حسناً فعلت القوى السياسية و الأحزاب في ولاية جنوب كردفان حين تواضعت و لأول مرة في تاريخها على برنامج حد أدنى يسمو بها عن المعارضة السلبية لأنظمة الحكم ، المعارضة بمنطق أن تحكم أو تعارض للأبد . فإن تتفق هذه القوى السياسية على برنامج حد أدنى مشترك يعنى أنها قد أصبحت لها ثوابت وطنية وخطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها مهما كان حجم الخلاف مع النظام (أي نظام أو حزب سوداني حاكم) و هذه درجة من الوعي و النضج السياسي تضاف إلى السجل التراكمي لهذه الأحزاب العريقة . و في إطار ذات التوجه و مع وصول وفدي التفاوض بين دولتي شمال و جنوب السودان إلى اتفاق مبدئي على التفاوض حول القضايا العالقة بينهما ، تصاعد هذه الأيام الكلام عن ضرورة تكوين وفد من الولاية للمشاركة في المفاوضات المقبلة في أديس أبابا . و السؤال الكبير الذي يُطرح هو من الذي يحق له التفاوض باسم مواطني الولاية ؟ و ما هي معايير ّإختيار أعضاء الوفد المفاوض ؟ و هل القوى السياسية المشاركة في حكومة الولاية أو في البرنامج المشترك هي مؤهلة و كافية لتمثيل كل مواطني الولاية في ظل الإنشقاقات و التشرذمات التي تعرضت لها ؟ بل في ظل غياب مؤتمرات ديمقراطية حقيقية لأغلب تلك الأحزاب ؟ و هل هذه الأحزاب التي ظلت بعيدة عن المشاركة الفعلية و الممارسة العملية ، مؤهلة لتمثيل جماهيرها ناهيك عن تمثيل مواطني الولاية ؟ و هل يستطيع حزب المؤتمر الوطني الحاكم الإعتراض على أي رأي لهذه القوى التي تشاركه السلطة في ظل الظرف الإستثنائي الراهن في الولاية ؟ بل هل تستطيع هذه القوى مجتمعة في ظل الظروف الحالية الحد من تأثير سماسرة و تجار السوق الذين تطاولت قاماتهم السياسية و أصبح لهم دور متزايد في اتخاذ القرار السياسي و الإداري ، بعد مساهماتهم في فك الكثير من الإختناقات و الضوائق المالية للحكومات المتتالية في الولاية ؟ وهل تستطيع الحكومة اختيار ممثلين حقيقيين لمنظمات المجتمع المدني ؟ وهل ستسمح بمشاركة مفاوضين من قيادات الحركة الشعبية قطاع الشمال المتواجدين بالداخل ، و الذين ظلوا يتمتعون بكامل الحرية في الإقامة و التنقل و المشاركات الإجتماعية تحت مرأى و مسمع السلطات الأمنية و السياسية للحكومة السودانية ؟ طالما أنها ستفاوض قياداتهم بالخارج ؟ بل لم لا تبدأ الحكومة بمحاورة قيادات الداخل و هم الأقرب و الأدرى بواقع الحال و الأكثر حرية على اتخاذ القرار بعيداً عن أي ضغوط أو مؤثرات خارجية ؟ وهل ستسطيع كل القوى المشاركة الاستفادة من دروس وأخطاء إتفاق ( نيفاشا ) السابق ، أم أنها ستكرر ذات الأخطاء و تذهب مرة أخرى بصفة المراقب و الشاهد ( شاهد ما شافش حاجة ) لتصبح مشاركتها ( تمومة جرتق) و جسراً لتمرير الأجندة الخفية . وهل ستتمكن هذه القوى مجتمعة من ارساء اسس موضوعية للتفاوض من أجل مواطني الولاية و ليس من أجل تقاسم السلطة و الثروة و المناصب على النحو السابق الذي وصل فيه الشريكان ( المؤتمر الوطني والحركة الشعبية قطاع الشمال ) حد تقاسم المناصب النقابية و الوظائف الصغيرة و حد التلاعب في الخدمة المدنية و تحطيم كل قوانينها لصالح كوادر الحزبين الشريكين ، حيث تم التوظيف الاستثنائي لكوادر بدون أية مؤهلات سوى مؤهل حمل البندقية في وجه النظام الحاكم ، و تمت بعض الترقيات الاستثنائية لكوادر الشريكين في ظل تجميد معلن لكل الترقيات الوظيفية . و الأهم من كل ذلك هو مدى مقدرة هؤلاء المفاوضين على خلق سلام اجتماعي مستدام بين مجتمعات اهتزت بينها الثقة بسبب الاستقطاب السياسي و التوريط في الفتنة . قد يكون من السهل التوصل إلى اتفاق سياسي ينهي حالة الحرب بين دولتي الشمال و الجنوب و ينهي الصراع بين المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية قطاع الشمال ، و لكن ليس سهلاً بناء السلام الإجتماعي المستدام طالما ظلت مكونات المجتمع المحلي الحقيقي ، صاحب الوجعة ، غائبة أو مغيبة . و الذين عايشوا تجربة التطبيق الفعلي لاتفاق سلام نيفاشا على الأرض و احتكوا بكوادر و مجندي الحركة الشعبية هم الأدرى و الأقدر على قراءة المستقبل و بتوقعات ما سيسفر عنه أي تفاوض أو اتفاق ينحصر بين الشريكين حتى لو توفرت له مشاركات رمزية محدودة لقوى سياسية يركز أكثرها على الظهور في وسائل الإعلام لتحسين سيرته الذاتية . و من ناحية أخرى هل تستطيع الحركة الشعبية (قطاع الشمال ) تقديم كوادر مؤهلة من الداخل تمحو الصورة السيئة التي خلقها بعض المتطرفين و قصيرو النظر من أعضائها ؟ بل هل تستطيع استعادة ثقة المواطن فيها بعد استخفافها بعقله و ممارسة الاستهبال السياسي عليه؟ و بعد انصياعها الأعمى للقرار الجنوبي دون مراعاة لأبسط حقوق مواطنيها و شعبها و دون اكتراث للدمار و الخراب و القتل و التشريد الذي لحق بالوطن ؟ بل هل ستنجح الحركة الشعبية في إقناع كوادرها و قياداتها العسكرية بالتخلي عن منطق إقصاء الآخرين وعن سياسة إغلاق مناطقها في وجه إثنيات بعينها ؟ و هل ستقتنع الحركة بأنها مجرد حزب سياسي سوداني معارض و ليست قاعدة عسكرية أجنبية لهدم السودان و إفساح الطريق أمام شركات النفط و التعدين الأمريكية و الصهيونية ؟ و أنها ليست وحدها المسؤولة عن تغيير نظام الحكم في السودان ، و أن هذا التغيير ( الديمقراطي ) لا يمكن فرضه بالبندقية ؟ و أخيراً هل فهمت الحركة أن هذا الشعب لا يقبل الوصاية أو التبعية أو الإملاءات من أية جهة كانت و مهما كانت قوتها ؟