على الساسة والقائمين على أمر الدولة ألا يفوت عليهم أن مجرد الحصول على الدرجات العلمية العالية كفيل وضامن لنجاح من يتحصلون على هذه الدرجات، لاسيما إذا كان العزف الإداري منفردا. كما ينبغي عليهم أن يضعوا في حسبانهم أن الشخصيات التي اتسمت بتحقيق قدر من النجاح في مجال الاستثمار في بعض المجالات تكون لها دوما القدرة على تحقيقه ونيله في كل المواقع، لسبب بسيط أن العمل العام لا يسير بنفس الوتيرة التي يمكن أن يسير بها رصيفه في القطاع الخاص، لجهة أن حرية الحركة في الخاص تقوم وتنبني على أسس تختلف تماماً عن تلك التي يساس بها القطاع العام، لأجل هذا تقوى محصلة أي عمل فردي في إطار المنظومة الجماعية مدى النظر تحت الأقدام، الأمر الذي يحتم أن يكون العمل في إطار فريق عمل (team work) يتحمل فيها كل فرد أو فئة المسؤولية وفقاً لتخصصها، لتكون النتيجة حتما نجاحاً ملموساً لثمرة الجهد الجماعي المبذول من كل أفراد وأطراف فريق العمل يتخطي أنظار وحدود العقل الفردي، علاوة على ما يميز العمل الجماعي من تقييم وإعادة تقويم لما أسفر عنه من نتائج على أسس موضوعية، وهذه من أكبر ما يميز العمل الإداري الجماعي عن الانفراد به من قبل شخص أو فئة محدودة تعمل على إقصاء الآخرين . وبإسقاط ما أسلفت من قول عاليه على تجربة الدكتور كمال عبد القادر إبان توليه منصب وكيل وزارة الصحة الاتحادية، لا يجد المرء كبير عناء في تلمس وتحسس منظومة العمل الجماعي التي أشرنا إليها في صحن الوزارة، الأمر الذي مهد لوضع أولى لبنات نجاح تجربته على قصر مدتها، فكمال عندي جمع من الخبرة وخيوط الحنكة الإدارية ما أهله ليكون عالماً ببواطن الأمور بقطاع الصحة وأوقفه على مواطن دائها، وليس هذا رأي فحسب، بل يشاركني فيه جمع غفير من منسوبي قطاع الصحة والطبابة، والشاهد على ذلك ما حققه من إنجازات لم يسبقه إليها أحد سبقه إلى شغل منصب الوكيل شديد الحساسية، فقطاع الصحة عندي أن من يتولى فيه أمراً كمن يسير تحت رشاش الأمطار لن ينجو من تساقط المياه عليه قدحاً أو مدحاً، لأن ما عهد في وزارة الصحة إما تكون قوياً وتتحمل نزول المطر عليك بدون مظلة تقيك كما فعل كمال بدرجة امتياز، فاستقرت الأوضاع بداخلها وأحرزت تقدماً غير مسبوق في كل مجالاتها، حيث زادت جرعات البعثات الخارجية للكوادر بغرض التدريب، علاوة على الآفاق البعيدة والنظرة الشاملة التي وصل أثرها واستظل بها كل أهل القرى والحضر، ومن الشواهد على ذلك أنني كنت في رحلة خارج حدود ولاية الخرطوم على تخوم منطقة بولاية نهر النيل لم تعرف لها حكومة طريقاً، وجدت أهلها يعرفون دكتور اسمه كمال عبد القادر شيد لهم مراكز صحية بمواصفات لا تقل عن كثير من مشافي العاصمة، ولم يقف عند حد بنائها وتأسيسها، بل مدها بطواقم متكاملة من الكوادر، ووفر لها سيارات إسعاف لتحويل الحالات التي تستعصي على مقدرتها إلى حيث يمكن علاجها. فبعد ذهاب كمال أصبحنا اليوم نرى أشياء غير مفهومة حتى للموجودين بالوزارة، فالأمر عندي أن الصحة فقدت بوصلتها بعد أن كانت متماسكة في عهد كمال الباحث دوماً عن نجاح يستقر به حال الصحة والطب، غير أن هذا النجاح لم يدم في ظل كثرة المحاباة والحرص على تحقيق المآرب الذاتية. فنجاح كمال عندي جدير بالوقوف في محرابه ملياً ومن ثم العكوف على دراسته وكشف أسبابه. فكثيرون كانوا ينصابونه العداء آل إليهم أمر قيادة الوزارة، بيد أنهم في نظري دخلوا دائرة الفشل من أوسع أبوابها، وأقل ما يميز فترة كمال وما يجري الآن، أنه في السباق أن أي قرار يخضع للمراجعة حال ظهور عيب أو منقصة دون التمادي فيه عزة بالاثم وكبرياء كذوبة، فيا أهل الصحة اعتبروا ولا تكابروا، فالله موجود ولسوف تخضعون للحساب في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فإنا والله نجل من يتولون أمر قطاع الصحة الآن بمختلف مقاماتهم ودرجاتهم العلمية، غير أنا نطالبهم بالعمل على إقالة عثرات الصحة وإيقاف زحف أرتال العاملين بالقطاع صوب برج الفاتح بحثاً عن فرص توظيف خارجي، لا عن طريق القسر بل بحثا عن الافضل، فمن العيب أن نترك مئات بل آلاف الكوادر التي تعب عليها الوطن لخدمته لقمة سائغة للآخرين يحصدون ثمار تعليمهم ويجنون عصارة تجاربهم في بلد اختلت بوصلة إدراته لقطاع الصحة الهم الأول والأخير عند الدول العظمى. وفي الختام وقبل أن انهي هذا المقال، تحضرني كلمات طفرت إلى سمعي من لسان المدير العام الحالي لمستشفى الخرطوم في اجتماع للاختصاصيين بالمستشفى «إن سمعتنا نحن الأطباء أصبحت محل نقاش مستفيض في وسائل الإعلام كافة، بسبب ما يتناقله البعض عما يحدث في الوسط الطبي من اتهامات لا تليق بالدرجات العلمية التي وصلنا إليها، وهذا يفقدنا الثقة عند المرضى الذين يأتون لطلب العلاج، فكيف يثق فينا المريض طالما أن هذا حالنا وهذه سمعتنا التي أصبحت من المواد الدسمة لوسائل الإعلام» لا فض فوك يا دكتور، فقد أطلقت سهاما لا تمس شخصاً بعينه بل تطعن في حال الطب والأطباء بالبلاد قاطبة، فرحمة بهذه الأمة يا من ننتظر نهل العلم من معين معرفتكم والشفاء على أيديكم لا الدسائس، فالذي أرجوه من إخوتنا في الحقل الصحي الابتعاد من كل ما يمسهم وينقص من قدرهم ويشوه الصورة الذهنية الحسنة عن ملائكة الرحمة، وعليهم أن يعكفوا على منح البلاد حقها ومستحقها، والعمل على تهيئة الجو العملي والعلمي للأطباء، حتى لا يضطر أهلنا لتكبد مشاق السفر للخارج طلباً للعلاج جراء فقدانهم الثقة في كوادرنا المحلية التي كانت ومازالت من أكثر الفئات تأهيلاً وقدرة على الإبداع في فضاء المنطقة والإقليم إن بسطت لها التسهيلات وأبعدت عن التعقديات