيدون سوى قتل الأمل فى نفوسنا .