كانت الصحفية جيهان العلايلي مصرية الجنسية من الذين شاركوا السودانيين محنتهم في دارفور خلال سنوات النزاع المريرة، فقد كانت تعمل في راديو الأممالمتحدة بالخرطوم، والتي كانت تبث بعض برامجها من الاذاعات المحلية في دارفور. لقد ظلت جيهان تجري معي لقاءات حول مواقف اطراف النزاع والأوضاع الانسانية وما يمكن أن تساهم به القدرات الاقليمية والدولية في تناول الأزمة باتجاه حلول قابلة للاستدامة. كنت أجد في لقاءاتها مهنية رفيعة ولا أدهش فقد عملت حينا من الدهر في هيئة الاذاعة البريطانية (القسم العربي) بمعاييرها المهنية الصارمة. على أن جيهان من الناحية الأخرى كانت تنتمي لقوى التغيير في مصر، وقد سمعت منها مطولاً عن حركة كفاية واحتمالات تطور مساهماتها في التغيير السياسي بمصر. كان حماسها طاغياً لمبدئية التغيير، ولكني مثل السودانيين في مجملنا كنا نستبعد أن يحدث التغيير الذي تنشده حركة كفاية، فقد بات النظام المصري راسخاً على الأقل في مستوى الإعلام والأمن والعلاقات الخارجية، وفي كل الأحوال ما كان التغيير في مصر يأتي ضمن أولويات متابعتي. للصدق كنت ضمن آخرين مهتمين بالمساهمة في بناء عملية سلمية ذات مصداقية في دارفور بمشاركة كل السودانيين بمن في ذلك أطراف النزاع، وبدعم انساني ولوجستي من المجتمع الاقليمي والدولي، بيد أني ما نسيت حماس جيهان للتغيير في مصر، وهي تنهي جملها القاطعة ب(دا مش معقول.. كفاية بأ..) لقد ظلت الاحداث تؤكد مقولتها حتى اشتعلت مصر ثورة اجتاحت حسني مبارك بمؤسساته التي بدت في بال أهل الريف المصري خاصة قوية ومستقرة. ترددت على مصر أو قل القاهرة مرات عديدة، وفيها من الناشطين من ساعدونا في بلورة اتجاهات الحل للأزمة، بزاويا حقوق الانسان، والعدالة الانتقالية، وتضييق فرص جرائم الحرب بتقصي الحقائق والمناصرة.. الخ. فيما كنا نلتقي ايضا مجموعات التأثير في العلاقات السودانية المصرية رسمية وشعبية واعلامية، بيد أني ما نسيت ما كانت تقول به جيهان. ضمن النكات الكثيرة والمفارقات التي أرخيت لها أذني في القاهرة، نكتة تقول ان المشير أبو غزالة أتى ماراً بجهة رمسيس وهو تمثال أطلق اسمه على محطة المواصلات العامة، وفي مترو الانفاق اطلق على ذات المحطة اسم محطة حسني مبارك. عندما اقترب أبو غزالة من رمسيس سمعه يحتج من الوقوف زمناً طويلاً ويعلن انه بحاجة الى دابة للركوب عليها. مع دهشته ذهب أبو غزالة مسرعاً ل (الرئيس) حسني، وأخبره كيف ان رمسيس تحدث محتجاً، ولصعوبة تصديقه اقترح ان يذهبا معاً الى حيث رمسيس. عندما اقتربا منه، صرخ رمسيس عالياً وقائلاً (أنا مش طلبت حمار..). تلك لم تكن نكتة، بل تصوير حالة مصر العريقة بتماثيلها والمميزة بصبرها وطغيان الحكام عليها، استطاعت أخيراً أن تعلن رغبتها في الاحتجاج على غير المحتمل من الاوضاع. وعندما لم يسمع حسني أو يستجيب كانت النتيجة المتوقعة أن يصرخ الشعب محتجاً، ويحدث التغيير ويرمي مبارك في زبالة التاريخ. عندما التقيت جيهان العلايلي مرة أخرى في القاهرة قبل الأحداث الأخيرة، حدثتني مجدداً عن كفاية، وقوى التغيير الأخرى، وهي تنمو رغم قمع النظام، ولكنها لم تكتف بذلك. لقد دعتني الى مقهى (ريشي)، وهو مقهى تاريخي كان يلتقي فيه كتاب مصر ومثقفوها وصناع الرأي العام فيها، والمقهى اليوم يفوح منه عطر التاريخ وهو عبارة عن متحف مضمخ بالثورة الفكرية والثقافية والسياسية للمصريين في عشرينيات القرن الماضي، ومعلق على جدرانها لوحات مصورة لرواد المقهى، من تفكر به من مثقفي مصر الكبار وكتابها ولا تجده هناك؟. ما اكتفت جيهان بذلك أيضاً بل دلتني على قائمة من الكتب والمكتبات التي تحوم فيها وحولها رائحة مصر القادمة، حقاً كانت جيهان مؤمنة أن التغيير قادم من خلال التفاعل الفكري والثقافي للتيارات التاريخية في تنوعها واختلافها. من ناحيتها أيضاً كانت العلايلي ناقدة لمصر الرسمية وهي تشيد بالجهد المدني الذي يبذله السودانيون لتفادي الاسوأ في تاريخنا المعاصر، بكوننا ظللنا اصراراً الا ندع النزاع في دارفور يتجاوز حدود التعبير عن الحقوق الدستورية المتفاوض عليها بين الاطراف سياسياً، والا نسمح للدمار ان يعم، وذلك بفتح المزيد من منابر الحوار والتفاوض. كانت سعيدة بأن ترى سوداناً جديداً تحت التكوين، سودان الرغبة في تجاوز التاريخ المتواطئ ضد حقوق المواطنة والتنوع، سودان الحقوق للاجيال الصاعدة. في هذا السياق اهدتني رواية من تأليف روائية مصرية، تؤسس فيها للانتهاكات الانسانية الجسيمة للادارة الأجنبية في مصر، تجاه السودانيين بالقهر والاستلاب النفسي والثقافي حيث جعلت عناصر سودانية تخوض حروباً في المكسيك لا تضيف للسودانيين الا البعد عن هويتهم الاساس. لقد كانت الرواية حسب قراءتي محاولة للتعريف بما حدث، والاعتذار الانساني لما حدث، وفي ذلك شاركتني جيهان الرأي بأن الشعب السوداني في وسعه اليوم ان يتجاوز الماضي مهما كان مظلماً وظالماً ويبدأ من جديد مشواره نحو المستقبل في تفاؤل وثقة. إن المؤسسة التاريخية التي تحطمت مؤخراً في مصر لا تعني غير تحطم العلاقات السابقة القائمة على القاعدة الاستعمارية، وان بداية جديدة لمصر على وشك ان تصبح حقيقة. من ناحيته فان شعب السودان كما شعب مصر عليه أن يبدأ بالتغيير، وقد بدأ فعلاً منذ وقت طويل بثورات وهبات شعبية وما توقفت في أية مرحلة من مراحل البناء الوطني. لقد بدأ المصريون انطلاقتهم الثورية اليوم من رمسيس التاريخ، والصبر على المحن، ورغبة التغلب على القمع، وهكذا تمكنت الديمقراطية ان تجتاح المؤسسة الرسمية، ومصر اليوم على أعتاب دستور جديد، وإذا ما أفلحت وستفلح كأنما تبدأ تجربتها الجديدة من حيث وقفت القوى المصرية السياسية والفكرية في جدالاتها العويصة حول مستقبل مصر في عشرينيات القرن الماضي. لقد نجحت مصر في إزالة الملكية، وكان ذلك قراراً مصرياً خالصاً، بأمل التخلص من جوهر الضعف امام الاستعمار. كانت ثورة يوليو فرصة نادرة ساهمت في إنهاء الاجواء الاستعمارية في افريقيا وآسيا، وتوسعت القاعدة التحررية في مؤتمر باندونق (1955)، حينما اتفق المؤتمرون على أطروحة العالم الثالث تمييزاً له عن العالمين المتنافسين على النفوذ الدولي، العالم الغربي بقيادة الولاياتالمتحدة والعالم الشرقي بقيادة الاتحاد السوڤيتي. ربما أخطأت مصر اختيار نموذجها التأسيسي الجديد بعد يوليو 1952م عندما اختارت النظام الشمولي بخيارات تنموية وتحررية بتكلفة عالية. وقد أثبتت التجارب التالية انه نظام الى زوال كما حدث للاتحاد السوڤيتي نفسه. برغم ذلك الخطأ التاريخي فإن الشعب المصري ضمن شعوب العالم الثالث أدرك ان أوان التغيير قد حان، ومن ينسى نقد المثقفين الحاد لنموذج الحزب الواحد في عهد السادات خاصة، بالأفكار والأشعار، وقد ورد في احد أبيات قصيدة طويلة: (بوجهه المعوج آخر الأغوات.. يصرخ في الاخوة والاخوات) واليوم قد اكتملت دائرة التغيير في مصر بالثورة الشعبية، الانتخابات، الدستور، تصحيح المواقف التاريخية. لعل الثقة التي أولاها الشعب المصري لتيار الاخوان المسلمين وهي ثقة مستحقة بالنضالات التاريخية، إلا أنها مجرد معبر لواقع جديد فقد تجاوز الشعب قاعدة النضال الاخواني القديم، وستصبح التجربة كلها تحت الشمس وتحت الاضواء والمراقبة الشعبية والإعلامية، وفي هذا السياق فإن الاخوان لا يمكنهم الا التعبير عن انتمائهم لمصر رمسيس والارث القديم. أما في حالة القوى الأخرى فليس أمامها ايضا الا تطوير تجاربها السياسية الاقتصادية في الواقع المصري الجديد ديمقراطياً. بذلك تكون مصر الديمقراطية أكثر انشغالاً بقضاياها دون أدنى شعور بالمسؤولية تجاه السودان. لقد تجاوزت مصر بالديمقراطية التحالفات القديمة التي بدأت بالدعوة الى تحالف وحدة وادي النيل لمقاومة الاستعمار، وسارت على ذات الخطى الدعوة الى الوحدة والتكامل، والحريات الاربع لحماية مصالح مصر. إن مصر الديمقراطية تحمي وحدتها ومصالحها بالديمقراطية والحوار والتفاوض، وبذلك ليس امام السودان في علاقته بمصر الا امتلاك القدرة على الندية والشراكة والمبادرة والحوار والتفاوض وذلك هو التحدي الذي يجعل السودان اليوم في مهب عواصف الديمقراطية. إن التأسيس الجديد للسودان قد يبدأ من فترة ما قبل الإدارة التركية بالحوار والبحث في تطوير علاقات المكونات السودانية فيدرالياً عبر التداول السلمي للسلطة ديمقراطياً. وتبدأ الشراكة الجديدة بين البلدين على قاعدة السودان الافريقي الحاضن للحقوق العربية في القارة الافريقية، ومصر ذات الموقع الاستراتيجي التي بوسعها تسويق افريقيا للعالم، ولعله بهذه المعادلة تبدأ مشوار علاقات الجوار السودانية المصرية بعد اكتمال الثورة في البلدين بالحوار حول مثلث حلايب، ومياه النيل والتنسيق الدولي لمصالح الدولتين ودول المنطقة وغيرها من المسائل.