لم يكن مرتادو المقاهي يجدون فكاكاً من ممارسة هوايتهم في الجلوس امام مظلات المقاهي وباحاتها، اذ تعني تلك الممارسة قضاء امتع الاوقات.. إنهم يكسرون حاجز الرتابة والملل، فأجواء المقاهي وما تمثله من حرية ومرونة لا يمكن توفرها في المنزل او اي مكان آخر، فللمقاهي طابعها الخاص، انها المركز الاجتماعي الرئيس لساكني الحي يتابعون فيها اخبار بعضهم دون انقطاع، والجميع يشكل حضوراً دائماً هنا، ولم يكن المقهى مكانا لاحتساء القهوة فحسب بل يقترب وصفها من المنتدى اليومي الذي تناقش فيه قضايا الساعة واحداثها ووفق وجهات نظر مختلفة، أياً كانت طبيعة الحدث سياسية او اجتماعية او رياضية. والتحول الذي طال كل اوجه الحياة امتدت اياديه الى المقاهي التي باتت في طي النسيان ولا وجود لها الا في حكايات الامس، وعلى الرغم من ان بائعات الشاي قد وفرن خدمات القهوة والشاي والمشروبات الاخرى، إلا أن طابع القهوة الاجتماعي مفقود تماماً، فقد افتقدها رواد الأمس الذين انطوي الواحد منهم على نفسه، وبات كل شخص يضع كرسيه أمام باب بيته ويجلس في صمت وذهنه تتجاذبه الافكار والاحاديث التي اعتاد تبادلها مع آخرين، ولكن كيف واين فالمقهى لم يعد موجوداً؟ كانت المقاهي في الماضي متنفساً يلتقي فيه كل من له ميول فكرية وثقافية، ولكن الملاحظ انها اختفت في الخرطوم الا من قلة لا يتجاوز عددها اصابع اليد الواحدة، مثل مقهى العمال ببحري، مع ان بعض المدن السودانية ظلت تحافظ على هذا الإرث وتعتبر المقهى جزءاً اساسياً من المكون الحضاري للمجتمع. ويحكي العم «احمد» من سكان الخرطوم القديمة، ان المقاهي في الماضي بعد خروج المستعمر من البلاد كانت بمثابة النادي السياسي والثقافي والاجتماعي، ولكنها الآن غير موجودة، وعلى الرغم من وجود جلسات الشاي والاندية الا انها لا تؤدي الدور الذي كانت تقوم به المقاهي، ويواصل العم احمد حكاياته قائلاً إن المقهى كان مكاناً لتلقي الانباء السارة والحزينة، وايضا كل الافكار الخدمية الخاصة بالمنطقة تخرج اثناء تلك الجلسات، «وكنا نتفقد بعضنا، ولا يغيب أحد من جلسة القهوة المسائية الا اذا كان هناك امر غير طبيعي، وسرعان ما نعرف سبب غيابه، والأهم من ذلك جلسات الصلح التي كانت تعقد في المقاهي حيث لا تدع مجالاً للخصومة أبداً». وعندما سألته ان كان الجلوس على المقهى في ذلك الوقت يصنف على أنه نوع من العطالة وعدم المسؤولية؟ ضحك بصوت عال واجابني قائلاً: «الجلوس على المقهى مع مجموعة من الأصدقاء والجيران لا يمكن توصيفه بذلك، فهو لا يخصم من الشخص ان جلس لبعض الوقت يتجاذب أطراف الحديث مع من يطيب له الجلوس بعد يوم طويل مليء بالعمل والاحباطات وبعض المشكلات، فأنا شخصياً استمتع بقضاء وقتي بالمقهى فهي كالمنعش، وطوال فترات بقائي لم يلفت انتباهي اي سلوك غير سوي او ملمح عدائي بين شخصين». وأخبرني العم «صلاح» بأنه لم يكن كثير التردد على المقاهي ولكن مازالت صيحات الجرسونات واصواتهم العالية تتردد في أذنيه «قهوة سكر تقيل، شاي بالحليب، واحد شاي سادة سكرررر خفيف للأستاذ»، فقد كانت اكثر الاماكن ملاءمة للترويح عن النفس، حيث تجلس على المقهى وتلتقي بأصدقائك المقربين واهل الحي، وتسود المكان اجواء شعبية رائعة، «وكنا نتناقش في كل شيء يخطر على البال حتى أدق التفاصيل في مختلف القضايا، وفي كل يوم تذهب فيه الى المقهى تعود الي منزلك وانت تحمل معك معلومات جديدة، ولكن الآن لا وجود لهذه التفاصيل نهائيا، فالناس بعيدون عن هذه الثقافة كل البعد مع انهم احوج اليها في هذا الوقت، حيث بات المجتمع يعاني مجموعة من التعقيدات والمشكلات التي يمكن مناقشتها في هذه المؤسسات الاجتماعية التقليدية». وقبل أن ينهي حديثه إلينا قال إنه يتمنى من كل قلبه أن تعود المقاهي ليجلس عليها الناس ويلتئم شملهم.