في شيء من التواتر أو الاجماع في الرواية تناول بعض من الرواة ممن لهم الباع الطويل أو الاهتمام البالغ بالتوثيق أو التدقيق في سرد معلومات لأحداث صنعها رجال قليلون ضحوا بالنفس والنفيس من أجل الحرية لهم ولسواهم، وبهذه المناسبة العظيمة مناسبة ذكرى استشهاد من أطلوا علينا في أعظم سفر التاريخ وتحديداً تاريخ سلطنة دار مساليت ويطيب لي ولكل الأحرار ذكرى من حملناهم في القلوب قبل أن يحملوا على الأكتاف ويتوسدوا تراب دار مساليت وكان على طليعة هؤلاء نعم هؤلاء ولم نقل أولئك لأنهم ليس بعيدين منا بل هم في معيتنا على الدوام، فالسلطان تاج الدين عليه وعلى كافة شهداء دروتي شآبيب الرحمة كان مثالاً لكل الذين قدموه ليكون رائدهم وذلك لقناعتهم أن الرائد لا يكذب أهله. وعلى هدى الادارة الأهلية الراشدة والتي لا يمكن تجاوزها أو اسقاطها في ظل أي نوع من أنواع الحكم ديمقراطيا كان أم عسكرياً شموليا، ولذا فإن الادارة الأهلية مسيرة ماضية لم يوقفها أي من النظم السياسية المتعاقبة على البلاد فكان السير على ذاك النحو الذي رآه الأولون من رجالات الادارة الأهلية في السلطنة مع الأخذ في الاعتبار أدوات المواكبة تبعاً لمقتضيات العصر. فبقيت سلطنة دار المساليت واحدة من تلكم الادارات الأهلية الهامة في ادارة شؤون البلاد والمساهمة في قمع الجريمة واستتباب الأمن وبناء الثقة بين كافة القبائل المكونة للسلطنة، وتحتل سلطنة دار مساليت الجزء الغربي المتاخم للجارة الشقيقة شاد، بل لنقل صراحة أن دار مساليت هي عرين السودان من الناحية الغربية وأنها أصّلت مفهوم التعايش السلمي بين القبائل التي هي قوام السلطنة والشركاء في تصريف شؤون الأقضية وسائر الجوانب الادارية وذلك بالقدر الذي يمكن أن يشكل أنموذجاً للعديد من المشيخات أو السلطنات أو المملكات لا في السودان فحسب بل على نطاق أفريقيا الغربية فهذا التفرد في التعايش القبلي الموجود قبل أي حكومة بالمواصفات الحديثة (الأرض والشعب والنظام الأساسي) ينفي جملة وتفصيلاً أن يفرق بينها أي عدو بارع في مجال الوقيعة ودق عطر المنشم، وحيث يرى الحكماء من رجالات الادارة الأهلية أنه يمكن تجاوز كل ما يعكر صفو الحياة القبلية وعطفاً على ما جرى ويجري في دارفور من اراقة دم امريء مسلم بغير وجه حق وترويع من بقى منهم أو تهجيرهم قسراً وغيرها من التداعيات السالبة في مجتمع دارفور، فإنه يمكن للادارة الأهلية القائمة على أدب التوالي المتفق عليه كابراً عن كابر المساهمة وبأقصر السبل في ردم الهوة وتجسير ما بين القبائل لتعود المياه إلى مجاريها. فالادارة الأهلية جملة من الفنون ووسائل التحكيم يمكن عبرها تجاوزالخلافات والسمو فوق المحن وإعادة كل إلى دياره وحاكورته عزيزاً مكرماً لا يخاف إلا الذئب على غنمه. وأنه لفال حسن بأن تدور الأرض وتجيء باليوم التاسع من نوفمبر وهو يوم لو تعلمون جد عظيم في تاريخ سلطنة دار مساليت بل في كل تاريخ السودان، أو هكذا بدا واضحاً من حديث معظم الذين رووا هذا اليوم أي التاسع من نوفمبر لعام 1910م حيث وقعت معركة دروتي وهم أي الرواة يشيرون إلى فارس المساليت صاعقة العفاريت السلطان تاج الدين ومن كانوا معه من الشهداء يوم ذاك. فمن حيث الجغرافيا فدروتي بقعة حرة مباركة تربض شرقي مدينة الجنينة العاصمة البديلة لسلطنة دار مساليت (درجيل). وتعد معركة دروتي بمثابة أم المعارك بالنسبة للمعارك التي خاضها أسلافنا، ولقد استخدم فيها المستعمر القادم من غرب افريقيا آخر ما أنتجته مصانعها الحربية مقابل آلات بدائية محلية الصنع كالحراب والسفاريك إلا أنها أدوات مسنودة بالإيمان الذي في القلوب وصدقه العمل في الحروب. أما زمانها أي واقعة دروتي فكانت قبل حوالي (102) مائة واثنين عاماً 1910/11/9م وهذه المسافة الزمنية كفيلة بالنسيان أو الإحاطة بكل المجريات للأحداث التي وقعت سوى تفاصيل معركة دروتي في ظل روايات جلها من صدور الرجال ولذا فان دروتي هي الاستثناء من قاعدة النسيان هذه. فشهداء دروتي جنداً كانوا أو قادة هم (نادر المثال) في الأحياء كما أنهم (نادر المثال) في الأموات ولم لا فما قدموه من بسالة وشجاعة نادرتين لتكون دار مساليت حرة أبية ثم يقدمونها طواعية لتكون ضمن حدود جمهورية السودان الموحد، فهذا الاتجاه الوحدوي لم نجد له مثيلاً في تاريخ أرض المليون ميل مربع. ومن ثم لم يعد الأمر ضرباً من المزايدة التاريخية، بل واقع مؤيد بالمستندات وحدث لم يزل بعض صناعة على قيد الحياة ورووا ما عايشوه يوم دروتي ولم يحذفوا أو يضيفوا شيئاً لم يكن مذكوراً في ساحة المعركة. وعلى خلفية هذه السيرة الحميدة والمسيرة القاصدة ليس هناك ما يجعلنا بأن نستريب في أية رواية روت عن دروتي كما لا نستعتب على أنفسنا إذا ما أخذتنا العزة ولكن من غير إثم إلى مراقي أو مصاف العزة غير الممقوتة فكل من سمع أو قرأ عن معركة دروتي يقف أمام سجل لتاريخ رجل شهد بفضله الأعداء وشعاره أن الرائد لا يكذب أهله، فإن كان الأمر أمر شهادة فهو أي السلطان تاج الدين قد أجرى معنى الشهادة في دماء رجالنا ثم لحق بهم في الشهادة في ذات المعركة فوق ذات التراب أي تراب دروتي في 1910/11/9م. فعندما نجترئ ذكريات قادة لمعت سيوفهم على كل أفق نادى حي على الفلاح فنراهم أبكار الجحافل وأدبار المحافل وأننا بإحياء هذه الذكرى قد حفظنا إرثنا واحترمنا انسانيتنا المكرمة حياً وميتاً. ولأن الذكرى تنفع المؤمنين نقول أن دروتي كانت ولم تزل مصلاً أو مناعة ضد شلل الشعوب وترياقاً ضد التكلس والقعود وهبة نسيم من عهد الجدود، تنفض غبار النسيان في كل عام مرة وتصادف التاسع من نوفمبر من كل عام ميلادي. وكما يذكرنا هذا اليوم بمضامين هامة منها بأن الشجعان هم فقط من لا يسقطون من بين ثقوب المناخل أو الغرابيل إذن تذكار دروتي هو إحياء لمعاني الوفاء يبقى بها السودان واحداً موحداً وأنه يوم لأدب خاص كان من الضروري تلقيه سواء في المدارس أو المجالس، ولعل من أهم فوائد دروتي المعنوية اتقاء غضب الحليم، فالمستعمر القادم من غرب افريقيا لم يحسن قراءة تاريخ دار مساليت ولم يختار الوقت المناسب لمساجلة خصمه فالبطل تاج الدين عرف بالحلم والعطف واحترام الآخر فوق معرفته لقانون الحرب، ففي الفترة ما قبل دروتي كان السلطان في أوج انتصاراته وكان خيراً للعدو أن يرجع البصر كرتين قبل أن يقدم على مواجهة خصمه. وقديماً قالوا... (مروّض الأسد لا يخاف وثبته) أي الذي ألف الشيء لا يخوف بنفس الشيء، وذلك لأن السلطان تاج الدين كان معروفاً بفارس المساليت، كما أنه كان موصوفاً بصاعقة العفاريت، وما العفاريت إلا هم أعداء الحرية في كل زمان ومكان، وعليه فإن كل أجناد المستعمر لا تهابه سلطنة دار مساليت وأن سالت آلاتهم القتالية حمماً من مذاب الرصاص. أليست في تاج الدين وأعوانه أو من هم على شاكلته على مر التاريخ أن يقال فيهم هذا البيت من الشعر كما قيل من قبل: قد هززناك في المكارم غصناً وأستلمناك في النوائب ركناً وأخيراً وفي تقدير خاطئ أو تقدير غير موفق فيه استهدف العدو موضع السم من الجسم ومشى بين الناب والمخلب وفتح باب جهنم بيديه وقطعاً لا يرجع المارد إلى الجرة، وهكذا لمع سيف النصر على أفق دروتي ففزع كل من الأرض ومن بالأفق البعيد، ورمى القائد رمية شد وترها بنفسه وحدد الهدف بدقة ثم تدافع وجنده كالسيل العرم، لا بل كالقدر المحتوم لا محيد عنه ولا منجاة، وبقى الطرفان في متن الفضاء الملبد بالعثار ساعة من نهار لا يرى شمسه وما هي إلا لحظات تساقطت أجسام لا تقوى على النزال وتدحرجت إلى هاوية سحيقة لا نعلم أي مستقر لها أو مستودع منذ يوم 1910/11/9م وحتى يومنا هذا. ولأن سنة المعارك لدى الشجعان تختتم إما بالنصر أو بالشهادة إلا أن دروتي قد كسبت نصراً وشهادة في آن واحد، ومن بعد ترجل الفارس تاج الدين وآخرون من أكلة النار ومحطمي الصخور فتركوا لنا أعظم الذكرى قائلين أذكرينا يا دروتي...