لا شك أن العلاقة بين السودان ودولة جنوب السودان الوليدة علاقة متوترة للحد البعيد منذ اليوم الاول لولادة الدولة الجديدة»جنوب السودان»، وأن أسباب التوتر وعدم الانسجام مرده الى قضيتين أساسيتين، القضية الاولى هى قضية النفط باعتبار أن معظم حقول النفط المنتجة تقع في الجنوب ما بين ولاية الوحدة وغرب وشمال بحر الغزال وواراب وأعالي النيل، والذي لا شك فيه أن منذ ظهور النفط في البلاد أصبح عاملاً أساسياً في مسار الحرب الاهلية في السودان، كما فرض أهميته على جولات التفاوض بين البلدين منذ أن بدأت عملية التفاوض، وقد تم التوصل في اتفاق نيفاشا عام 2005م إلى توزيع عائدات البترول بين الشمال والجنوب وبعض المناطق الواقعة حول مناطق الانتاج، مثل غرب كردفان، وجنوب كردفان اللتين خصصت لهما اتفاقية نيفاشا نسب محددة لكل منهما، إذن فقضية البترول الذي تم إيقافه أو تم إيقاف إنتاجه من قبل دولة الجنوب هو أساس المشكلة، بل ذهبت دولة الجنوب الى أكثر من ذلك حينما أتفق رئيس حكومة الجنوب »سلفا كير ميارديت» مع الرئيس الكيني »مواي كيباكي» على إنشاء ميناء لامو في كينيا مناصفةً بين دولة جنوب السودان وكينيا وإثيوبيا ليكون ميناءً مشتركاً للتصدير والاستيراد بين الدول الثلاث. وفي تطور لاحق وبالتحديد في الثامن من نوفمبر 2011 خطا رئيس دولة الجنوب خطوة غير متوقعة حينما أصدر قراراً بمصادرة أسهم شركة »سودابت» المملوكة لحكومة السودان لصالح شركة »نايل بت» المملوكة لحكومة جنوب السودان، وهذه الخطوة اعتبرت حينها عقبة كؤوداً في مسارات التفاوض إن أصرت حكومة الجنوب على المضي قدماً في هذا الاتجاه، وقد طلبت وزارة الخارجية السودانية من حكومة جنوب السودان إعادة النظر في القرار لإفساح المجال للغة العقل والمنطق لحل النزاع القائم حول النفط، إلا أن تعنت دولة الجنوب واصرارها على أمر لا يستند الى أية قاعدة قانونية أدى الى تعثر المفاوضات بين البلدين، الأمر الذي أدى الى تدخل رئيس الآلية الافريقية رفيعة المستوى برئاسة ثابو أمبيكي بإيعاز من اللجنة الثلاثية »الترويكا» التي تضم كلاً من الولاياتالمتحدةالامريكية وبريطانيا والنرويج، وذلك من أجل دفع عملية التفاوض للوصول لحل حول قضية النفط، ومما زاد المسألة تعقيداً المتأخرات المالية على جنوب السودان خلال الفترة من التاسع من يوليو حتى نوفمبر 2011م التي بلغت حوالى «900» مليون دولار. وأثارت هذه المسألة جدلاً واسعاً وصل لأروقة البرلمان السوداني قبل إجازة قانون عبور النفط الذي يمنح وزير المالية سُلطة الحجز على أية كمية من النفط المستخرج لاستيفاء الرسوم المستحقة، كما أن الشمال والجنوب فشلا في التوصل لاتفاق في أديس ابابا نهاية 2011م، بعد أن رفضت دولة الجنوب دفع «36» دولاراً للبرميل الواحد مقابل نقل النفط وتكريره بحجة أنه مبلغ كبير. إذن هذه هي القضية الاولى التي ينبغي أن تكون في صلب محادثات السيد باقان أموم والمسؤولين بالدولة، بالاضافة للقضايا السياسية والأمنية الواردة في اتفاق التعاون بين البلدين. والقضية الثانية التي نأمل أن تجد حظها من التداول هى قضية الحدود، وهى من القضايا العالقة رغم الجهود التي تمت فيها لكن مازالت موضع خلاف حاد بين البلدين، خاصة منطقة أبيي التي أصبحت محل نزاع بين قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك بعد التعايش السلمي بين القبيلتين لسنين عددا، قبل ان يبتليهم الله بالساسة والسياسة، حينما كان القائد الحكيم الناظر بابو نمر المرجع في أى خلاف والأب الحكيم في حل قضايا أبنائه «التوأم». ولا شك أن أحداث 2008م التي راح ضحيتها عدد من المواطنين والجنود في منطقة أبيي مازالت ماثلة في الأذهان لبشاعتها، وهى التي أحالت قضية أبيي إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي لحسم النزاع، وقد أشار قرار المحكمة إلى أن قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك يحتفظان بحقوقهما التاريخية الراسخة في استخدام الارض، كما أكدت المحكمة ضرورة التفاهم بين سكان المنطقة حتى لا يتم تقويض الحياة الطبيعية التي كانت سائدة قبل الترسيم الجديد للحدود، وقد تقرر اللجوء الى الاستفتاء الشعبي حول المنطقة، لكن ظل الاستفتاء يفسر من قِبل الطرفين السودان وجنوب السودان تفسيرات مختلفة، الأمر الذي أدى الى تعقيد القضية أكثر بالذات في الآونة الأخيرة، حيث تدخل رئيس الآلية الافريقية في ما لا يعنيه، فرفع القضية الى مجلس الأمن للبت فيها خلال ديسمبر المقبل، وهذا ما رفضته قبيلة المسيرية ونرفضه جميعاً بصفتنا شماليين لاعتبار أن الخلاف في منطقة أبيي إذا تجاوز القبيلتين فلن يحل الحل المُرضي، وذلك لما تتمتع به قبيلتا المسيرية ودينكا نقوك من علاقات حميمة وتاريخية ورابط اجتماعي أكبر من التصورات السياسية، وهذا وحده كفيل بحل المشكلة بعيداً عن التعقيدات السياسية، لذلك نقول إن تدويل قضية أبيي في هذه المرحلة وتدخل أمبيكي السافر في هذه القضية لا يزيدها إلا تعقيداً، عليه نأمل من باقان أموم في زيارته هذه ان يقفز فوق كل التدابير حول هذه المنطقة، وأن يترك الحل لأهل المنطقة بأية صيغة يرونها، رغم أن أبيي ليست وحدها هى قضية الحدود وإنما هناك بعض المناطق الأخرى مثل »كافيه كانجي» وحفرة النحاس التي تقع بين حدود ولايتي جنوب دارفور وبحر الغزال، ومنطقة »كاكا» التجارية التي تقع بين ولايتي جنوب كردفان وأعالي النيل، ومناطق جودة، المقينص، هجليج، الخرسانة، الميرم وسماحة بجنوب دارفور، وتقريباً هذه من أكبر التحديات في المرحلة الراهنة التي تتطلب حسماً عادلاً حتى يسير البلدان نحو التنمية والاستقرار وحُسن الجوار، فليس من مصلحة جنوب السودان أن تظل هذه القضايا عالقة دون حل. وما بين فض النزاع الحدودي وقضية النفط تأتي القضايا الأمنية والسياسية المنصوص عليها في اتفاقية التعاون التي لم تبارح مكان التوقيع الى واقع التنفيذ، لذلك فإن لهذه الزيارة أهميتها الخاصة، والكل متفائل بعد غيوم التشاؤم التي غطت على كل أمل يحقق الأمن والسلام للشعبين الشقيقين اللذين تربطهما علاقات تاريخية واجتماعية ضاربة الجذور، وما كان ينبغي أن تصل العلاقة بين البلدين الى ما وصلت اليه، لولا التدخلات من هنا وهناك، ووساطات العجائز الذين عجزوا عن حل مشكلاتهم الداخلية. إن في زيارة باقان أموم للسودان ولقائه بالمسؤولين على مستوى الدولة والحزب وعلى رأسهم الدكتور نافع مساعد رئيس الحزب للشؤون التنظيمية، والسيد عبد القادر محمد إدريس كبير المفاوضين ورئيسهم، هذه الزيارة واللقاءات مؤشرات إيجابية تدعو للتفاؤل، لذلك نأمل أن تكلل كل الخلافات والقضايا العالقة بالنجاح دون الرجوع الى كائن من كان، فإذا تم هذا فقد كفى الله أهلنا المسيرية شر القتال مع إخوانهم وربائبهم من بني نقوك الذين زجت بهم الحركة الشعبية في هذا النفق الضيق من أجل المكاسب السياسية الرخيصة، ولهذا يجب على الطرفين حكومة السودان وحكومة جنوب السودان إعمال مبدأ التنازل الذي لا يضر، من أجل حفظ الدماء وحفظ الحقوق المشتركة تاريخياً بين القبيلتين، وهذا ما نأمله ونرجوه من هذه الزيارة، فنجاح الزيارة يكمن في تجاوز الملفات العالقة سواء أكانت نفطية أو حدودية أو سياسية أو غير ذلك، وحل هذه القضايا يعني تلقائياً حل مشكلة النيل الأزرق وجنوب كردفان، وبعدها نجلس سوياً في ظل شجرة الناظر مختار بابو نمر لنأكل ونشرب ونغني للسلام، وعودة اللحُمة الحميمة بين بابو نمر ودينق مجوك.. ويا لها من لحظة سعيدة.