قرر الامبراطور الفرنسي نابليون بونابرت أن يغزو مصر عام 1798م، وقرر فى نفس الوقت أن تكون الغزوة على مصر غزوة شاملة على الشرق العربي، وأن تكون ذات هدفين: الهزيمة العسكرية الماحقة مع الاحلال الثقافي الكامل. ولهذا كانت السفن التى تحمل المدافع والذخائر تصحبها سفنٌ أخرى تحمل العلماء الفرنسيين وكتبهم. ورجع الامبراطور بعد ثلاث سنوات ساحباً جنوده نهائياً من مصر تحت الضغط العسكري البريطاني وضغوط المقاومة الوطنية المصرية، وخاصة مقاومة مشائخ الأزهر الشريف. ولكن لم ينسحب الامبراطور قبل أن يحقق معجزته، إذ وضع مصر بالفعل وربما نهائياً على خط الثقافة الغربية العلمانية ذات القاعدة المسيحية «النسخة الفرنسية» التى لا تنمو إلاّ بأكل الثقافة العربية الإسلامية فى علاقة طردية لا تزداد هذه إلاّ بتناقص تلك، حتى أن المؤرخين يؤرخون للعصر الحديث فى مصر بهذه الغزوة الفرنسية. ثم بعد أقل من خمس سنوات من رحيل «الفرنسيس» كما كان يسميهم المؤرخ العظيم الجبرتي، وثب على حكم مصر حاكم غامض الأصل لا يعرف معظم المؤرخين المسوغات التى جعلته فجأة يصير الرجل الأول فى مصر، ذلك هو محمد على باشا الذى سار حذو النعل بالنعل على طريق بونابرت بحجة تحديث مصر وتغريبها، وما لبث أن استقل «انتبه لخطورة ذلك» عن الخلافة التركية، وتبعه فى ذلك أبناؤه وأحفاده حتى عام 1952م عندما استولى الضباط الأحرار بانقلاب عسكرى على الحكم وألغوا ملك الخديوي. وحدثت أحداث جسام فى مصر قبل ذلك وبعده. ثوارت شعبية وحروب واحتلال أجنبي بسبب الديون وبناء لقناة تربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر «قناة السويس»، وسفرت المرأة وتبدلت أزياء الرجال وتضعضع الأزهر من كثرة وشراسة الهجوم عليه وعلى مناهجه العربية والإسلامية فى التعليم، وسميت كتب التراث بالكتب الصفراء، ونفروا الناس من دراسة التراث العربي الإسلامي على الوجه الموروث، وقام تعليم جديد على هدى هذه الأفكار، وأسست الجامعة المصرية التى قامت على أكتاف تلاميذ المستشرقين، وتراجع موقف المتدينين بعد أن أصبح التعليم الديني لا يقود الحياة وانحصر فى ركن قصي مسكين، وطغت التيارات العلمانية واللادينية وأصبحت شعار كل من يرغب فى التقدم والمدنية. ثم انفجر جدول السينما المصرية الذى أصبح المثبت والمعضد لهذه الأفكار الجديدة فى وقت مبكر من القرن العشرين، وأصبح الجيش الجديد الذى رضع من نفس اللبان هو اليد الباطشة والحارسة لكل هذه المعاني الجديدة التى سادت الحياة. وقام تنظيم الإخوان المسلمين منذ حوالى عام 1929م فى هذا الجو غير المواتي، وهو بطبيعته يتصادم مع هذا الواقع بل يريد تبديله، وبالتالى لم يكن مستغرباً اغتيال مرشده الأول الإمام حسن البنا في القاهرة عام 1949م. ثم والت الدولة اضطهاد الجماعة وسجنهم وتقتيلهم منذ عام 1953م إلى عام 2011م، عام الثورة المصرية الشعبية الحالية. سؤالي هو: ماذا بوسع هذه الجماعة ممثلة فى مرشحها للرئاسة المصرية الدكتور محمد مرسي أن تعمل في هذا المحيط الزاخر بالإرث العلماني العاتي الذي نما وتفاقم وتوطن وثبت في الأرض، واشتد عوده على مدى مائتين وأربع عشرة سنة؟ هل للجماعة من القوة العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية ما يجعلها تبدو مقبولة بعد أن تتولى مسؤولية الحكم «فالحكم شيء والمعارضة شيء آخر» حتى لجماهيرها التى انتخبتها فى ظل الواقع الداخلى الموصوف والمحيط الاقليمى الحذر المتوجس والقوى الدولية المعادية المحاربة؟ وهى الآن جاهزة بالطبع بحبالها المعروفة التى تكتف بها أعداءها وهى: هيومان رايتس ووتش وأمنستى انترناشونال ومحكمة الجنايات الدولية. وهل تستطيع جماعة الإخوان أن تسد هذه الثغرات الفاغرة لأفواها لأكثر من قرنين وحدها؟ أم تستعين بقوى دينية أخرى ذات رؤى مختلفة وبقوى علمانية ثائرة تقربها منها ضرورة الواقع؟ وهل هم مجتمعون يصلحون لعلاج أمراض هذا الديناصور الذى حقن عمداً وعلى آماد متطاولة بأوبئة فتاكة متعمدة؟ ودعك من علاج الديناصور.. هل يستطيعون مجرد إطعامه ريثما يفكرون فى إمكانية علاج أمراضه المزمنة الخطيرة؟ وهل يمكنهم أن يطمحوا مهما أوتوا من الخيال بعد علاجه واطعامه في أن يؤهلوه للمقاومة والنّصر؟ إن معجزة سيدنا موسى كانت عصاه التى لقفت كل ما أفكوا، وربما أنها موجودة الآن في مكان ما قريب من القصر الرئاسى، فليت مرسي يجدها فتعينه فى حل هذه المعضلة التى تحتاج لمعجزة كمعجزات الأنبياء. وأنا أكتب هذا العمود ليلة الجمعة قبل إعلان النتيجة بيومين، أقول: ليت المجلس العسكري يزوِّر النتيجة ويعلن فوز شفيق، لأن ذلك يبدو هو الحل الأمثل الوحيد المتاح أمام الدكتور مرسي!!