٭ ليس خافياً على أحد أن الجنوبيين يطلقون اسم الفلين على أبناء الشمال من النيليين (الجلابة) لحصافتهم في معالجة المسائل الشائكة بالاسلوب اللين الذي هو بعيد عن المواجهة والصدام. فالجنوبيون يرون (الجلابة) مثل الفلين بين الزجاج يحافظ على سلامة الزجاج من الكسر ولربما حتى الخدش. هذه الصورة ارتسمت في مخيلة الساسة الجنوبيين بأن المندكرو سهل العريكة وعند الضغط عليه يستجيب ذلك المندكرو وبالتالي يمكن رفع سقف مطالب الجنوب. وبهذا المنظور فإن العلاقة قد اصبحت عكسيةReciprocal وليست طردية Directفكلما ضغط جانب ارتخى ولان الجانب الآخر حفظاً للتوازن حتى لا ينكسر الزجاج. وهذا بدوره يشكل صورة الانبطاح التي تظهر لنا من حين لآخر من الجانب السوداني بينما يستغلظ الجانب الآخر ويفرط في رفع سقف مطالبه لأنه يحمل في مخيلته ان الطرف السوداني لا يفرط في الزجاج الذي هو عرضة للكسر، هذه المعادلة المختلة تقلل هيبة الجانب السوداني في نظر الطرف الآخر كإحساس نفسي تم اكتسابه من تجربة ممارسة سلوك الطرف السوداني الذي يقوده النيليون لوحدهم في أغلب الاحيان. نلاحظ كذلك أن الموضوعات التي تحت النقاش في اديس ابابا ومعظمها يتعلق بالشريط الحدودي بين الشمال والجنوب وهو يشكل المعاقل الرئيسية لقبائل البقارة. وكانت توصف تلك المناطق حسب الخرط القديمة لدى الانجليز. توصف بالحزام الأمني لقبائل البقارةBagara Security Belt . وهذا يجعلنا نتساءل عن هذا الحزام الامني ضد ماذا؟ ولحماية من؟ ولو فحصنا التركيبة الأمنية لهذا الحزام نجد أن الكتلة التي تحمل السلاح في القوات النظامية أغلبها من هذه الجهة بالإضافة لقطاع النوبة، فهم جميعاً محاربون بالفطرة ويتوقف عليهم أمن السودان وسلامته، ولكنهم مغيبون تماماً في محادثات اديس ابابا وأن الموضوعات التي تناقش هناك تخصهم هم في المقام الاول، ألا تكفينا تجربة لاهاى في موضوع أبيي الذي لم يتنازع فيه الدينكا ولا المسيرية وإنما الامر كله بين الحركة والمؤتمر الوطني. أى استخفاف هذا؟ الا تضعون في حساباتكم ان ارتفاع نسبة الوعي العام وإنفجار المعلومة وزيادة التعليم كلها عوامل تجعل من هذا القطاع يصحو من نومه ليقول كفى مهازل علماً بأن السلاح متوفر في تلك المناطق بل فائض عن الحاجة وان الذخيرة تباع بالملوة. إن الخرطوم سادرة في غيها ولا تعلم أو تتحسب للظروف التي تحيط بتلك المناطق حيث إنفرط حبل الأمن وعمت الفوضى وأصبح قتل النفس والإعتداء على الاموال أشبه بقتل ذبابة. إنني اقرع ناقور الفزع للتحوط للمسائل الأمنية حتى لا نعيش صوملة في السودان خاصة أن هناك بعض الفئات احترفت النهب والقتل والتسلط على الآخرين وفي غير واعز من ضمير أو دين وكثيراً ما يعزي ذلك للفاقة والفقر وضيق فرص العمل إن لم يكن غيابها أساساً. فالسؤال مازال قائماً الى متى هذا التهميش والإغفال المبطن بسوء النوايا؟ من طرائف ما نسب للإنقاذ بأنه تم جلب عدد لا يستهان به من الفقراء وبركوا يسألون الله حتى لا يحدث إنشقاق في دولة السودان الكبرى وقد اغدق عليهم بالمال والذي منه إلا أن الله لم يستجب لدعائهم لربما يكونون قد أكلوا إغاثة الخواجات من قبل فرفعت الاستجابة لهم لمدة قد تكون اربعين شهراً وهى المدة التي فقدنا فيها الجنوب والمال المدفوع. وان صحت الرواية كان بالإمكان تعزيزهم في الجانب الآخر بشيء من الكجرة (جمع كجور) وقليل من السحر كما في معتقدات الزاندي الذين لا يقفون عند القضاء والقدر بل يذهبون الى ما وراء الطبيعة والاسباب الموضوعية وهو ما يعرف (Mystical causation). ففي الحالة الاولى فإنهم مسلمون وقد لا يستجيب الله لدعائهم أما الحالة الثانية فلربما يستدرجهم الله من حيث لا يعلمون وطبعاً نحن (مودرون والمودر بيفتح خشم البقرة). أعود فأقول نتيجة لإنفصال الجنوب (الجفلن خلهن واقرعوا الواقفات). إن تجربة البحث عن وحدة جاذبة يمكن أن نستثمرها في ما بقى من السودان ونسأل الله أن يعيننا على تلافي المزيد من الفرقة والشتات والتمزيق والإنشطارات. وهذا بالطبع ليس بالرجاء فقط وإنما لابد من تغيير السياسات التي نضمن بها سلامة البلاد وهذا يتطلب مشاركة كافة قطاعات السودان وبعيداً عن هذه الوصايا التي تتزعمها فئة بعينها. إن الأمر يتطلب مواجهة شدة الوفود المتحدثة باسم السودان وفي غياب تام لأصحاب المصلحة الحقيقية. فالمفاوضات ليست كلها فلين وزجاج فهناك مفاوضات فيها قرض ودبغ جلود وهذه ليست بمهمة الفلين. فلابد من عناصر القوة والهيبة للطرف الآخر حتى تكون (عينه مليانه) من الطرف السوداني المفاوض وبلاش حقارة واستخفاف وان (الطبطبة) لم تعد مجدية فأين هذا القرض الذي يجعل المفاوضات تسير بسرعة الصوت. إنها المحقة التي أبتلينا بها في في قبيلة الفلين. إن الأمر يتطلب مراجعة كاملة ومشاركة من القطاعات المهملة والتي تم إغفالها عمداً. أليس في هذه القطاعات كوادر مؤهلة لتساهم بطريقة سلسلة في هذه المفاوضات؟ أم ان الفهم والدراية تختص بها فقط كوادر قبيلة الفلين؟ الى متى تستمر هذه الوصايا وإسقاط دور أصحاب المصلحة الحقيقية؟ إن مشكلة السودان وسوء الحال الذي انطلى عليه هو نتاج لرداءة السياسة وسوء الادارة ونحن الآن نسير في إتجاه واحد نحو هاوية مظلمة لا ندري أين يكون قاعها والميتة ما بتسمع الصائح إن الأنانية المفرطة والاستحواذ وإقصاء الآخرين اصبحت سمة تحكم سياسة البلاد وقد عرف السودان من قبل بطيبة النفس وحسن المعشر والإيثار أما الإنكفاءة والاستحواذ هذه اخلاق جديدة لم نعهدها من قبل، فقد تلفت سرائرنا واختلت اخلاقنا فالأمم الاخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت اخلاقهم ذهبوا إننا لا نأسى على سوء التصرف في الموارد بقدر ما نأسى على الاخلاق التي ليس من السهل صيانتها والعودة بها الى سيرتها الاولى. فقد كانت اخلاقنا بين الأمم صفحة بيضاء ناصعة بنت للسودان أمجاداً لدى الآخرين ولكنها فجأة نزعت واستبدلت بأخرى كالحة يندي لها الجبين وندير عنها أوجهنا لأنها لا تشبه مزايانا ولا ما ألفناه من قبل. إن التفاوض في أديس ابابا يسير على نهجين مختلفين. نهج يستخدم سياسة النفس الطويل والآخر يستعمل سياسة حرب الاستنزاف وهذان التوجهان يشكلان نقائض في السياسة، فإن ارتفع سقف مطالب أحد الجهات لابد من هبوط محددات التفاوض في الجانب الآخر لأن العلاقة عكسية ولا يتم التلاقي فيها إلا في حالة انتصار طرف على الآخر. وهذه هى المحنة التي نحن فيها. وللخروج من هذا المأزق ارى من الضروري خلط القرض مع الفلين أو على الاقل نثر شيء من القرض الناعم على الفلين مثل الضريرة ليشمها الطرف الآخر ويتأكد منها وهى (تلطعه) في جسده ومن بعدها يعلم أن القرض جاهز لكل الجلد ومعه سكين أم جركول (هذه سكين عريضة وطويلة) لزوم نزع الشعر والصوف من على ظهر الجلد كله. إن الطرف الجنوبي يتلاعب بالوقت وفي مخيلته ان القرار (6402) يلزم السودان وحده بما يطمع فيه الجنوب خاصة ان التعاطف غير المخبوء من مجلس الأمن مع الجنوب يوميء بأن الضرر الاكبر سيقع على السودان. إنه تلاعب مكشوف وفي هذه الحالة فالامر ليس أمر المؤتمر الوطني الحاكم. وإنما هو أمر السودان كافة والمغلوب على أمره وليس ما حدث في هجليج منكم ببعيد. إن الامر قد يقود لمواقف جديدة تتطلب تغيير صورة الحكم نفسه ومن ثم تغيير أسلوب المواجهات فهل نحن مستعدون لذلك؟ أم ننتظر حتى يخر السقف على رؤوسنا؟ افيقوا يا من أنتم في السلطة من بني الفلين فإنني أكاد ارى العدو أمامكم وأن جهات تحرق المراكب من خلفكم فأعوا وتداركوا المواقف قبل فوات الأوان. إن المناطق الطرفية والتي تعرف بالجنوب الجديد بها كثافة سكانية عالية وموارد غنية مما جميعه، فالفئات التي اعتادت على الرعي في الجنوب تم تجميعهم وادخالهم قسراً في الشريط الحدودي بين الشمال والجنوب لدواعي أمنية ويعني ذلك ان الفئات العائدة من الجنوب قد إصطدمت بواقع بيئي جديد لربما يؤثر كثيراً في نمط تربية الماشية ولربما يؤدي الى نفوق كثير منها لمتغيرات البيئة الرعوية. هذا غير الضيق النفسي الذي يعانيه الرعاة بسبب النزاعات بينهم والمزارعين وهم جميعاً يتنافسون على رقعة أرضية محدودة. وهذا بدوره يخلق ضيقاً في التعامل الاجتماعي بسبب الاعتداءات بين الطرفين وتبعاً لذلك تتفاقم المسائل الأمنية وتكثر الاشتباكات وتزهق الارواح وتتلف الأموال وتهدر الموارد. هذه الحالة تتطلب علاجات عاجلة لمقابلة مشاكل البيئة الجديدة للعائدين. فلابد من عمل سدود عاجلة لتقليل حركة الماشية في بحثها عن مياه الشرب ولابد من حفر آبار متعددة لتكون نواة استقرار وتسهل عملية التحول الاجتماعي من الرعي التقليدي الى نظام الحواكير الذي يكون بدوره مدخلاً لنظام (Ranching) والتي فيها تتحول تربية الماشية الى نظام متطور من حيث الكم والكيف ولتكون تربية الماشية بمنظور اقتصادي وتدريجياً تزول النظرة الاجتماعية للحيوان والتي تخلق مكانة اجتماعية في البيئة الرعوية حسب الكثرة العددية للماشية. إن هذه المناطق تحتاج لرعاية خاصة وتخطيط بيئي واقتصادي لإحداث هذا التحول الاقتصادي والاجتماعي المطلوبين ولامتصاص النزاعات التي تحدث نتيجة عدم رعاية الحياة في الريف السوداني بصفة عامة وفي هذه المناطق على وجه الخصوص. فالمستوى التعليمي متدني للغاية والرعاية الاجتماعية لترقية مستوى التعامل الاجتماعي شبه مفقودة والإدارة الأهلية التي كانت توجه وتنظم الحياة هناك اصبحت في خبر كان بسبب السياسات الخربة والطمع في الاستئثار بالسلطة والعوم في أحواض ملذاتها والإنتشاء بثرائها على حساب الغير. هذه الصورة القميئة والاحزان المتراكمة لم تحدث من فراغ وإنما هى نتاج اطماع الشيوعيين ومدعي الاسلام حينما كان العالم يتنازع فيه محوران، الروس الذين يدعون التحرر وفك هيمنة الغرب والرأسمالية الغربية التي تحقق قبضتها في دول العالم الثالث. أما دور السودان منذ الاستقلال فهذا هراء وغابت فيه الاهداف. فقد ضاع وقت ثمين يمكن أن تحدث فيه متغيرات كثيرة وطفرات اجتماعية واقتصادية تشرئب لها أعناق الآخرين ولما كانت النية زاملة سيدها فإننا نحن الآن فيما فيه نحن الآن. وهذا يدفعنا من جديد لنلحق بالباقي فالإنكفاءة السياسية على مناطق الحضر وميلان ميزان العدل في ضرورات الخدمات لجهات بعينها وفي وضح النهار لن يدوم ذلك طويلاً وهو مدعاة لخلق الفوارق الاجتماعية والتمايزات المشينة. إن الاهتمام بهذه القطاعات المتضررة بسبب فصل الجنوب أمر ضروري ولابد من اللحاق بإحتياجاتها حتى تستقر الاحوال الأمنية والاجتماعية والاقتصادية ومن ثم السياسية لتكون هناك رؤية إعتبارية لهذه القطاعات المهملة حتى يشعروا بأنهم في كنف دولة ترعاهم وتتعاطف معهم وتسعى لحل مشكلاتهم والعمل للحاق بهم الى مصاف الآخرين. إن الوفود المفاوضة في اديس ابابا كثير منهم وهم أبناء مدن تنقصه المعرفة الصحيحة لاطراف السودان المتباعدة وما يدور فيها من معاش وما لها من أهميات بالغة بالنسبة لساكنيها وهم كثر. فالتفريط في أى جزء منها يزيد الضيق تربيعاً بدلاً من ضيقين. فالمرجو وضع الإعتبار الشديد لهذه المناطق الحدودية مثل كاكا التجارية وجنوب جودة وثلث المقينص وأبيي والميل 41 جنوب بحر العرب حول سماحة (سفاهة سابقاً) وحفرة النحاس والردوم وكفي كنجي، هذه المناطق هى ملاذات للتنفس القبلي وتشكل في نفس الوقت بؤر متفجرات قد تأتي بالعجائب عند المساس بأمرها وفي غير صالح أصحابها. إنني أدعو لتشكيل فرق تخطيط ودراسات آنية قوامها الرعاية الاجتماعية والمالية (التخطيط) وبمساعدة أهل الحق والمصلحة الأصلية للوقوف على مشكلات كل المناطق الحدودية مع الجنوب وحصر احتياجاتهم وعمل برامج موضوعية وقابلة للتنفيذ ولو في مراحل وذلك لتلافي تطور المسائل الأمنية المترتبة على الإهمال ولإمتصاص غضب الجماهير وإزالة الغبن والحنق اللذين اصابهما بسبب غيبهم من الوجود السياسي وإدارة واقع حياتهم فهم في وصاية تامة وفي بعد بعيد عن إدراك تطلعاتهم وتنظيم مسارات حياتهم في رؤى حاضرة ومستقبلية لإحتواء همومهم وبلوغ غاياتهم. أكرر (الجفلن خلوهن أقرعوا الواقفات). ألا هل بلغت اللهم فاشهد * محافظ سابق