قبيل منتصف الليل وعقارب الساعة تشير الى الحادية عشرة الا ربعاً، كانت الطفلة تقف على الناحية الاخرى من الطريق، تراقب بحذر شديد شارة المرور الخضراء، وتتأهب للتوجه نحو السيارات عندما يتغير لونها للأحمر، وبالفعل وقفت امام احدى السيارات بعد أن مدت يدها لصاحبها طالبة منه بعض المال، وبعد ان حصلت منه على ورقة مالية لم تكن تتوقعها، في تلك اللحظه اتجه نحوها رجلان اخذاها الى مكان بعيد عن الطريق الرئيس واختفيا عن الانظار ومعهما الطفلة، انها ليست الوحيدة التي تمارس التسول باعتباره مهنة بمساعدة اشخاص آخرين، فهناك حوالى «35» الف طفل يلاقون نفس المصير وفقا لاحصاءات قدمتها منظمات عالمية، إذ تقف خلف هؤلاء الاطفال شبكات منظمة تستغلهم للحصول على الاموال، وهنالك البعض الذين تدفعهم اسرهم للتسول لعدم وجود مصادر دخل ثابتة، فالتسول ليس نهاية المطاف، وانما هو مدخل لعالم آخر مليء بالخطر ولا يعيش فيه الا من يسرق ويدمن المخدرات، وقد يقتل بعد ذلك، اضافة الي التحرشات الجنسية التي يتعرضون لها بشكل مستمر. إن شبكات التسول تستهدف شوارع ومناطق مختلفة من الخرطوم، ويبدو أنها تطلب من الاطفال الذين تستغلهم للعمل لصالحها ان يرددوا كلمات محددة، ولكن تبقى كلمة «كرامة لله» هي الاكثر تداولاً، ففي شارع النيل يبقى هؤلاء الاطفال الى ما بعد منتصف الليل، وذات مرة استوقتني طفلة صغيرة لا يزيد عمرها عن العامين وطلبت مني ان اعطيها مالاً، وعندما سألتها: كيف تبقين لمثل هذا الوقت وأنت بمفردك، صمتت ثم قالت لي ان امها معها في هذا المكان ولكنها تراقبها، وتظهر بين الحين والآخر لتأخذ ما جمعته الصغيرة من مال ثم تتركها مرة اخرى. مئات من الاطفال الذين يحلقون حول شارات المرور وبين المركبات، ومعظمهم لم تتجاوز اعمارهم الخامسة، فقد اكتسبوا الخبرات وباتوا يتفننون في طرق طلب المال، كأنما تم تددريبهم على التسول دون الاكتراث إلى آثاره التي تنعكس عليهم بشكل خاص وعلي المجتمع بشكل عام، وتشير الدرسات في هذا الشأن إلى أن الظاهرة في تزايد مستمر. إن خطورة تسول الاطفال لا تنتهي عند ممارستهم له باعتباره مهنة بل تبدأ من هنا، فوجودهم في الشوارع بشكل مستمر يجعلهم عرضة للاستغلال والتحرشات الجنسية وادمان المخدرات مما يؤدي الى ارتكابهم جرائم اخرى ابتداءً من السرقة وانتهاءً بالقتل. ووفقاً لدراسات أجراها صندوق رعاية الطفولة التابع للأمم المتحدة «اليونيسيف» ومنظمة إنقاذ الطفولة، فإن هنالك «35» طفلاً متشرداً بالعاصمة، وهي ظاهرة موجودة بكل العواصم حول العالم، غير انه لا توجد احصائيات بالعدد الكلي للأطفال والصبية المتشردين في شوارع مدن وعواصم هذه الدول الافريقية، إلا أن عددهم قُدِّر في بعض الدراسات بحوالى المليون. وتشير الدراسات إلى أن النظم الاجتماعية التقليدية ذات الصلة بالأسرة الممتدة كانت من السمات المميزة لمجتمعات الدول الإفريقية التي تحرص على إيواء ورعاية أطفالها حتى في ظروف الفقر والعوز، إلا أن ذلك قد تغير في السنوات ال «25» السابقة، وحدثت بعض التغيرات بينها الجفاف والحروب ومرض الإيدز وتردي الاوضاع الاقتصادية، وهي عوامل أدت الى تفكك الأسر واضطرار مئات الآلاف من الأطفال للعيش متشردين بلا مأوى أو أسر توفر لهم الرعاية. بجانب عدد من المشكلات التي اضطرت الأطفال لترك دراستهم بسبب أن التعليم ليس مجانياً في كثير من دول القارة الإفريقية. وقال التقرير إن نصف عدد الأطفال المتشردين الذين شاركوا في مسح أجرته المنظمة كان العجز عن دفع مصاريف الدراسة سبباً في تركهم الدراسة، مما دفع بهم الى حياة الشوارع والتسول. ويقول عاملون في منظمات تعنى برعاية الأطفال، إن هؤلاء يواجهون بيئة قاسية ووضعاً صعباً، ويصبحون معرضين لأخطار إدمان المخدرات والتخويف والاعتداء الجنسي والتدهور الصحي المدمر. وتنتشر ظاهرة التسول والاستجداء بين كثير من الأطفال المتشردين.