انظر قولها: وأنا التي أخفيتُ كل وشيجةٍ تفضي إلي عبرتُ قافلة إلى حيث البدايات انتهاء أوصدت هذا الباب من زمن وغلَّقت احتمال العود يوماً للوراء أمشي على أطراف ذاكرتي مخافة أن تفيق مواجداً هدهدتها بعسى ولا !! الجزء الثاني : الحزن الذاتي الخصائص النفسية للحزن عند روضة الحاج يعتبر ديوان (ضوء لأقبية السؤال ) أكثر الآثار الإبداعية كثافة وتجسيداً لمعان الحزن وخصائصه النفسية لدى الشاعرة السودانية روضة الحاج . حيث يحس القارئ للديوان من أول وهلة تمحور شخصية الشاعرة حول ذاتها وإحساسها العميق بذاتها والأشياء معاً الأمر الذي مكنها من خلع الأسماء ، واكتشاف التكوينات الشعرية والصور الدرامية . انظر : مالي أنا أشتارُ ملءَ مواجعي لغةً وأصدحُ بالغناء مالي أنا أقتاتُ أسئلةً تقودُ لبعضها حتَّام...ماذا ...كيف... أين...متى ..وما ؟؟ مالي أنا أشتاقُ كما يمكننا اكتشاف جزيئات الحزن المتفشي في مفردات الشاعرة : بعضي هنالك لم يزلْ لكنني البعضُ الذي اختار الحياة[5] تلك هي روضة الحاج تجترح حروف حزنها من نوع جنسها وتساؤلات الوجود والكون معاً. فالخصائص النفسية متفشية بصورة دقيقة كمكنيزمات لغوية ومفردات غائرة في آثارها الإبداعية . لكن لا زال البون شاسعاً والمدى بعيداً والفضاء واسعاً لمعرفة أسباب اجتراح الحزن مفردة ومعنى . لقد تمكنت الشاعرة من اللغة العربية ،(حتام...ماذا...كيف..أين الخ) .وهى التي قالت ( التائهين على محطات الكلال ) ، من كلالة ...وهى كذلك تشير للمعدومين لعل طرح سؤال الوجود و العدم من لدن بنية صوفية واجدة لدى الشاعرة ذلك حينما تصف الشاعرة انبثاق القصائد بالوجع الذي يختال فيها مراوحاً انظر تختالُ في وجعي القصائدُ والمداءات الجفاء كلُ المرائي كالمرايا تستحيل إلى سياج من شتاء ونلاحظ القنوط ومأزومية المفردة فبينما تختال القصائد في الوجع تفر كل المداءات ، تصير جفاء . هذا الحصر النفسي ليس من رومانسية كما يظن البعض أبداً هذه شاعرة قررت أن تكتب حزنها و تبحث عن معان له ...وغربة روضة الحاج غربة ضاربة في تنكر الأشياء لربما يكون هذا الحصر النفسي والحزن الذاتي يعبر عن صوفية موغلة في ذات الشاعرة ، وإشراق مبين ينم عن حبور واحتفاء أو نفور وجفاء. إذ كثيرا ما نجد المفردات الدينية المعفرة بالإشراق والحبور النفسي سائدة في النص ويمكننا القول دون تردد تخفى روضة الحاج حزنها الذاتي وتجاربها الإنسانية الشفيفة وألقها الوجداني ثم يفضحها الشعر وهى تعلن عن نهاية علاقات الأصدقاء ، والصداقات . كما يحس القارئ لأشعار روضة الحاج التزامها الشديد بالقيم والعادات والأخلاق السودانية . فهي تستعير في كثير من الأحيان رمزية للتعبير عن تلك العلاقات ونهاياتها المؤسفة. لقد تعرضت الشاعرة السودانية روضة الحاج إلى الكثير من السوالف ، من أحقاد واحن ، وعلاقات تبدأ لتنتهي بفشل تام وصداقات تنقلب إلى عداء ثم تتكسر وتتشظى عندما تقترب من مشروع روضة الحاج القيمي والعقدي . ويمكننا اليوم النظر إلى قصيدتها بعنوان ( حكمة البجع) بوصفها قصيدة واضحة المعالم ، وجسد إبداعي يعبر عن حكمة أنثى سودانية ، تعرف كيف تلملم جراحها بهدوء ، أو فلنقل كيف يمكن أن تسدل الستار على علاقة تصادمت مع قيمها . انظر «تقتضى حكمة? البجعِ أن نترك النهرَ هذا الشتاء فَدَعْ كل شيء كما كانَ علِّق على شجري ما تساقط من ورقِ الوقت لكِن فقط غادِر الآن فالوقتُ جاء ! وغلًق وراءك بابي أنا سأرتبُ فوضاك بي أعيد إلى أرفف العمرِ كل كتاب رديء الطباعة ثم أغير عنوانه لو أشاء نعم سأشُدُ ملاءاتِ وقتٍ بخيلٍ ترهلَ بين الرجاء وبين الرجاء بلى تقتضى حكمة البجع أن نُودع الليل أسرارنا فرتب حقائبك الفارغة أنا ما خرقتُ السفينةَ إلا لتنجو وقد لاح لي شاطئ للنجاء[6] انظر قولها (أنا ما خرقتُ السفينةَ إلا لتنجو ) وتناص الآية الكريمة ( فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمرا) الكهف 71 . والصورة كلها في هذه القصيدة صورة درامية بالغة التصوير . وهى صورة تحدثنا عن منهج روضة الأنثى في هذا الجزء الشمالي من السودان حيث تسود ثقافة الذكران . الإبحار في عالم روضه الحاج الشعري خاصة والإبداعي عامة أشبه بالسباحة في الفضاء ، تلك سباحة خادعة ، حيث انعدام الوزن ، وفقدان بوصلة الزمان والمكان .لأن الشاعرة روضة الحاج استطاعت أن تخفى عالمها الوجداني بدقة متناهية وبمكيدة الحزن الجميل وبتآخي مع القيم والعادات السودانية كأنثى.. ....استطاعت أن تغلف إحباطاتها السياسية ومواجدها العاطفية بنوع من البكائيات الحزينة المترعة باللغة . لكن المأساة كبيرة ، والفجيعة عظيمة. روضة تعيش إحباطاً سياسياً وهى ترى كل شيء تحول إلى عدم .لقد كانت تعيش أحلاماً ، وتعتقد في دولة ...وهى من مواليد 1969م ، عاشت الستة عشرة عاما الأولى من عمرها في عهد نظام عسكري وهو نظام مايو الذي بدأ اشتراكياً وماركسياً وانتهى إسلاميا ، ثم رأت الديمقراطية وعمرها يتفتق في فترة الانتقال من نظام عسكري إلى نظام مدني ثم تعيش مرة أخرى اثنتين وعشرين سنة من عمرها تحت نظام آخر عقدي عسكري . تقول : يسرقون الكحل من عين القصيدة تنكئين الآن جرحا كنت أحكمت وصيده وتزيدين اصطلائي بحمياي العنيدة قلت ماذا ؟؟ آه يا أخت المعاني ليس كحلا إنما هم يسرقون الشوفَ من عين القصيدة ! إذا من الحزن الذاتي لروضة الحاج ما يمكن أن نطلق عليه تعبير (النصوص الخفية) وهي كلها عن مواقفها السياسية وإحباطاتها الوجدانية.هي الأخرى تعاني كافة ما يعانيه المبدعون والفنانون في السودان .لقد صدقت الثورة صدقت كل شيء فغنت للوطن من نمولي إلى حلفا ، غنت للطير والبحر والبر والسماء والأرض، ثم طفقت تجوب الدنيا تبشر بسودان جميل لكنها ما أن وقفت على تلك الفجيعة ... على فشل الفكرة ، فشل المؤسسة السياسية ، سقوط المثقف الإسلامي ، سقوط المشروع الحضاري حتى انقلبت تنثر مناحات أخرى أشد أسى ، وأكثر دموعاً ، فصارت خنساء السودان...لتقول يا ابنة الحرف الموشى بالخزامى بعبير الشيح في الأرض السعيدة إيه يا ريميه المعنى المُعنَّى والرؤى البكر الفريدة ليت شعري بح صوتي الندوة الدولية لدار الوثائق القومية حول : وأنا أبكي بلادا سرقوها ثم مروا فوق جرحي وانتظاري فوق حزني وانكساري فوق نزفي واحتضاري سرقوها بالمواثيق الشريدة يا بلادي انتهى الاحالات المرجعية: