«تحدث في هذا العالم أشياء لا تصدق، وعلى ضفة النهر الاخرى توجد كل أنواع الأجهزة السحرية، بينما نحن هنا نعيش كالحمير».. هكذا يحدثنا خوسيه اورليانو صاحب ماركيز في روايته الأشهر «مائة عام من العزلة» وهو ينظر إلى قريته الخيالية ماكندو التي كان الاعتقاد السائد أنها شبه جزيرة إلى أن اكتشفوا إنها محاطة بالمياه من كل جانب، وهنا أدركوا أنهم معرضون للتلف إن لم يستفيدوا من منافع العلم والاختراعات، ومنذ ذلك الحين صارت روح المبادرة عندهم لا تختفي، وكل عام ينتظرون الغجر ليعودوا إليهم بآخر اختراعات العلم، وأخيراً قرر بونديا بيع كل ما يملك وما لا يملك من مدخراته وميراث زوجته المسكينة مقابل شراء مختبر علمي، ليحول هذه القرية الخيالية إلى قرية علمية أو إلى جامعة، المهم عند الرجل أن تكون قرية ماكندو تؤمن بالعلم لا بالخرافات. وبالرغم من أنه يجهل جغرافية المنطقة فقد وضع لنفسه خريطة اعتباطية وبوصلة ومن حين إلى آخر يحدث قومه قائلاً: «المهم إلا نفقد الاتجاه». رجل آخر اسمه صديق اختار لنفسه قرية حقيقية في دارفور سماها كليمندو أرادها أن تكون مشروعه الرئيس لبقية حياته مشروع حقيقي اقرب إلى الخيال واقرب إلى الرواية، ويمكن أن تنال جائزة مثل ما نالت قرية ماكندو الخيالية لماركيز جائزة نوبل. وعندما بدأ الرجل في التفكير والتخطيط لتأسيس القرية في هذا المكان كلما مر عليه القوم سخروا منه كما سخروا من سيدنا نوح عليه السلام من قبل وهو يبني السفينة لانقاذ الناس من الغرق لأناس لم تصدق عقولهم فكرة الطوفان، وإذا صدق الادعاء سوف يأوون إلى جبل يعصمهم من الماء، وهم لا يدرون انه لا عاصم اليوم. كان صديق ودعة وقبل أكثر من أربعين عاماً ينظر إلى الأشياء حوله بحسرة.. لماذا الناس هنا يرحلون وينزحون ويتركون ارض الأجداد؟ ولماذا يعانون كل هذه المعاناة في سبيل الحصول على شربة ماء؟ ولماذا الدواء هنا معدوم؟ ولماذا الأطفال لا يذهبون إلى حجرات الدرس وهم في عمر التعليم؟ ولماذا كل هذا الذي يدور أمامه وهو لا يستطيع أن يحرك ساكناً في هذه الارض الممتدة من فاشر السلاطين إلى تخوم كردفان وحوالي الصعيد، هنا الناس يعيشون ولا يعيشون.. لا توجد أسباب حياة كريمة هنا.. توجد ارض بكر وبشر أقوياء خرج من أصلابهم صديق ودعة، لقد كنا نستمتع ونحن صغار بقصص الحياة في القيزان البعيدة بين آبار طولو وقيزان مديني وجبال كركور وأبو مكينة وسيالاي وجماميز ود بخيت والسمرايات والخروبات، وحيث ما ذهب العجيج ود عجيجان النيجري وكل ما صوره المبدع إبراهيم إسحاق في روايته «وبال في كليمندو» و «العرضحالات» وحقاً هو أكبر عرضحلجي في التاريخ.. جرب الجلوس معه مرة فسوف تكتشف انك تجلس امام انسان فلتة لم يجد من يحكي حكايته بعد.. والحياة هنا اقرب إلى الخيال ولا ادري كيف كانت تأتيهم معيشتهم.. لقد كان زملاؤنا التلاميذ من أبناء هذه المناطق والذين نلتقيهم مع بداية كل عام دراسي في مدرسة الدكة يتميزون علينا نحن أبناء المناطق القريبة.. فقد كنا نعيش البحبوحة بمعايير ذلك الزمان ولنا أكثر من خيار ونشرب الماء من الدونكي او من البئر، ونذهب الي الحكيم في الدكة او الدكتور في الفاشر، ونسكن في الداخلية أو مع الأهل في البيت.. وزملاؤنا من مناطق القيزان يقاسون الأمرين مع انعدام الخيارات، وقد لاحظت أنهم مع قساوة حالهم على درجة عالية من الذكاء بدليل ان مدرسة كليمندو حازت على المرتبة الأولى بين مدارس شمال دارفور في أول امتحان شهادة أساس. وفعلاً يستحق هؤلاء جامعة، أما في السابق فقد كانوا لا يواصلون التعليم، وكثيرون منهم لا يعودون العام القادم، وكثير من الآباء ادخروا أبناءهم للرعي والسقيا بلا درس ولا يحزنون، وعدد آخر اختار الانتقال إلى ودعة وجديد رأس الفيل او الى الصعيد، حيث الخدمات أفضل نسبياً، ولكنهم لم ينسوا الأرض. وكان الحاج صديق أول من تنبه الى هذا الوضع، فكان أول ما عرفناه اهتمامه الشديد بالتعليم وانشغاله بالمدارس وحال المدارس وغذاء المدارس، ونحن صغار كنا نرى في الرجل طموحا غير عادي، ومخطئ من يظن أن اهتمام الرجل بالهم العام وقضايا الناس اهتمام جديد، فهذا هوس قديم منذ عرفناه، فهو رجل عام منذ نعومة أظفاره، وينفعل بقضايا وطنه وأهله، واهتمامه بقضايا المياه والتعليم والصحة من متلازمته، وليس غريباً أن تراه يدعم العلم على كل المستويات، فقاعاته وفصوله ممتدة من جامعات دارفور إلى الخرطوم وأم درمان، وهناك كليات في الشمال والوسط ويؤمن بقومية التعليم فالعلم أين ما وجد نفع .. وعند افتتاح قاعة ودعة بجامعة الخرطوم التي تعتبر من احدث وأجمل القاعات على مستوى الجامعات السودانية جالت بخاطري معاناتنا ونحن نقطع آلاف الأميال بطريق الأربعين على ظهور اللواري حتى لا يفوتنا التسجيل بجامعة الخرطوم، وكم كنا ننتظر الشهور من اجل الحصول على مقعد في طائرة، فقد كانت أيام، وجال بخاطري هل لجامعة الخرطوم أن تسمح بقيام فروع لها بالولايات وهي أم الجامعات.. لقد كان الطلاب في أيامنا يفاخرون بجامعتهم ويسخرون من ذلك المسؤول الذي كان يعتقد أن اختصار UOFK تعني اي جامعة وليس حصريا على جامعة الخرطوم، وصار يطلق الوعود: سوف نبني لكم UOFK في الأبيض وأخري في الدامر وأخرى في كسلا وكل المدن.. وكنا نضحك وما كنا ندري أننا نحيا لنشهد كليات وجامعات بعدد ذرات الرمل في كل مدينة وكل حي، وحقا ثورة تعليم عالٍ رغم انفنا وتحفظاتنا نحن وعقلياتنا القديمة التي تشكك في أن العالم قرية، وان الجامعة اليوم لم تعد بالمفهوم القديم.. وكنا نقول الجامعة قاعة ودكتور ومرجع ومعمل في حيز واحد، ولكن اليوم يمكن إعادة النظر في التعريف فالجامعات الاسفيرية حقيقة، وهأنا أتناقش مع مشرفي على الدكتوراة بلندن وأنا لم أقابله وهو لم يقابلني ولم يرني ولم أره إلا عبر هذه الوسائط مثل الاسكاي بي والفيديو ووسائط اخري الغت المكان والزمان.. فهذه الأشياء حقيقة وليس ضروريا اليوم أن تكون الجامعات والكليات مباني ومعامل وقاعات في دائرة واحدة وبالمواصفات القديمة.. والجامعات الآن مفتوحة وكل علوم الدنيا في الأثير قاعة واحدة كبيرة مع شاشة ثلاثية الأبعاد وكيبل او وير لس، ويمكن للطالب حضور أية محاضرة في العالم، وأنا أسوق كل هذا الحديث لأدلل على أن كلية صديق ودعة للتنمية البشرية بكليمندو كلية حقيقية، وحتى لا ينبري لي احد هؤلاء ويقول إن هذه الكلية غير مكتملة المقومات وانها تواجه وتواجه، وصحيح أن الرجل يحتاج الى وقوف الآخرين حكومات ومنظمات لإكمال ما بدأه من تهيئة للمكان قبل الشروع في الإعلان، وموقع الكلية وتوسطها لولايات دارفور يجعلها قبلة لكثيرين من طلاب هذه الولايات وولايات السودان الاخرى، وحتى من دول الجوار، فلماذا لا نقرب للناس العلم والمعلومات وعلى أبواب منازلهم، وكل الأشياء تبدأ صغيرة ثم تكبر، فمدرسة الفاشر الثانوية أعظم مدرسة في دارفور بدأت بفصل وحيد في حنتوب، وليس غريباً ولا بعيدا أن نرى جامعة كليمندو وكلياتها المنتشرة بطول وعرض المنطقة، ولماذا لا تقوم جامعة في كل محلية ما المشكلة؟ والأجيال القادمة ليس من بينهم امي، وتعريف الامي عندهم مختلف، فهو من لا يحمل شهادة جامعية كحد ادنى، أما انا وأبناء جيلي المثبطون والمهبطون سوف نظل نسخر من مثل هذا الأفكار الكبيرة التي يحملها صديق ودعة إلى أن يغمرنا الطوفان. وأخيراً تظل مشروعات هذا الرجل الذي لا يؤمن بالمستحيل محل دراسة وبحث.. ألم تكن هذه المشروعات برامج عودة حقيقية يمكن نمذجتها في مناطق دارفور الاخرى التي شهدت ظروف هجرة مماثلة؟ أين هي منظمة الهجرة الدولية من هذه المشروعات، وكليمندو حالة دراسية لطلاب هذه الكلية الوليدة.