لقد أسست البنيوية شرعيتها على مشروع طموح لتحقيق علمية النقد، فتبنت النموذج اللغوي في حماس شديد وعلمية الدراسات اللغوية أمر لا مراء فيه. لكن ماذا حقق البنيويون بعلميتهم؟ لقد كان الهدف من البداية هو إنارة النص، لكن ذلك ما لم يتحقق. وبدلاً من «مقاربة» النص و«انارته» حجبت اللغة النقدية المراوغة والتي تلفت النظر إلى نفسها متذرعة بعملية التفسير للنص الأولى ولم تحقق المعنى. ويرجع فشل المشروع البنيوي في انارة النص وتفسيره وتحقيق معناه إلى سببين: الأول هو تلك المحاولة الصوفية لرؤية العالم من خلال حبة (فاصوليا) واحدة كما يقول نقاد البنيوية. لقد طور البنيويون نموذجاً للتحليل على غرار النموذج اللغوي يعتمد على التحرك من العناصر إلى الوحدات ثم النسق الأصغر وبعده النظام العام أو النسق الأكبر، وهم في ذلك يتحركون من النماذج، أو النصوص الفردية في اتجاه النسق الأكبر أو النظام. ثم انهم بعد ذلك في مقاربتهم النصوص، يتحركون من النسق في اتجاه النص الفردي. وقد اكتشفوا في نهاية المطاف، بعد كل الرفض لكل المدارس السابقة، وبعد دعاوى علمية النقد، أن البديل البنيوي، وهو النموذج اللغوي فشل في تحقيق الدلالة أو المعنى. لقد انشغلوا في حقيقة الأمر بآلية الدلالة ونسوا ماهية الدلالة. انهمكوا في تحديد الانساق والأنظمة وكيف تعمل، وتجاهلوا ال«ماذا يعني النص» أما السبب الثاني فهو اكتشافهم بعد فوات الأوان ان النموذج اللغوي لا ينطبق بالضرورة على الانساق أو الأنظمة غير اللغوية وتحول البنيويون في نهاية الأمر إلى سجناء للغة. أما استراتيجية التفكيك فقد تأسست على رفض علمية النقد، والشك في كل الأنظمة والقوانين والتقاليد، والتحول إلى لا نهائية المعنى لقد انطلق التفكيك كالثور الهائج في حانوت العاديات يحطم كل غال وثمين أو مقدس، واستبدل التفكيكيون بالنموذج ذاتية القراءة والتمرد على نهائية النص أو اغلاقه. ثم انهم أيضاً استبدلوا بعلمية النقد أدبية اللغة النقدية. وهكذا اضافوا إلى فوضى الدلالة. بسبب اللعب الحر للعلامة والبينصية والانتشار وغياب المركز المرجعي. بل اختفاء التفسيرات الموثوقة والأثيرة. لغة نقدية تتعمد لفت النظر إلى نفسها بعيداً عن النص. وفي نهاية المطاف وصل التفكيكيون إلى نفس ما انتهى إليه البنيويون وهو حجب النص. خلاصة الأمر ان البنيوية والتفكيك انطلقا من رفض مشترك للمذاهب النقدية المعاصرة والسابقة نحو هدف واحد - على رغم اختلاف الوسائل التي اختارها كل منهما - وهو تحقيق المعنى، وانتهيا إلى نفس المحطة النهائية. فالبنيويون فشلوا في تحقيق المعنى، والتفكيكيون نجحوا في تحقيق اللامعنى. لقد رفضوا كل شيء ولم يقدموا بديلاً أو بدائل مقنعة. وعلى رغم ذلك فلم يتوقف ضجيجهم وهم واقفون أمام مراياهم المحدبة، فهم يتحدثون وكأنهم المخلصون الجدد لحركة النقد المعاصر. ولم تكن وقفة الحداثيين العرب في الواقع أمام المرآة المحدبة أقصر أو أقل استغراقاً، ولم تكن أصواتهم أقل صخباً برغم ان موقفهم المبدئي أكثر ضعفاً، فالحداثة العربية جاءت نتاج ثقافة غربية، والمصطلح النقدي الحداثي افراز للفلسفة الغربية خلال ثلاثمائة عام من تطورها. وعلى رغم ذلك فإن الحداثة في قلب التربة الثقافية الغربية خلقت أعداءها والرافضين لها. ولم يكن المصطلح النقدي الجديد أوفر حظاً، فهو يمثل أزمة متجددة لا تفقد قوة دفعها في لحظة من اللحظات، فما بالنا بالنسخة العربية التي نقلت النتائج الأخيرة للفكر العربي دون أن تكون لها مقدماته المنطقية، واستخدمت مصطلحاً نقدياً يجمع بين غرابة النحت وعربة النقل إلى لغة جديدة! أعرف جيداً ان البعض سيسارع إلى اتهام هذا الكتاب بالرجعية ومعاداة الحداثة، لكن الحقيقة ان هذه دراسة ليست ضد الحداثة. لقد عشنا قروناً طويلة من التخلف الحضاري بجعل الحداثة ضرورة من ضرورات البقاء، وليست ترفاً فكرياً. لكن السؤال الذي تثيره الدراسة الحالية في الحاح لست نادماً عليه هو «أية حداثة تعني؟ حداثة الشك الشامل وغياب المركز المرجعي واللعب الحر للعلاقة ولا نهائية الدلالة، ولا شيء ثابت ولا شيء مقدس! والاجابة التي تخلص إليها الدراسة واضحة «نحن فعلاً بحاجة إلى حداثة حقيقية تهز الجمود وتدمر التخلف وتحقق الاستنارة لكنها يجب أن تكون حداثتنا نحن وليست نسخة شائهة من الحداثة الغربية.