في نهاية الاسبوع الفائت وانا استمع الى نشرة الاخبار من قناة ال ((B.B.C العربية، جاء في صدر نشرتها ان انقلاباً عسكرياً قد حدث في الخرطوم، وان الدبابات تجوب شوارع العاصمة الآن، وقد تمت صياغة الخبر بطريقة فيها كثير من الاثارة المتعمدة والتهويل الذي تقصده بعض مراكز الاعلام لوضع الرأي العام في حيرة من امره، وفي محاولات بائسة لاظهار موقف من المواقف المتعمدة بشيء من الضعف لتحقيق مآرب واهداف سياسية ضد الهدف المعني. وأنا في القاهرة اثارني الخبر، فاتجهت الى مواقع اعلامية مختلفة لمعرفة الحقيقة، كما اتصلت تلفونياً ببعض الإخوة في الخرطوم الذين اوضحوا لي حقيقة ما دار وما يدور في الساحة الامنية، وكان مصدر انزعاجي خوفي على بلادي من مغبة الانقلابات العسكرية في هذا الظرف العصيب الذي تمر به بلادنا، ويعلم الله انني لا انتمي الى اي فريق من الفرق المتناحرة، وانما انتمي لهذا السودان الكبير الذي مزقته الخلافات وجعلت من شعبه او على الاقل فئات قليلة من شعبه تسعى الى تكوين الجيوش القبلية والجهوية، وتسعى كل منطقة من هذه المناطق الى السيطرة على هذا البلد الآمن المطمئن. ولذا فإن مصدر انزعاجي كان يرى هذه الحقيقة، ويرى ان اية محاولة انقلابية قد تؤدي الى انفراط عقد النظام وخلخلة واضحة في استقرار بلادنا السياسية. والذي أزعجني حقاً أن معظم هؤلاء الذين كانوا يقودون هذه الحركة الانقلابية ليسوا بعيدين من الحركة الاسلامية، ومنهم من كان يتولى مناصب كبيرة في النظام الخارجي، وابعدوا عنها وعينوا في مناصب مهمة، وأذكر أن الرئيس عمر البشير خاطب احدهم مشجعاً حينما اظهر عدم رضائه عن تغيير موقعه محتجا، وذاكراً بعض الاسماء، واسترضاه الرئيس بأن قال له: إن فلان الذي ذكرته قد وصل الى ما وصل اليه بنشاطه في العمل من اجل الثورة، مطمئناً هذا المحتج بأنه يمكنه ان يحذو حذو من ذكر بأن يعمل بهمة ونشاط كما يعمل الشخص الذي يعنيه، واعتقد أن هذا الاسلوب الاسترضائي لا يجدي كثيراً في مثل هذه المواقف، لأن هذا الاخ اوكلت اليه بعض المهام في حكومة الانقاذ، وكان واضحا جداً أن ما أُعطى من مناصب كان يرى انه اقل بكثير من طموحاته، فلا غرو أن يلجأ الى تحقيق طموحاته بطريقة أسرع وهي الانقلاب العسكري. وليس ما ذكرته هو كل ما ادى الى هذا الموقف، ولكنني اذكر بكل امانة ان الخلافات بين الاسلاميين باتت تهدد بتغير هذا الموقف بطريقة دراماتيكية تؤدي الى تشتت اهل السودان بطريقة قد تؤدي الى تشتت وحرقة، والخلاف الاول والظاهر جداً هو انقلاب الاخ الشيخ حسن الترابي على زملائه الذين عمل معهم، وكوّن حزباً باسم المؤتمر الشعبي يعمل في وضوح تام للتعاون مع الإخوة الشيوعيين وحزب المؤتمر الشعبي في الجنوب، غير آبه بالخلافات المبدئية التي لا تسمح ولا تبرر هذا التعاون الا للاثارة السياسية والمكائد الحزبية، لأن ما ينادي به حزب الشيخ حسن لا يمكن ان يكون مقبولاً لدى الشيوعيين او الإخوة في حكومة الجنوب، لأن هذين العنصرين ومبدئياً يرغبان في القضاء على المؤتمر الشعبي قبل المؤتمر الوطني، لأنهما يعلمان تماماً أن المؤتمر الشعبي اكثر راديكالية في افكاره الدينية من المؤتمر الوطني، على الرغم من أن التصريحات التي يدلي بها الشيخ حسن وواحد من رفاقه قد لا تتسق تماما مع التوجهات الاسلامية، وإنما يدلون بها لذر الرماد في العيون لأعضاء الحزب الشيوعي والحركة المسيحية في جنوب السودان. ومن ناحية أخرى فإن ما بالمؤتمر الوطني من تشرذم وشطوحات قد تؤدي الى تماسكه ومقدرته على الاستمرار في طريقه الذي رسمه لنفسه، ويعتقد اعتقاداً جازماً أنه قد يؤدي الى تحقيق طموحات اهل السودان، ولكن الحقيقة تقول غير ذلك، لأن التصريحات المتناقضة من الناحية الحزبية قد تعكس تيارات متعارضة داخل المؤتمر الوطني وفي الاطار الاكبر، واعني بذلك حكومة الوحدة الوطنية، فإن التناقضات في اتخاذ القرار الذي بات واضحاً أنها من صنع بعض العناصر التي تجهل التضامن الحكومي وضرورة تماسكه. فقد أخذ بعض الوزراء ووزراء الدولة يدلون بتصريحات خطيرة تؤثر على السير الحكومي وتؤدي الى التناقضات فيه، والحكومة لا تفعل شيئاً يوقف مثل هذه التفلتات التي اخذت تظهر في الآونة الاخيرة بطريقة واضحة وخطيرة. أما معول الهدم الاخطر والاشد خطورة على الدولة وسيرها، فهو الفساد الظاهر والمستتر، وعجز قيادة الدولة عن حسمه بطريقة رادعة توقف هذا السيل العرمرم من قضايا الفساد او التحدث عن الفساد المستتر، فكل هذه الاشياء التي ذكرتها قد تؤدي الى قيام بعض الطموحات التي تسعى الى تغيير الحكومة بحكومات اضل سبيلاً، ويمكننا أن نتحدث في هذا المجال عن موقف الاحزاب السودانية، ذلكم الموقف الذي يعكس بكل وضوح ما آلت اليه هذه الاحزاب السودانية المعارضة، فالحزب الاتحادي الديمقراطي الاصل يشارك في هذه الحكومة مشاركة لا ترضي طموحات جماهيره من حيث الاداء العام الذي يتسم بالضعف الشديد، ولكن زعيمه محمد عثمان الميرغني يحاول جاهداً ان يدلي بتصريحات وطنية سليمة تعالج المشكلات التي تظهر من حين لآخر بطريقة فيها كثير من النضوج السياسي، ولكن مشكلته الكبرى عدم الهيمنة على التيارات المختلفة التي تظهره بموقف التفكك. أما حزب الامة بقيادة الصادق المهدي، فاخذت تدب فيه بعض الخلافات التي اثرت على سيره، ويسعى الصادق المهدي الى قيام مؤتمر شامل يضم كل الاحزاب السياسية، ولكنه نسى ان هذه الاحزاب اضحت ليست على نسق متسق، وكان الاولى بالصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني ان يسعيا الى عمل مشترك بينهما يصل لصالح السودان، شريطة أن يناقشا كل السلبيات التي كانت تحدث في تعاونهما السابق الذي افرز كثيراً من السلبيات التي يمكن معالجتها للسير بحزبيهما في الطريق الامثل لخدمة السودان. أما الحزب الشيوعي فهو يسعى الى نضال من النوع التخريبي، وهو ان يعطي كل تأييده وخططه للحركة الشعبية في جنوب السودان، على احتمال ان ينجح عن طريقها في إطاحة حكم الانقاذ. وتبقى الاحزاب العربية الاخرى مثل حزب البحث والناصريين وهي احزاب تبدي ميلاً واضحاً للحفاظ على عروبة السودان، واعتقد انه بقليل من الاجتهاد يمكنها ان تضع بصمات اوضح في السياسة السودانية، واعتقد ان الاخ علي السنهوري يمكنه ان يلعب دوراً بارزاً نسبة لتجربته الثرة الطويلة في مجال النضال العربي. وبعد كل الذي ذكرته ليس مستغرباً ان تقوم هذه التشكيلة العجيبة من الاسلاميين بمحاولة انقلاب سياسي يؤدي الى تغيير الوضع، كما أن ما يسمى احزاب المعارضة تتربص بالجميع للانقضاض على حكم السودان بعد ان يتشتت الجمع عن طريق الانقلابات السياسية، ونحن نرى ان الطريق الامثل لحفظ بلادنا من شرور التفرقة والانفلات الامني وتقسيم السودان، هو ان يقوم المؤتمر الوطني بمراجعة ادائه من حيث السلبيات التي ذكرت، ثم يتجه الى الاحزاب الرئيسة ذات الوزن للوصول معها الى طريق للعمل يكفل صون ووحدة السودان. إلى الأخ سلفا كير رئيس حكومة جنوب السودان: لقد تعددت الاتفاقيات التي تدعو الى حل الخلافات والمشكلات بين جمهورية السودان الشمالي ودولة السودان الجنوبي، فيمتلئ الناس حماساً وترقباً لحل المشكلات بين البلدين الشقيقين حلاً جذرياً، وكاتب هذه السطور ومن خلال بابه هذا كان ومازال يدعو دائما الى تعايش الدولتين في سلام وتفاهم مع بعضهما البعض. وأقول للأخ سلفا كير بصدق وأمانة إن كل هذه الاتفاقيات كانت ترتطم بصخور صماء وضعتها عوامل كثيرة لكي لا تتم هذه الوحدة، وهذا الاتفاق فإن الأخ المشير عمر حسن احمد البشير حاول جاهداً ان يظهر تباشير حسن النية، فقام بتنفيذ مطالب كثيرة في التجارة والحدود والاقتصاد، الا انني كما اسلفت وذكرت بأنه في داخل حدود دولة الجنوب، فإن هناك عناصر غير جنوبية وتنتمي الى جمهورية السودان الشمالي وأغلبيتها من دارفور تحمل السلاح لمناهضة هذا الحكم في الشمال واطاحته. وقد ناشدت أنا شخصياً في عدة مقالات الفريق سلفا كير لوقف النشاط العسكري الأجنبي في بلاده، ولا مانع من ان يقبلهم بوصفهم لاجئين سياسيين، ولكن يبدو لي أن عرقهم قد وصل الندى، واستقطبوا بعضاً من ذوي السلطة والنفوذ، فأخذوا يعيقون كل الاتفاقات المزمع عقدها بين الشمال والجنوب، فتنهار انهياراً مؤسفاً. ولعل أبرز هذه الانهيارات واخطرها «طرشقة» الرحلة والاجتماع بين الرئيسين الذي كان مزمعاً عقده في جنوب السودان لإجراءات ومباحثات واضحة وصريحة بين الرئيس عمر البشير والرئيس الفريق سلفا كير لإقرار الاتفاقيات التي تم الوصول اليها من خلال الاجتماعات المتعددة في اثيوبيا، والشروع في مناقشة المشكلات المعقدة الاخرى التي لم تصل فيها لجان السلام الى اتفاق، كما أن المشكلات في جنوب النيل الازرق وجنوب كردفان تهدف الى قيام حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان في هاتين المنطقتين، علماً بأن هذا الحزب حزب جنوبي بحت، ولا يستقيم عقلاً أن تقوم له فروع في السودان بعد ان انفصال جنوب السودان، وهي أيضاً من الامور التي نبهنا اليها. الأخوان عمر وسلفا: إنكما مسؤولان عن اعادة العلاقات الاخوية بين حكومة الشمال وحكومة الجنوب، وابعاد العناصر التي تعكر صفو هذه الوحدة. واذكر ان هذا الخلاف الموجود بين البلدين ووقف استخراج البترول وعرقلة استخراجه، ستؤدي الى عواقب اقتصادية وخيمة بين البلدين، وتوقف عجلة التنمية والتقدم فيهما. والموقف يتطلب تحركاً سريعاً منكما لتفعيل مفاوضات السلام حتى تنعم بلادنا بالسلام والرخاء. كلمة لا بد منها: محمد مرسي يعيد مصر إلى مكانها القيادي في الأمة العربية: قامت مصر أيام الاعتداء الإسرائيلي الآثم على غزة، بمؤازرة واضحة ومساندة جلية وواضحة، وقد فتحت معبر رفح لانسياب البضائع وكل ما يحتاجه الشعب الفلسطيني من أدوية، وعبور الجرحى والمرضى الذين يحتاجون الى علاج بمصر. وفوق كل هذا وذاك فقد فتح الرئيس محمد مرسي أبواب رفح وأبواب غزة للأشقاء والمسؤولين العرب الذين آزروا وشاطروا المناضلين في غزة، وتعرفوا على مشكلاتهم عن قرب. وكان النصر الأكبر أن أفلح الرئيس محمد مرسي في إقامة هدنة مؤقتة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الامر الذي وجد قبولاً من كل دول العالم، الأمر الذي عجز عن تحقيقه كثير من الجهات في هذا العالم. والله الموفق.