نحمد الله ونشكره أن جعلنا في صحبة الخيرين وكبار السن والذين يحملون العلم ويتصفون بالحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، والذين لا يبخلون بالعلم والحكمة، قطعاً سيستفيد منهم الذين جاوروهم، والحمد لله فإن تجربة هيئة جمع الصف الوطني والتي تراوحت فترتها بين سني 7002 وحتى 9002م كانت بالنسبة لي جامعة كاملة جديدة في حياتي، فإن شخصي الضعيف والضعيف جداً والأصغر، وأقل خبرة وعلم أكرمه الله أن يكون بجانب «العمالقة» في العلم والأدب والخبرة أمثال المشير عبد الرحمن سوار الذهب والشيخ أحمد عبد الرحمن، وبطل هذا المقال المرحوم مولانا خلف الله الرشيد رئيس القضاء السابق الذي توفى الاسبوع الماضي، لا شك أن عضوية هيئة جمع الصف الوطني تزخر بكثيرين من أهل العلم والمعرفة، ونسأل الله أن يديم عليهم الصحة والعافية وأعزي نفسي وأُعزيهم في مولانا خلف الله الرشيد. وليسمح لي قرائي الكرام أن أفرد هذا المقال بكامله شرحاً لبعض ما أعرفه عن الفقيد من خلال معايشتي له في الآونة الأخيرة تيمناً بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم أذكروا محاسن موتاكم، واذا إنبرى أي شخص في هذه الهيئة ليكتب عن تجربته مع هيئة جمع الصف الوطني وعن الفترة التي قضاها مع مولانا خلف الله الرشيد، لتوارى قلمي، لضعفه في التعبير ولنسيانه لكثير من فضائل مولانا الفقيد خلف الله، وحتى الآن أعتبر نفسي الوحيد من عضوية الهيئة الذي يشير من وقت لآخر عن الهيئة، ولكن العجب العجاب ان كتب عنها سعادة اللواء عثمان عبد الله بقلمه السيّال إذن لسال اللعاب إعجاباً في إعجاب. أول مرة التقى فيها بمولانا خلف الله الرشيد عندالاجتماع الاول للهيئة في أواخر سنة 6002م، ومنذ أن رأيته رأيت شخصاً مغايراً لكثير من القضاة العابسين، ومغايراً لكثير من كبار السن، الذين يجعلون حواجز بينهم والآخرين الذين يصغرونهم بكثير، أحببته في الله من أول جلسة، وأحسب أنه بادلني نفس الشعور، وذلك من خلال الصداقة التي امتدت بيننا حتى فراقه، وأذكر أن آخر مرة رأيته فيها عندما زرته في مستشفى القلب قبل اسبوع من وفاته، حيث قابلني بنفس البشاشة والهشاشة والدعابة التي يعطف علىّ بها، أخذت إذناً لمدة عشر دقائق لظروفه المرضية، ولكني مكثت معه ساعة دون أن أدري، يسألني عن آخر مقالاتي وماذا سأكتب في المقال القادم، وعلى فكرة فإن مولانا خلف الله الرشيد من المداومين على قراءة مقالي الاسبوعي بانتظام، ولم يكتف بذلك، وإنما ظل يهاتفني باستمرار معلقاً ومشجعاً لي، وكنت أقول له ما دام هذا تعليقك فإني أضمن بأن لا مساءلة قانونية بالنسبة لي من خلال خبرتك القانونية، وأصدق قرائي القول أن مولانا خلف الله هو من وراء تشجيعي للاستمرار في الكتابة بانتظام، ومعه المهندس محمد خميس إذ ظل كذلك حتى آخر مقال يتصل معلقاً أمد الله له في عافيته وصحته. كانت فترتنا في الهيئة مع مولانا خلف الله الرشيد ثرة للغاية، فكان هو ومولانا أحمد عبد الرحمن وشخصي الضعيف نواباً للمشير سوار الذهب في الهيئة، ولكن الشيخ أحمد عبد الرحمن لم يواظب على الحضور منذ الأيام الأولى لظروفه، وتصادف أن المشير سوار الذهب كان يعاني من وعكات صحية. بقينا شخصي الضعيف ومولانا خلف الله الرشيد ندير الهيئة مع أمانة الهيئة بقيادة البروفيسور محمد سعيد الخليفة وزميليه الشنقيطي وسعيد المهدي ويقود العمل التنفيذي اللواء عثمان عبد الله، فعند الاجتماعات كان مولانا خلف الله الرشيد يصر إصراراً شديداً على أن أكون رئيساً للجلسات رغم إعتذاري الشديد، ولكنه يصر على أن يجلس بجانبي، ولكنه بدعابته ومرحه، يُدنيني عليه ثم يرمي بنكته لا أتمالك نفسي من الضحك فكان الإخوة والأخوات الأعضاء، يسألونني بالله مولانا قال ليك شنو. ولم أستطع أن أبوح بنكاته، كان يتغيب عن الإجتماعات ليعطيني فرصة لإدارتها، وعلمت أن الرجل يريد أن «يكدرني» يعلمني كيف أقود الناس في الاجتماعات، وهذا ما علمته بإشارات خفيفة منه مؤخراً، لعمري مثل هذا التصرف في هذا الزمن ربما لا يجده الولد من والده، زمن الكراهية والبغضاء والحسد، مع الإشارة إلى أين ينتمي خلف الله جغرافياً وإلى أين أنتمي، وإلى أي حزب ينتمي هو وأي حزب أنتمي ، وأي مجايلة تجمع بيننا، وأزيد فإنه ختمي وأنا أنصاري، ولكن قطعاً جمع بيننا ما هو أعظم من هذه كلها، جمع بيننا الدين الاسلامي والمحبة في الله وما أعظمها من محبة إذا تمكنت في النفوس. كان خلف الله الرشيد رجلاً رشيداً بحق وكان متديناً وعالماً ومتعلماً ووطنياً لا يشق له غبار، فقد بذل جهداً جباراً في توحيد أمة السودان من قبل هيئة الصف الوطني وأثناء الهيئة، فقد قال لأحد المسؤولين الكبار عندما زرناه في مكتبه قال له بالحرف الواحد: قبل كده جيناكم بعمل مثل دا وبوظتوه، الآن نرجو دعمكم لعمل هذه الهيئة فإن فيه المخرج لهذه البلاد، فقد جاء خلف الله ومن خلفه الهيئة بالأسود والفهود والثعالب والدبايب والعقارب في اقفاص، ولكن هل من استجابة؟! ومن المصادفات الطيبة بالنسبة لي مع مولانا خلف الله الرشيد، وبعد نهاية فترة هيئة جمع الصف الوطني أن صدر قرار من رئاسة الجمهورية بتعيين لجنة تنظر في أمر الادارة الأهلية في دارفور فكان رئيس اللجنة الأستاذ محمد عثمان الخليفة وكان مولانا خلف الله الرشيد نائباً له وكنت أحد أعضاء اللجنة، فتواصلت بيننا العلاقة والمحبة والصداقة، وواصلت في الإستفادة من حكم وخبرة مولانا خلف الله الرشيد، ومن المصادفات أن كثر غياب الأستاذ محمد عثمان الخليفة، فكان خلف الله الرشيد هو الذي يدير إجتماعات اللجنة والتي إستمرت لسنة ونصف النصف تقريباً، كنت أغرف خلالها من معين الخبرات، خبرات خلف الله الرشيد، عبد القادر منعم منصور، المك يوسف عدلان، أبو مجذوب علي المجذوب، الدكتور مجذوب الخليفة، اللواء الناظر موسى جالس وآخرين، كنت أصغرهم سناً، فكانت إستفادتي منهم عظيمة، لا تقل عن إستفادتي من عضوية هيئة جمع الصف الوطني، أمثال علي ابرسي، ويوسف عبد الفتاح، وفيلو ثاوث فرج وسارة نقد الله والفريق ابراهيم سليمان، واللواء عثمان عبد الله والدكتور الحاج آدم يوسف ونصر الدين محمد عمر وشيخ العرب يوسف محمد يوسف، وآخرين وآخريات وكنت أيضاً من أصغرهم سناً، أحمد الله أن جعلني بالقرب من هؤلاء الوطنيين الذين إستفدت منهم في دروس الوطنية. كما قلت كان مولانا خلف الله الرشيد هاشاً باشاً طول وقته، وكان يحفظ من النكات ما تجعل الشخص يستلقي أو يقع على الأرض منها، وليسمح لي وإن شاء الله هو في جناته، وأن يسمح لي الشيخ المجذوب أبو علي المجذوب أن أبوح بالنكتة التالية والتي قالها لي في أحد اجتماعات لجنة الادارة الأهلية، وكان أمامنا الشيخ أبو مجذوب علي المجذوب بطوله الفارع ولباسه الشرقي الأبيض الجميل، فقال لي المرحوم خلف الله: ما رأيك في وسامة هذا الشيخ، قلت له ما شاء الله هذا الذي أفكر فيه الآن.. قال لي رغم وسامته ونظافته وبياض ثيابه كان والده أوجه منه وأجمل، فقال لي كان الزعيم أزهري عنده اجتماع مهم وطلب من الخفير أن لا يترك أحداً يدخل عليهم والخفير جاءته غفوة ثم رفع رأسه ليجد والد أبو مجذوب أمامه وطلب منه أن يدخل على الأزهري فإذن له الخفير فوراً وبعد مسافة خرج الزعيم الأزهري قائلاً: يا عم فلان ما قلت ليك لا تترك أحداً يدخل علينا، فرد الخفير: والله يا الأزهري «قايله» مَلَك جاء من الله ليحل لكم مشاكلكم دي. واحتفظ ببقية دعاباته ونكاته التي لا تخرج من الوقار وأدب العلماء. في الاسبوع الماضي جاءتني رسالة صباحية من السيدة الدكتورة بنت الإمام وحفيدة الإمام مريم الصادق المهدي، فرغم تباعدنا الفكري قليلاً، والمسافات أيضاً إلا أنها ظلت تواصلنا برسائلها القصيرة المفيدة عبر الموبايل، فقد جاءني صباحا الخبر من موبايل «الميرم» مريم الصادق، كنت وقتئذ في أحد مكاتب الحكومة مراجعاً ملفاً لقطعة أرض تخصني، فأبلغت من حولي من السودانيين بالخبر الحزين ورفعنا أكفنا جميعاً متضرعين بالدعاء له، أحد الجالسين وهو رجل «كُبارا»، قال: خلف الله رغم المغريات إلا أنه مات نزيهاً عفيفاً، والله العظيم هذا ما قاله الرجل ولم يزد.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: أنتم شهداء الله في الأرض، هذا الرجل الذي زكى مولانا خلف الله عبارة عن صفحة من صفحات الكمبيوتر الشعبي، والكمبيوتر الشعبي يحفظ كل ملفات الذين تبنوا حركة العمل العام سواء السياسي الرسمي أو السياسي الشعبي أو العمل الإجتماعي، الكمبيوتر الشعبي يعرف النزيه منا ويعرف الخبيث، يعرف الأمين ويعرف الخائن ويعرف المؤمن ويعرف المنافق والانسان، القومي والانسان العنصري العرقي، ويعرف كل هذا وبدقة شديدة، فهذا الرجل أول كلمة أطلقها هي، خلف الله رغم المغريات فقد مات نزيهاً عفيفاً.. لم أمكث لحظات والحزن يلفني من كل جانب، وجاءت ذكريات خلف الله الرشيد على خاطري بسرعة، وبينما أنا في هذه اللحظات إذ جاءتني الرسالة الأخرى التي تحمل هذا النبأ الحزين من سعادة اللواء عثمان عبد الله محمد أحد ركائز هيئة جمع الصف الوطني المهمة، فبادرت بالإتصال به فوراً لنُعزي بعضنا البعض، لم يتمالك هذا الرجل العملاق نفسه، فقد بادرني بالبكاء الشديد حزناً على مولانا خلف الله الرشيد، ولم أستطع معه تكملة كلمات التعزية المناسبة لحظة الجلال هذه، فقلت له يا سعادة نلتقي في الدفن وأغلقت الهاتف. ذهبت إلى مقابر بري الشريف حيث مقبرة المرحوم، كان الحضور غفيراً يليق بعظمة المناسبة، ويستحقها مولانا خلف الله الرشيد، اللهم أغفر لمولانا خلف الله الرشيد، رغم الحسنات التي ذكرناها في حقه، ولكنه قطعاً ستحوم حوله الهنات خاصة أنه في سلك القضاء، ويقول المثل القضاء كالذي يدخل يده في جراب الدقيق ثم يخرجها فارغة، ولكن رغم ذلك ستتعلق على يده ذرات الدقيق، اللهم أغفر له وأكرم نزله ووسع مدخله، وهوِّن له سؤال القبر وضمة القبر وعذاب القبر، اللهم أرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه، ووداعاً خلف الله الرشيد فقد كنت رجلاً رشيداً حسب معرفتنا.