استعرضنا فى الحلقة السابقة آثار غياب الرؤية الكلية، والبرنامج التفصيلي المحقق لتلك الرؤية لدى من انخرطوا بالحركة الشعبية من أبناء المنطقة على مسار العملية التفاوضية . ونجمل تلك الآثار فى الآتي : «1» أنهم أوكلوا رئيس الحركة الشعبية د.جون قرنق للتفاوض نيابة عنهم فى مفاوضات السلام بكينيا ... وفقاً للتفويض الذي مُنح له فى مؤتمر كل النوبة المنعقد بكاودا فى مطلع ديسمبر 2002م . «2» ان التفويض جاء بعد سبعة عشر عاماً من التحاقهم بالحركة الشعبية ، وهنا يحق لنا أن نتساءل مجدداً من أجل ماذا كانوا يقاتلون طيلة تلك الفترة ؟ وعلى أى أساس التحقوا بالحركة الشعبية ؟ . «3» ان التفويض اشتمل فقط على المطالبة لهم بحق تقرير المصير للمنطقة ، بمعنى أدق الاحتفاظ لهم بحق المطالبة بالالتحاق بالجنوب . «4» والأثر الأكبر هو أن من تنعدم لديهم الرؤية لما يريدون ، تنعدم بالتالى لديهم معايير التقويم والقياس لما يحققون من مكاسب تفاوضية ، أو ما يحققون من انجازات ، فتصبح العملية التفاوضية أشبه ما تكون بالتجارة الهندية «أو تشاشة أصحاب الطبالى» ... ووصفنا هذا الوضع بأنه أشبه ما يكون بانعدام كراسة الاجابة النموذجية لدى المصححين ، وبالتالى فان التقويمات والتقديرات بشأن العملية التفاوضية ستكون متسمة بالذاتية والشخصانية أكثر من كونها ترتكن الى الموضوعية أو العقلانية وهو أمر له خطورته على العملية التفاوضية وعلى مخرجاتها . «5» أعدنا التأكيد على الموقف الكلى للحركة الشعبية وأثبتنا أن الحركة الشعبية وعند المحك سرعان ما تعود لتتخلى عن شعارها الكبير «السودان الجديد من نمولى الى حلفا» لتكون أنانيا 3 ... ومن شابه أباه فما ظلم ، وبعبارة أكثر وضوحاً ان الموقف الأصلى للحركة الشعبية فى سقوفها التفاوضية ليس لديه خط أحمر يمثل موقفها المبدئ سوى المطالبة بالانفصال وان كل ما عداه لا يعدو أن يكون موقفاً تكتيكياً . «6» تأسيساً على ما سبق فان الحكومة وباعترافها الصريح والواضح بأن لجنوب كردفان قضية عادلة تستحق المعالجة فى اطار محيطها الوطني الذي تشكل مسمار نصه ، استشعرت مسئوليتها تجاه ارساء دعائم سلام مستدام ، فعمدت للتفاوض وفق استراتيجية مؤداها أن تصل الى وثيقة اتفاق يحدد مشكلات المنطقة بوضوح ويضع خارطة طريق لحل تلك المشكلات ، ويسعى لاشراك مواطنى المنطقة باعتبارهم أصحاب المصلحة الحقيقية فى عملية السلام من خلال تقييم مدى نجاعة تلك الحلول، بل وفتح الباب واسعاً لهم لاستكمال أى نواقص فى تلك المعالجات ، وهى العملية التى أسمتها الاتفاقية بالمشاورة الشعبية، وجرى التداول على تسميتها بالمشورة الشعبية ، صحيح أن المصطلح كان جديداً على قاموس السياسة السودانية ، والأمر الجديد بطبيعته يثير الكثير من التساؤلات حوله ، وقد تتباين التفسيرات بشأنه ، ولكن الناظر للمفردات المكونة له فى الاتفاقية يستطيع أن يتبينه بجلاء دون التباس ، وأعتقد أن المقال المشترك لكاتب هذه السطور والحلو الذي نشرته الصحافة السودانية ، والذي سنعيد نشره ضمن هذه الحلقات يبين هذا الأمر بوضوح ، كما أن المساهمات الصحافية التى خطها يراع الأخ الأستاذ / مكى بلايل فى الصحافة السودانية وغيره من الكتاب والمهتمين تذهب الى ذات الاتجاه ، وهنا لا بد لى من أن أنوه الى الجهد المتميز الذي بذله معهد دراسات السلم بجامعة الخرطوم بقيادة د. محمد محجوب هارون وعبر خبرائه الوطنيين والأجانب وعلى رأسهم البروفسيور الطيب حاج عطيه والبروفسيور الكرسنى والبروفسيور المدنى وبقية العقد الفريد من خبراء المعهد ، والدكتوره كريستى ، علاوه على مساهمات قادة القوى السياسية والاجتماعية بالولاية فى الورشة التأسيسية لتحديد الاطار المفاهيمي لعملية المشورة الشعبية التى انعقدت بكادقلى فى يونيو 2010م ، جميعها تبين وتنير الطريق بشأن تلك القيمة الشورية الراقية التى تتضمنها تلك العملية والتى استهدفت فى الأساس تأمين عملية السلام نفسها باستدامته عن طريق اشراك أصحاب المصلحة الحقيقية فى التقويم والتقدير للمعالجات التى وضعت للمشكلات، بل وفى اقتراح معالجات جديدة واضافية، الغرض من كل ذلك تجنيب المنطقة ميراث الجنوب فى أن تلد كل حرب حرباً جديدة ، أو أن تتناسل الأنانيا من أنانيا 1 الى أنانيا 2 ثم أنانيا 3 والتى ظهرت فى طبعة جديدة تحت مسمى الحركة الشعبية، أيضاً فان تجربة تطوير اعلان المبادئ الموقع مع فصيل محمد هارون كافى الى اتفاقية والتى تميزت بمشاركة سياسية واجتماعية واسعة كان لها أثرها فى الخروج بوثيقة أكثر تعبيراً وافصاحاً عن مشكلات المنطقة وأجلى صورة فى تبنيها لحلول عملية وواقعية لتلك المشكلات . فكانت المقاربة أعلاه هى المحاولة الجادة لمعالجة مشكلة انعدام الرؤية الكلية والبرنامج لدى حملة السلاح من أبناء المنطقة الذين التحقوا بالحركة وأوكلوا مهمة التفاوض لغيرهم عندما آن أوانها ... فكان السؤال هو كيف سارت عملية انفاذ الاتفاقية ؟. رقصة التانغو شكلت عملية انفاذ وتطبيق اتفاقية السلام امتحاناً مستمراً للصبر ، وتحدياً يومياً لرصيد الحكمة ، ليس فقط بالمنطقة ، ولكن فى مجمل الأداء الكلى لمسيرة انفاذ الاتفاقية . فالمعروف أن الاتفاقية ، أى اتفاقية ، ما هى الا مشروع عمل لطرفين أو أكثر التقت ارادتهما لانفاذ عمل محدد وفقاً لالتزامات متبادلة تقع على عاتق الطرفين ، لذا لا يتصور والحالة هذه أن تكون مثل هذه العملية هى مجرد التزامات تقع على طرف واحد يكون مسئولاً عن سائر أنشطة وعمليات التنفيذ ، فيما يكون موقع الطرف الآخر هو المتفرج فى حده الأدنى ، أو الأستاذ المصحح فى حده الأعلى ورصد درجات الأول ... ستكون أى عملية أخرى ، ولكنها ليست العملية المسماه «بانفاذ اتفاقية السلام» ، ان أقرب مثال يمكن وصف هذه العملية به هو ذلك المثال الأرجنتينى «IT TAKES TWO TO TANGO» تحتاج لشخصين لرقص التانغو ... ان تصورى لمسار التنفيذ ومن واقع خبرة عملى اليومي فى لجان الحزب والحكومة المسئولة عن متابعة انفاذ اتفاقية السلام ، ان تصور الطرف الآخر لتلك العملية «انفاذ اتفاقية السلام» لا يعدو أن يشابه صورة عجوز الدينكا المتكئ على جذع شجرة يستمتع بتدخين غليونه فيما يهتم رعاته بأبقاره. ورغم أن الخبرة البشرية أثبتت أن عملية بناء السلام أصعب بطبيعتها من عملية صنع السلام لجملة من الأسباب الموضوعية منها : «1» التوقعات العالية من عملية السلام نفسها ففى الغالب أن المواطنين يتوقعون أن تغييراً سريعاً سيحدث فى حياتهم ، بمثل ما سكتت المدافع وزخات الرصاص ، فبذات السرعة يتوقعون أن تشق الطرق وتشمخ المؤسسات الصحية والتعليمية ، وهى عملية بطبيعتها تقتضى وقتاً ، فلا تملك أن تنشئ مدرسة فى يوم واحد ... ولكن خلال جزء من الثانية يمكن أن تتوقف عن اطلاق الرصاص وهكذا . تتصل هذه المشكلة بسلسلة طويلة من المسائل ذات الصلة بها ، تخطيط المشروعات المناسبة ، تحديد الأولويات والأسبقيات ، حشد وتعبئة الموارد المالية اللازمة ، القدرة التنفيذية ، كل هذه المسائل تشكل محددات ، وقد تصير مهددات لعملية السلام نفسها اذا لم يتم التعامل معها بشكل جيد ، وسننظر لاحقاً فى كيفية ادارتها . «2» التفسيرات المختلفة للنصوص المراد تنفيذها ، رغم أن الاتفاقية «اتفاقية السلام الشامل » عمدت الى التفصيل الدقيق المقترن بجداول زمنيه صارمة الا أن ذلك لم ينجها من هذه المشكلة كما سنرى لاحقاً . «3» رؤية كل طرف لمسار نهاية التنفيذ ال «END GAME» ماذا كان يستبطن كل طرف لهذه النهاية ؟ . «4» ميراث الحرب السابقة بكل ما يحمله من دماء وذكريات مؤلمة ... التحدي هنا كيف يمكن أن يتحول أعداء الأمس لشركاء اليوم ؟ كيف تبنى الثقة؟ . كل ما ذكر أعلاه وغيره من سلسلة طويلة من التحديات تحتاج لشراكة حقيقية ليتمكن الشريكان من أداء التانغو ... بدون طرفين لا يمكن أدائها. الصورة الكلية لأداء الحركة الشعبية يشير الى الآتي : أ/ تقاعس الحركة عن القيام بأى واجب والاكتفاء بدور الأستاذ المصحح «عقلية وصورة عجوز الدينكا السابق الاشارة اليها» . ب/ تريد الحركة بأن تكون حكومة ومعارضة فى ذات الوقت ... فهى قد حجزت مقاعدها داخل أروقة الحكومة ، ولكن تريد فى ذات الوقت أن تمارس دور «خديجة وصافة» مع المعارضة دون أن تتجشم عناء النهوض بما يليها من التزامات . ج/ عجزها عن التحول من حركة عسكرية «مليشيا عسكرية» الى حزب سياسي وهو أمر له أثره المهم على جملة من الأعمال المرتبطة بعملية التحول الديمقراطي وارساء المصالحة الوطنية الشاملة والتعافى الاجتماعي . نعود الى صورة الأوضاع بجنوب كردفان ... وأترك مهمة تقييم الأداء العام لآخرين. موت قرنق والهروب الكبير أدت الوفاة المبكرة لزعيم الحركة د.جون قرنق فى حادث طائرة الهليكوبتر اليوغندية بعد حوالى الثلاثة أسابيع من أدائه القسم نائباً أول لرئيس الجمهورية ورئيساً لحكومة الجنوب ، أدت لحدوث فراغ قيادي كبير داخل الحركة ، فقرنق اتفقنا معه أو اختلفنا لا يمكن انكار زعامته الطاغية والملهمة للحركة ، فالحركة الشعبية كانت هى قرنق ، وقرنق هو الحركة الشعبية ، وحتى لا أتهم بالتجنى فاننا نؤسس هذه النتيجة على جملة من الاثباتات هى : «1» غياب المساهمات الفكرية للحركة حول تصوراتها لواجبات المستقبل «كيفية اعادة بناء الدولة بعد الحرب» سوى الأحاديث والخطب التى كان يلقيها قرنق فى المناسبات المختلفة ، ففيما عدا مانفستو التأسيس الذى أعلنته الحركة الشعبية غداة اعلان ميلادها والذي اتسم بالطابع الشيوعي متأثراً بنظام الرئيس الأثيوبي منقستو هايلي ماريام ... فليس هناك أى جهد يمكن الوقوف عليه، ولعل أطرف ما قيل بشأن ذلك تعليق أدلى به السيد كوستى مانيبي وزير الشئون الانسانية الأسبق فى حكومة الوحدة الوطنية حيث قال : «ان النسخة الأصلية لرؤية وبرنامج السودان الجديد فى رأس د.جون قرنق وفى كمبيوتره الشخصي فقط ، وللأسف الاثنان تعرضا للحرق فى حادث الطائرة ، ولا توجد نسخة منها محفوظة فى مكان آخر، عليه فان رؤي وبرامج كثيرة للسودان الجديد يتحدث بها الكثيرون ولكن أخشى أن لا يكون لها صلة بالنسخة الأصلية » . فكما ذكرت من قبل فان المنفستو التأسيسي للحركة الشعبية الصادر فى 1983م لم يسعفها كمعين فكرى لمواجهة وادارة تحديات ومشكلات عملية الانتقال من حركة غوريلا لحزب سياسي حاكم بالجنوب ومشارك بنسبة معتبرة فى الشأن الوطني العام بالحكومة الاتحادية ، علماً بأنه لم تتوفر للحركة الشعبية أى خبره للادارة المدنية فى المناطق التى كانت تسيطرعليها رغم الدعم الأجنبي والذي وفر موارد مالية كبيرة لانجاز تلك المهمة ... وهو الأمر الذي انتبه له قرنق وسعى لمعالجته بتكوين مجموعات عمل لوضع تصور لعملية الانتقال من الحرب الى السلام .... فأصدر فى 11 نوفمبر 2003م موجهات تستهدف كما أسماها فى ذلك الأمر تعزيز قدرة الحركة الشعبية لادارة عملية الانتقال من الحرب الى السلام ، فلم تبذل تلك الفرق جهداً يذكر، فقد تجلت فيهم الحكمة القائلة «فاقد الشئ لا يعطيه» ... ولاحقاً تم معالجة هذا الأمر بجهد مشترك شاركت فيه حكومة السودان والمانحين من المجتمع الدولى علاوة على مشاركة ممثلين من الحركة الشعبية ، وأنجز ذلك الفريق الثلاثي وثيقة عرفت باسم «الجام» «البعثة المشتركة لتحديد احتياجات مرحلة ما بعد السلام» ... وهى عبارة عن وثيقة غاية فى الدقة تم فيها رصد وتصميم كل المشروعات المطلوبة لاعادة التأهيل والتعمير وسائر مطلوبات عملية بناء السلام ... فان كان ذلك هو حال الحركة الشعبية «الأم» ، فيمكن حينئذ تصور حال الرفاق بجنوب كردفان . «2» غياب المؤسسية داخل مؤسسات الحركة الشعبية ، وقد كفانى الدكتور لام أكول بمؤلفه «الثورة الشعبية لتحرير السودان " ثورة أفريقية" » الناشر مكتبة مدبولى 2008م حيث جاء فى صفحة «351» من ذلك الكتاب عن مؤسسات الحركة ما يلي : «القيادة العسكرية العليا هى المؤسسة الوحيدة فى الحركة الشعبية التى يمكن أن يقال ان لها شبه بالمؤسسات السياسية ، من المفترض أن تكون أعلى جهاز لرسم السياسات ولكن الحقيقة مختلفة جداً عن هذا ، والآن معروف للجميع داخل الحركة من ضباط وجنود بأنها لم تعقد أى اجتماع رسمي» . أيضاً فان مداولات اجتماعات رمبيك فى الفترة من 28 نوفمير الى 1 ديسمبر 2004م والمواجهات الحادة التى تمت بين قرنق وسلفاكير ، على خلفية مطالبة الأخير بأن يكف رئيس الحركة عن حمل الحركة داخل حقيبته وحاسوبه الشخصي ، فى اشارة بليغة لغياب المؤسسات داخل الحركة . وفاة قرنق بموجبها صعدت قيادة جديدة للحركة الشعبية فى أغسطس 2005م فأتى سلفاكير رئيساً للحركة ، ولقد ترتب على قيادة سلفاكير للحركة الشعبية نتائج غاية فى الدرامية ، ففر عبد العزيز الحلو لأمريكا وتبعه ياسر عرمان وهرب نيال دينق الى بريطانيا ... جميعهم بمبرر أنهم يودون اكمال دراستهم ... ما هى أسباب ذلك الهروب الجماعي الكبير وكيف سارت الأمور بالحركة الشعبية الأم وبجبال النوبة فهذا ما سيكون موضوع حلقتنا القادمة بإذن الله .