روى بعض أهل العلم أنه بعد ظهور حركات إصلاح سياسية عدة في مختلف أرجاء العالم الإسلامي في النصف الأول من القرن الماضي، ائتلف نفر من علماء ووجهاء اليمن السعيد على ضرورة إقامة نظام دستوري رأوا فيه صلاح أحوال البلاد والعباد. وبعد تداول مطول ذهب وفد منهم لمقابلة الإمام يحيى، حاكم اليمن وقتها، ومفاتحته بشأن الخطوات المفترضة لنقل البلاد إلى الحكم الدستوري. ولأن الإمام لم يكن على علم بمفهوم الحكم الدستوري، طلب منهم أن يشرحوا له بالتفصيل الفكرة ومقتضياتها. وما أن فرغوا من الشرح الوافي حتى رد عليهم الإمام قائلاً: هل أنتم مجانين؟ أتريدونني أن أقيد يدي بنفسي؟ وقد كان هذا التساؤل تعبيراً عن فهم دقيق من الإمام رحمه الله لمفهوم الدستور ومقتضياته. فإذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب لنفسه عبر ممثلين يرتضيهم، فإن الحكم الدستوري يتمثل في قبول السلطة، بما في ذلك سلطة الشعب، وضع قيود ذاتية على ممارستها لسلطاتها. ويتم ذلك بتحديد أمور ونواحٍ لا تمتد إليها صلاحياتها، من قبيل الحريات الشخصية والحقوق الأساسية، مع قبول الاحتكام لسلطة قانونية مستقلة. وقد صدق الإمام حين رأى استحالة قبول أية سلطة لمثل هذه القيود من تلقاء نفسها. فحتى الحاكم الصالح لا يقبل أن يقف مكتوف اليدين أمام أمور يراها من المنكرات التي لا يمكن السكوت عليها. ومن باب أولى فإن الحاكم الفاسد لا يقبل أن تغل يديه وهو يواجه تهديدات المتضررين من ممارساته. ولم يشهد العالم نماذج قام فيها الحكام بتقييد سلطاتهم طوعاً إلا في أحوال نادرة، مثل بداية الخلافة الراشدة في الإسلام، وعهد صولون في أثينا. ولكن حتى في أثينا فإن تثبيت الديمقراطية لم يتم إلا بعد ثورة مسلحة دعمتها دولة اسبارطة المنافسة. ولعلها مصادفة أن ثورة أثينا وقعت في نفس العا م الذي شهد خلع ملوك روما وإقامة الجمهورية هناك (عام 508 قبل الميلاد). ولكن ديمقراطية أثينا لم تكن تقبل بحدود على سلطة الشعب، بخلاف جمهورية روما، التي لم تكن ديمقراطية في الواقع، ولكنها كانت نظام حكم دستوري يعتمد على فصل وتوازن السلطات. ويروي الرواة أن الملك جون حينما واجه ثورة النبلاء في انكلترا عام 1215، ومطالبهم بالانصياع ل ميثاق الحريات الذي كان يعتقد أن الملك هنري الأول أقره قبل ذلك بأكثر من مائة عام، ماطل وسعى لتقديم مقترحات لكسب الوقت، مما دفع بخصومه إلى احتلال العاصمة لندن. وقد تمت محاصرة الملك جون في جزيرة رني ميد غرب لندن في يونيو عام 1215، وإجباره على توقيع وثيقة الماغنا كارتا (الميثاق العظيم)، التي تضمنت حقوق النبلاء التقليدية، وتفرض على الملك الانصياع لحكم القانون. ولكن الملك تنكر للميثاق بعد ثلاثة أشهر فقط، وسعى لإنهاء الثورة ضده بالقوة. وقد حسمت القضية بعد موت جون المفاجئ في أكتوبر 1216، وتولى ابنه هنري الثالث الحكم، حيث تم إعادة إصدار الماغنا كارتا بنسخة معدلة. إذن الدرس الأول هو أن من بيدهم السلطة نادراً ما يتخلون عنها طواعية. ولكن الدرس الثاني حول الحكم الدستوري هو أنه لا يقيد فقط حكم الفرد، بل حكم الأغلبية أيضاً. وعليه نجد أن كثيراً من الدساتير الديمقراطية الحديثة تفرض قيوداً كثيرة على حكم الشعب. هذه القيود تعود من جهة إلى التطور التاريخي وكون الحكم الليبرالي كان السابق على الديمقراطية في بلدان مثل بريطانيا. ومعروف أن العقيدة الليبرالية تقوم على ضرورة تقييد سلطات الدولة والحفاظ على حقوق الفرد والفئات النافذة في المجتمع. في أحيان أخرى، كما كان الحال في الدستور الأمريكي، نرى تعمد تقييد سلطة الجماهير، خاصة وأن واضعي الدستور من قيادات النخبة كانوا يتوجسون من حكم الدهماء، ومن نشأة قيادات ديماغوجية تهيج الفقراء ضد النخبة، أو مؤامرات ومناورات الأحزاب للاستئثار بالسلطة. وعليه كان الدستور الأمريكي أقرب إلى النموذج الجمهوري الروماني القائم على توازن السلطات منه إلى النموذج الأثيني الذي يكرس سلطة الشعب المباشرة غير المنازعة. في الأيام والأسابيع القليلة الماضية، شهدنا ممارسات في كل من مصر والكويت يبدو من ظاهرها أنها تسلتهم نموذج الحكم الدستوري، حيث قامت المحاكم في كلا البلدين بإبطال البرلمان المنتخب شعبياً الشهر الماضي بحجة مخالفة بعض القواعد الدستورية. وفي مصر زادت المحاكم، ومؤسسات أخرى ذات طابع قضائي، برد أهلية بعض المترشحين لمنصب الرئاسة، وبإبطال قوانين سنها البرلمان المنتخب. ومن الناحية النظرية، فإن هذه ممارسات ديمقراطية بامتياز، تعبر عن نضج للتجربة الديمقراطية، وتطور عمل مؤسساته في حسم النزاعات سلمياً. ففي الأنظمة الديمقراطية، تعتبر القيود الدستورية على عمل المؤسسات المنتخبة من أهم المكونات، خاصة حين يتعلق الأمر بحماية حقوق الأفراد والفئات الضعيفة من تغول سلطان الدولة والفئات الأقوى. ولكن إذا نظرنا إلى الواقع المحيط بهذه التطورات، نجد أن الأمر مختلف تماماً. فما كان يحدث في كل من مصر والكويت من لجوء للقواعد الدستورية هو عكس المقصود تماماً من تمتين المؤسسات الديمقراطية وحماية الحقوق. ففي كل من البلدين، كانت السلطة بيد جهة (المجلس العسكري في أوالأسرة الحاكمة) لا تخضع لأحكام القانون وقواعد اللعبة الديمقراطية. على سبيل المثال، فإن المحاكم الكويتية لا يحق لها الطعن في المراسيم الأميرية، ولكنها في هذه المرة أباحت لنفسها ذلك، كما أنها حكمت ببطلان انتخابات فبراير الماضي، ولكنها لم تحكم بإعادة الانتخابات كما هو مقتضى الشكوى التي بموجبها صدر الحكم، بل ببطلان قرار حل البرلمان السابق. في مصر كذلك، نجد لجنة الانتخابات، وهي لجنة ذات صفة شبه قضائية، حكمت بعدم أهلية ترشيح خيرت الشاطر لرئاسة الجمهورية بسبب صدور حكم جنائي في حقه، وعدم صدور عفو عام عنه. ولكن اللجنة، وهي من قضاة يفهمون القانون، تعلم جيداً أن قرار محاكمة الشاطر من قبل محكمة عسكرية كان قراراً سياسياً، لأن القضايا الجنائية لا تنظرها محاكم عسكرية. كما أن قرار إحالة المدنيين لمحاكم عسكرية مخالف للدستور، وعليه فإن كل الأحكام المترتبة تعتبر باطلة قانوناً ابتداءً، ولا يحتاج الأمر لعفو عام. وأخيراً فإن قرار العفو كان بيد المجلس العسكري، وهو يتكون من نفس الطبقة الموالية للنظام السابق، والتي حاكمت الشاطر. ويعيدنا هذا إلى نفس الحلقة المفرغة التي تكون فيها جهة معينة هي مصدر القرارات المعيبة، ثم هي الحكم في الإنصاف منها. ويدخل في هذا مثلاً أن المجلس العسكري في مصر هو نفسه الذي يصدر المراسيم الدستورية، كما أنه أصدر القانون الانتخابي، كما أن لجنة الانتخابات، التي يرأسها رئيس المحكمة الدستورية، هي التي أجرت الانتخابات وفق القانون. ولكن نفس القاضي يرأس المحكمة التي تفتي ببطلان انتخاب المجلس لأن القانون الذي انتخب على أساسه لم يكن دستورياً! في هذا الوضع، حيث أن الجهة التنفيذية هي نفسها التي تسن الدستور (أو هي فوق الدستور كما هو الحال في الكويت)، وحيث أن المحكمة الدستورية تحكم بهوى تلك الجهة، فإن مفهوم الحكم الدستوري يصبح مقلوباً. فالأساس في مفهوم الحكم الدستوري هو أنه يقيد السلطات، بما في ذلك السلطات المنتخبة من الشعب والممثلة له، بقيود بخلاف هواها ومصالحها. أما إذا كانت نفس السلطة هي مصدر الدستور، فإن هذا المفهوم يفقد معناه، كما رأينا حين سن المجلس العسكري الحاكم في مصر مرسوماً دستورياً يحصن سلطاته ومصالحه، وبالتالي يتيح له اللجوء للمحكمة الدستورية حتى تحكم لصالحه إذا ما نازعته سلطة منتخبة ما احتكره لنفسه من صلاحيات. وهذه أوضاع تفقد الحكم الدستوري معناه ومغزاه. ذلك أن لب مغزى الحكم الدستوري هو تقييد للسلطة من خارجها، ولكن على أسس ذاتية. ذلك أن القيود الدستورية هي قيود من نوع خاص، حيث أن النصوص الدستورية تجسد بالأساس القيم العليا للشعب، وهي قيم لا بد أن يتمثلها وينصاع لها كل من يعمل بالشأن العام. وبالتالي فإن الالتزام بهذه النصوص، شكلاً وروحاً، لا بد أن يكون أيضاً قيداً ذاتياً وطوعياً. وإنما نشأت الحاجة لمؤسسات تحكم بين الناس فيما هم فيه يختلفون لأن تفسير المبادئ المتفق عليها، والاتفاق على الأسبقيات حين تتضارب القيم وتتزاحم الأولويات. المطلوب، إذن، في الدول العربية المذكورة، وكل دول العالم، هو إنجاز هذا التوافق بين كل هذه المستويات، حيث تتواءم النصوص الدستورية مع القيم العليا، ويتواءم جهاز الحكم مع هذه النصوص الدستورية والقيم التي تجسدها من جهة، ومع الإرادة الشعبية من جهة أخرى، وبحيث تصبح المحاكم هي الميزان الذي يضبط هذا التوازن، وليست أداة خفية للتلاعب بها، والاحتيال على الشعب باسمها.