على الرغم من اكتظاظ الأسواق بالبضائع والمنتجات المختلفة، إلا انها تميزت بكثافة البضائع المستوردة مقارنة بالمنتجات المحلية. ففي سوق الملابس والأقمشة فإن البحث سيكون طويلاً وشاقاً للوصول إلى منتج مصنوع في السودان. وستجد الأمر نفسه في منتجات أخرى، فمنافسة البضائع المستوردة تطغى على حركة الأسواق بشكل كامل، وقد تدخل إلى محل لبيع المنتجات الغذائية والمعلبات لتجد نفسك تجول وسط منتجات من دول الجوار، وان وجدت المنتج المحلي فإنه يكون بفارق سعر يجعل المستورد الخيار الأفضل بالنسبة لك. هكذا تبدو حركة الأسواق هنا، وتعكس صورة حقيقية لحالة الصناعة المتردية التي لا تكاد تبين على الرغم من وجود القوانين المحفزة للاستثمار في القطاع الصناعي، فما هي الأسباب التي أدت إلى مثل هذه التردي البائن؟ وإلى أي مدى ساهمت المحفظات المختلفة في عملية تشغيل القطاع الصناعي، فما بين مدخلات الإنتاج والتمويل وخلل السياسات يبدو المشهد قاتماً حول واقع القطاع الصناعي، إلا أن عمليات التشغيل تبدو ذات تأثير واضح على عمليات الانتاج، ونجد في مقدمتها قصة فاتورة الكهرباء على قطاع الصناع العامل الأهم الذي أصبح هاجساً يؤرق أصحاب الصناعة، ويؤثر بشكل مباشر على حركة وانتعاش القطاع، فكيف تتعامل المؤسسات والهيئات المسؤولة عن الإمداد الكهربائي للقطاع الصناعي في حساب فاتورة الكهرباء للمصانع؟ وقامت «الصحافة» بتفكيك مكونات فاتورة الكهرباء، حيث التقت بالباحث والخبير في مجال الجدوى الاقتصادية والفنية لمشروعات الكهرباء المستشار وأستاذ الهندسة الكهربائية الدكتور جون جندي الذي قال: «تعريفة الكهرباء للقطاع الصناعي أكثر من ضعف تعريفة الكهرباء في دول مثل مصر واثيوبيا، ويحاسب قطاع الصناعة بتعريفة استهلاك «16» قرشاً للكيلو واط ساعة، والسعة المعلنة للكيلو فولت وفئة الحمولة لأعلى قراءة للكيلو فولت أمبير في الشهر، فتكلفة الكهرباء تحسب وفقاً لنوع الصناعة، حيث تتراوح مساهمتها في تكلفة الانتاج بين 20% إلى 40% قبل دخول كهرباء خزان مروي، لكن هنالك عجزاً في الامداد الكهربائي، والتكلفة عالية من التوليد الحراري الذي كان يمثل حوالى 70% والمائي 30%، لكن الوضع الآن قد تغير بعد دخول خزان مروي، حيث أصبح انتاج الطاقة المائية حوالى 75%، والحرارية حوالى 25%. وتقوم شركة توليد الكهرباء من خزان مروي ببيع الكهرباء بسعر 9 قروش للكيلو واط ساعة، وهو أمر يمكن الوقوف فيه عند حساب تكلفة الكهرباء على القطاع الصناعي ان ما بين التكلفة الرخيصة للانتاج في خزان مروي سعر البيع حوالى 15.1 قروش في كل كيلو واط ساعة تضاف إلى قائمة الاعباء التي يحتاجها القطاع الصناعي. وكانت وزارة الكهرباء قد كونت لجنة لتقييم تعريفة الكهرباء عرفت في الأوساط العامة باسم لجنة الوكيل، وخلصت تلك اللجنة إلى انه يجب تخفيض تعريفة الكهرباء بواقع 30% لكل القطاعات، بعد أن توصلت اللجنة إلى ان تكلفة انتاج الكهرباء في البلاد قد انخفضت بحوالى 54% بعد دخول خزان مروي. وقد شكل ذلك فائضاً كهربائياً في الشبكة القومية يقدر بحوالى 40% جاءت من الانتاج المائي، بمعنى انها طاقة رخيصة يمكن الاستفادة منها. لكن هل تنحصر فاتورة الكهرباء في حدود سعر الكيلو واط والسعة المعلنة وأعلى قراءة للحمولة؟ حاولنا الوصول إلى وجهة نظر أكثر مقاربة للوصول إلى حقيقة الأمر من داخل المصانع، حيث قمت بطرح تساؤلاتي تلك على رئيس غرفة الصناعات الغذائية عبد الرحمن عباس الذي قال لي «إن هنالك أسباباً كثيرة أدت إلى تدني القطاع الصناعي ووصوله إلى حالة الانهيار، وهي أسباب متعددة ومتداخلة شاركت فيها تكلفة الكهرباء بنسبة 30% من جملة الأسباب. ولكن يجب القول إن هنالك شيئاً يمكن الاعتراف به رغم ارتفاع التكاليف، فهنالك استقرار في الامداد، ومشكلة القطاع الصناعي لا تقف عند حدود ارتفاع تكلفة التعريفة، فهنالك تكاليف أخرى مثل ارتفاع تكاليف المحولات والكوابل والعدادات، وتمثل جزءاً ملزماً مع تكاليف التحول. وهنالك تكلفة أعلى قراءة للعداد، وكل ذلك يضمن في التكاليف. وفي المجمل نجد ان الصرف على الكهرباء يضاف إلى حساب المنتج، وينعكس على الأسعار، وهذا قطعاً يجعل المنافسة في السوق غير متكافئة بين المنتج المحلي والمستورد. إلا أن حسابات تكلفة الكهرباء مازالت بعيدة عن رؤى جذب الاستثمار وتقليل تكاليف الانتاج، مع التأكيد على حقيقة أن هنالك وفرة في الكهرباء الرخيصة المنتجة بالتوليد المائي، بالاضافة إلى ذلك فالمنتج من خزان سد مروي والدمازين وخشم القربة وسنار وجبل أولياء يصل في جملته إلى «1500.000» ميقاواط، مع زيادة أخرى عقب دخول خزان ستيت وأعالي عطبرة في العام بعد القادم، وهذا يعني ان الطاقة «تمثل هاجساً أو ثورة تزيد من تكاليفها»، فلماذا لم تنخفض أسعارها لاحداث التغيير؟ وماذا يمكن أن يحدث إذا لم تنخفض أسعار الكهرباء على القطاع الصناعي؟ تساؤل طرحته على أحد كبار الاداريين بأحد مصانع الأسمنت، طلب عدم ذكر اسمه لحساسية موقعه، فقال لي: «هنالك خسائر متتالية نتعرض لها في مجال صناعة الأسمنت بسبب تكاليف الكهرباء، فالمصانع التي تعمل بالتوليد الحراري مثل المصنع الذي أعمل فيه لا تحقق أرباحاً، كما انها وفقاً للجدوى الاقتصادية في عداد الخاسرين، فارتفاع سعر الفيرنس والجازولين ومحدودية الكميات المصدقة للمصانع بعد انفصال الجنوب، كلها تعطي علامات بأن قطاع الأسمنت في وضع حرج، ولو أن المشكلات تمت معالجتها بالدخول في الشبكة القومية للكهرباء فمن المؤكد أن البلاد سوف تستفيد، لأن ذلك سينعكس تطوراً واضحاً في هذه الصناعة التي لها سوق كبير في دول الجوار». والشاهد أن الاستثمار وزيادة الاستثمار في القطاع الصناعي هو المتأثر الأكبر. إن اضافة وحدات صناعية جديدة أمر عسير في ظل التكاليف العالية، وقد طرحت هذه التساؤلات على الخبير الاقتصادي للدكتور محمد الناير لتحليل واقع القطاع الصناعي وتأثره من ارتفاع تكاليف الكهرباء، فقال: «من المؤكد ان الكهرباء من المقومات الأساسية لنجاح عملية الانتاج والمواءمة بين توفر المواد الخام والتوزيع والتسويق وتوفر الطاقة، وهذه العناصر تتوفر الآن. فالطاقة الكهربائية متوفرة للإنتاج، لكن المشكلة ان تكاليفها عالية جداً مما يؤثر على الميزات التنافسية التي ترتبط بالسعر رغم التفوق في الميزات النسبية المرتبطة بالجودة والنوع الخام الطبيعي. ولذلك يجب النظر إلى عملية تكاليف الكهرباء بأنها جزء من عملية دولية جعلت الأسواق المحلية مفتوحة بالمنتجات الدولية ومن دول الجوار بشكل أقرب، وكل ذلك يضاعف حالة التطور بالقطاع الصناعي، ويجب أن يتم توضيح عملية تكاليف الكهرباء للمصانع، فالمشكلة التي تواجهها مصانع الأسمنت كان يمكن تداركها من قبل البدء في المشروع، خاصة أن هذا القطاع ينتج ضعف الانتاج المحلي، وله سوق كبير في دول الجوار خصوصاً في جنوب السودان. وفقدان هذا القطاع يعتبر خسارة للقطاع الصناعي في البلاد. وبعد فالكهرباء رغم قلة تكاليف انتاجها إلا أنها تمر عبر دورة من الاجراءات والشركات المتعددة التي خرجت من رحم هيئة الكهرباء القومية السابقة، وتحتاج إلى كثير من الجهد واتخاذ قرارات، واتباع سياسات تخفض من تكلفة إنتاج الكهرباء.