أذكر تماماً يوم التقيت ابننا الصديق الشاعر آدم يوسف تشاد فارع الطول مع نحول المهجوسين بالابداع غالباً، وانا هنا على وهم ان أرباب الشعر الحق تكون جسومهم بمثلما رأيت في صديقي آدم يوسف.. ضربة لازب. لذا لم أدهش كثيراً يوم اخبرني بأمر ديوان شعره، فقد توافقت رؤيتي له، مع (وهمي)، ولذا اندفعت نحوه متحمساً.. ثم تشيء الأقدار السعيدة أن أقوم بتدريس مادة الأدب السوداني لطلاب الماجستير في مركز البحوث بجامعة افريقيا العالمية.. لكم كان سروري ضخماً حين وجدته بين الطلاب. ثم بعدها توثقت صلتي به وصديقه عبد الله. وقد لمست فيهما نجابة ومعرفة عريضة وجدتها نادرة وسط طلابنا اليوم. في ذات يوم غير بعيد، جاءني يحمل عملاً قصصياً.. طالعته كرغبته، ببصيرة وامتاع ثم كتبت مقرظاً في القذاذات. لكم كان سروري باذخاً لما جاءني بالأمس القريب يحمل أشعاراً له.. قد شرح صدري كلامه الودود.. طالباً أن أطالعها.. متمتماً وهو يقدمها لي: هي أنفاس! الله.. الله! تيقنت أن روح الشعر العميق مرسوم على محياه المجهود، فأنت بمستطاعك أن تقرأ سطوره وخطوط تجاعيده معاً.. فتعلم قدر شاعريته وقدر ما يعانيه من برحاء المرض الممض.. مرض الشعر.. قبل البدن! أقبلت بشغف على المجموعة.. وهالني ما وجدته من المتعات، الرجل يقيناً (مسكون) بعشق وطنه تشاد.. يسوقه الشوق إليه عارماً.. ويخوض غمار معارك في سبيل رفعته ضارية.. يذود عنه في حماس لا يفتر، ثم يحلم جميلاً أن يلتقيه معافى، يعادي من يعاديه.. في صدام مشبوب.. ثم يفضح أرباب السلطان والاستسلام، يعترف لنا بأنه مهزوم بعشقه.. ثم يستطيب الهزيمة.. حين يحلو العداء. (اخيط بدمعاتي الأمل فتخيطني الأقدار كأنها الإعصار) أنت تجد جَلَد الشعر وأوار الصدام.. ورباط الجأش.. وخيوط الشوق إليه، ثم الأمل الممدود حتى المنتهى، ثم بعدها تعجب كيف توافر هذا الغنى لهذا العمر في ميعته! لكنك بعدها تتيقن أن المصائب والمصاعب.. تفعل الإعجاز وتبهر، وهذا وحده عندي سر الاقتدار، فما يجيء به الصدق يكون جميلاً ثم جليلاً يجد قبولاً وتقديراً. (أكتب في سجلك مواطن على خريطة تسمى وطن تدوس وجهه المحن يلوكه الشجن يغطي دربه الكفن شعبه من الفقراء ونصفهم غرباء وقصوره من قش) رأيت مع مرارات تجربة الشاعر التي توشحت الأحزان، أنك تجد رنين غنائية كنت أحسبها حتماً تلازم المتعات واللذات، أنت لا تجدها في رتل أشعار الغضب والرفض وروح المقاومة. الراجح عندي أن هذا مدخله القدرة اللغوية التي تطوّع العصيّ.. وتجعل البكاء عشقاً للوطن.. أهازيج فرد.. والوطن حبيبة مشتهاة.. يصيبنا الحزن لفراقها، ويدفعنا الشوق إليها.. لذيذاً. ثم توثقت صلتي بالشاعر في فترة مرضه الأخير كنت أخشى أن نفقده.. إذ أرباب العواطف المشبوبة سرعان ما يرحلون عنا في صمت. كان خوفي لقدر ما أصابه الضمور.. وكان خوفي لقدر ثقتي أنه مثال لمن أريده شاعراً حراً يمتلك زمام القضية.. القصيدة الوطن.. لكم جلست ضارعاً أدعو الله الصمد أن يسبغ ثوب العافية عليه، وأن يرحم شبابه. كان آدم غير مكترس.. بل يبدو غير مدرك.. مثلما تراه ساخراً من مرضه، أذكر أني لما أكلمه ناصحاً أن يستشعر فداحة الحال.. أجده يتمتم شارحاً أن مرضه الأكبر هو وطنه المهزوم المهزوز.. يريد له الشفاء أولاً.. بل هو حتماً سيشفى إن رأي بوادر عافيته.. وحريته، فهو الوطن الذي (تقرّر ودُّه في الخافقين): أبو تمام. ثم تماثل للشفاء.. وبدأت عليه العافية.. رأيت أن همّه الأكبر كان هذه الأشعار كيف يجمعها.. وكيف يوصلها للقارئين، ليعلموا قدر ما أحب وطنه. هنا رأيت لو كان للشاعر الحق (شكل) لرأيته متمثلاً في صورة صديقي آدم يوسف: النحول الشديد + الطول المفرط + العيون الغائرة + شرود البصر + الثقة التامة. وأنت تجد إحساس الاقتدار يدفعه في كثير للتباهي.. هكذا! في نصّه الشعري (الحقيبة) 2004، تجد متعة التعمق، في نص مضمخ بعطر الوطن (النافذ) الصارخ. ثم تبدو (الحقيبة) كالعِبء.. حملاً وإجهاداً.. انشغالاً بمحن الوطن المقهور، ولا يضيرنا أن يكون عشق الوطن عبئاً.. لكم في الحمل من متعة للرجال الصناديد، هذا مادام أفضل أخلاق الرجال التحمل، هي متعة تفوق الألم تستيسره. وفي الشعر القديم: ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا، هكذا يصير قيد الإحسان محموداً: (من حاول منكم البكاء في حمى أرضه.. من الغزوات المستحيلة إنها ثمّة خيبة محمولة على أكتافي تمر من فوق الجماجم الجراح الطين والنواح كعاشقة جليلة من يحمل الحقيبة) ثم يسعى (النص) للإجابة على السؤال، مقترحاً (لحمل الحقيبة) جماعات من الشهداء، أو يتامى الوطن.. أو الجلاد يطعن صدور الأبرياء، لكنه يعترف بأن هؤلاء ليسوا وحدهم من يحمل العبء.. الحقيبة. لو رأيت أن ترتب مقترحاً يحمل الوطن، فالأجدر أن تبدأه بالفاعل الجلاد الحاكم ثم تنحدر درجة ستجد ركاماً من صلفه.. زرافات اليتامى.. ثم لو انحدرت ستجد أشلاء الشهداء... هنا تعلم أن غاية العشق الفناء. أكثر ما يلقاك في شعر آدم يوسف هو هذه الحزنة الطافحة الكابية.. إضراب من مواجع الوطن العريض المهزوم في نفسه الشاعرة.. أفريقيا بجلالاتها.. ثم يترسم دروب شعراء أمثال الفيتوري.. ثم درويش وسميح، ثم لما يطبق الجوع بنواجذه على وطنه الصغير يتسع الجرح.. ثم تتفشى مواجع الذات الحزينة. تبدو هنا القضية أكبر منا جميعاً، هذا مدام هناك من يتربصنا.. من يترصدنا.. يريدنا عنوة أن نتقهقر.. أن نتقوقع أبداً.. أن نتوسل.. تموت فينا اللغة وتمحى الإشارات والانتماءات والبشارات: (أحمل لغتي أحب لغتي أقدس لغتي أفعل كل ذلك هنا في الحقيقة النائية بدمى.. بشعبي بالقنا لتعرف من أنا) هنا لا مناص من امتشاق السيوف التي نعرفها قاهرة.. خلقوها لجلاد الطغاة الجلادين الخبثاء.. الذين رشقوا دم الوطن المغلوب عليه.. تفضح مرارات الطغام المستسلمين قهراً وضعة.. تعري الزيف والمهانة ترشق ناراً باردة: (أواصل ممارسة الكتابة أدون على القلوب بغصن وردة وشعبي بلا وحدة يضاجع الدبابة) كأنه يرفض الانصراف المغيت عن معالي الأمور.. قضايا الوطن الساخنة، والانشغال بالسفاسف، مادام هو يعلم أنها الخديعة التي تدفع بعيداً.. تخلق الاستمراء.. والاستغراق في مصّ الدماء وجوقة اللهو.. والسلامة التي ما قتلت ذبابة! تستطيب لنا السكون في ركام الفقر والجهل.. لتنسحق غوراً آمال الوطن الجسام أمام عبث السلطان وبهارجه.. وشهواته. أمثال آدم في شعره ممن تهزهم الهزائم هم كثر ولكنهم لا صوت لهم.. يطمسهم جبروت السلطة وعشق السلطان! هم يصرخون في الوادي عميق الغور.. ولا من مجيب.. يجئهم الصدى رتيباً! ينفثون الآهات والمرارات.. زفرات حرّى من جوف مشحون بالألم.. والحمض. وأنت في طول هذا الشعر لا تجد إلا الوطن وسيعاً ووضيعاً.. ولا تجد إلا عذابات النفس الجياشة، لم أجد ما عاناه من عذابات المرض الممضّ لبدنه المنحور: (بلدي هذا المعبد المقدس وحيد مع تراتيل غنائي مع أشلائي) لكن الهزيمة لم تقتل الأمل البسّام.. نراه يلمع رأد الضحى.. بشارات خير نعلمها تجد سبيلاً في مستقبلنا: (لولا شروق الفجر لكنت أثور على القضاء والقدر وأكتب بدمي على الحجر عذابات البشر) ثم نراه يرنو بعيداً يستشف الرؤى يستنضح المأمول والفأل... نجد هذا ميسوراً في وجه المحبوبة (صغيرتي): (حبك يا صغيرتي يذكرني بالسفر البعيد بشجر متمرد.. يقف على الطريق.. فأرنو إلى وجهك في إشراق.. أعثر على خبز أولادي وطيف بلادي.. وأجد الصديق) قسم الشاعر ديوانه لمقاطع: أهازيج، ترانيم، فلسطينيات، أغنيات، تباريح، وأنت مع هذا تجد الوطن مبثوثاً منثوراً في كل المقاطع، ما يشي لتمكنه من مطلق إبداعه، ولا تعجب إن وجدت ريح الغضب في (فلسطينيات) تماثل غضبه لوطنه فالقضية واحدة.. وسلاح الجلاد والمقاومة واحد فيهما. إن أصدق ما تحصلته ميسوراً من مطالعتي هذه الأشعار هو هذا الطهر الشفيف ثم محض النقاء وصدق المقاصد.. أنت تجد هذا وافراً ولا غضاضة.. فالنار تصقل.. والنار واحدة الضرام! هنا.. وهنا.. وهناك! كانت لحظات بالغة المتعة، قد حبانيها صديقي الشاب آدم يوسف تشاد جعلتني أطوف مرابع نفسه الذاكية المضخمة بطيب الوطن.. ثم بنار البعد عنه.. النار التي تأكل الحشا.. النار التي تطهرنا من الدنس! أنا أنظر بعيداً.. يوماً سيأتي، يلمع فيه اسم شاعرنا، يسلك سبيلاً يرضاه لنفسه دون بوار الاقتداءات، ثم يفلح في خلق لغة جديدة.. حين نطالعها.. نراه فارعاً وسط سطورها.. وقتها نتهلل سعداً وأملاً حينذٍ!! ويا بشرانا بك.. ويا فرحي أيها الشاعر.. الوعد. جامعة إفريقيا مركز الضاد للدراسات العربية