حملت رياح الأخبار المتواترة من إقليم دارفور حزمة من التداعيات غير السارة تنبئ عن إنحراف مفاجئ في مسار تطبيق اتفاقية الدوحة التى جعلت من الدكتور تيجانى سيسى حاكماً أعلى «ببعد نظري أكثر منه عملى» على ولاة دارفور الخمسة منذ فبراير 2011م، ويبدو أن ضيق ذات اليد لشح موارد السلطة الإقليمية متزامناً مع غياب الرؤية قد لعبا دوراً محورياً في ميوعة وهشاشة وعجز سلطة سيسى عن المضى قدماً في اللحاق بأمانٍ طروب كانت تراود مخيلة الناس الغلابى، بالتهام تورتة العودة الطوعية الآمنة والاستقرار على ضفاف التنمية في القرى الآمنة، عوضاً عن حياة التشتت والضياع في المعسكرات بدارفور «اللوح».. وعلى الجانب الآخر من المعادلة السياسية لم يكن ولاة دارفور «باستثناء حيدر قالكوما» في تناغم ووفاق لحنى للغناء والتطريب في معية كورال سلطة دارفور الإقليمية، إلا بالقدر الذي تسمح به مرونة المؤتمر الوطني للحفاظ على تماسك عجينة الائتلاف السياسى مع الآخرين من الأحزاب والجماعات التى تزين واجهة السلطة في السودان، باعتبار أن فقه المرحلة يقتضى بعض التنازلات والصبر عليها دون المساس بجوهر السلطة التى تدين بكل الطاعة والإذعان لدهاقنة المؤتمر الوطنى الحزب الحاكم. وعلى ضوء ما سبق يكون معلوماً بالضرورة أن الطريق لمسار اتفاقية الدوحة ربما يؤدى إلى اتجاه واحد محطته النهائية الاستسلام أو الفرار. وبالتالى حصاد الهشيم وإنتاج الأزمة من جديد تمشياً مع منطق الفيزياء الذى يقول إن لكل فعل رد فعل مساوياً له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. ومن الطبيعي جداً أن تتسق تواضعاً طموحات دكتور سيسى بصفته رئيساً للسلطة الإقليمية مع معطيات الواقع بدارفور، فوجد سيسي نفسه مكشوفاً بلا سلطات حقيقية وبلا موارد تساعده على تخطى العراقيل وتجاوز العقبات، ولذلك أكثرت حركته البحث عن مخارج للأزمة ولو عبر أنفاق تلعب فيها ثروات القطاع الخاص «مبادرة صديق ودعة مثالاً» دور المصابيح وإشارات المرور الإرشادية لمسار اتفاقية الدوحة التى باتت تحت رحمة شد الحبل بين سلطة سيسى الشكلية وهيمنة عثمان كبر الفعلية على خريطة ولاية شمال دارفور.. وكل الشواهد بدارفور «آخرها احتجاج سيسى على ضرب قواته على مشارف الفاشر» تسخر من التصريحات الواعدة لرئيس السلطة الاقليمية التى لم تبرح مكانها منذ تعيينه لتمنحه بجدارة صفة من ينثر بذور الأمل على الارض اليباب، باعتبار أن سفينة طموح سيسى دوماً ما تصطدم بصخور عثمان كبر، فالرجل قد حصن سلطانه «ما شاء الله»، وحتى الزمن قد منحه من ابتسامة الرضاء ما يكفى لجعله عمدة على كافة الولاة بالسودان، مما أوجد وحلاً من التعقيدات السياسية اللزجة ليس من الممكن تجاوزها في ظل الظروف العادية. وقياساً على موقف حكومة شمال دارفور ولحالة العوز ونقص التمويل في تنفيذ بنود اتفاقية الدوحة، بات شكل العلاقة أفقية إشرافية بحتة بين مقر السلطة الإقليميةبالفاشر ومقار حكومات دارفور الخمس، مما يستوجب مراجعة سريعة وإنعاش الاتفاقية بحقنها بما هو مستحق من المال للبرامج والخطط، ومن الصلاحيات بما يؤكد مصداقية أن رئيس السلطة الانتقالية هو الرجل الرابع «بعد الرئيس ونائبيه» في هرم السلطة في السودان.. وفى جزئية الصلاحيات وكاريزما السلطة يعاب على الدكتور سيسى مثاليته الزائدة في التعاطى مع الشأن العام، فالحكاية يلزمها كثير من التكشير وقليل من «الفرفشة» لأخذ الناس إلى مراقى الجدية وعدم التفريط أو خلط الكيمان كسمة متأصلة في مجتمعات أفريقيا القارة، ولنا في مواقف الكثير من رجالات السلطة مواقف وعبر. ومن مصلحة الشريك الآخر في اتفاقية الدوحة وهو حكومة السودان ممثلة في المؤتمر الوطنى، أن تصل الاتفاقية إلى منتهاها في سهولة ويسر، حتى لا تدمغ الحكومة بصفة النكوص عن الوفاء بالوعود، وهي خاصية ستفقد الدولة فرص الاستفادة من المعونات الخارجية وبروتوكولات التعاون في مجالات التنمية وجذب الاستثمارات، خاصة أن التكتلات العالمية هي التى تصنع وترعى مثل هذه الاتفاقيات التى تظل بمثابة جهاز لقياس معدلات الضغط السياسى، ولأجل ذلك تقتضى المصلحة الوطنية العليا توظيف طموح سيسى «700 مليون دولار» بشق ترع ضخمة لشفط اكبر كمية من دعومات المانحين لتمويل المشروعات المستدامة التى تمنح الوطن العافية في الاقتصاد والمعيشة، ومن أجل هكذا غاية وطنية يصبح من الضرورة تعبيد الطريق لطموح سيسى.. والحكمة كلها في المثل الشعبى الذي يقول: «موت الولد ولا خراب البلد»!! وكذلك المثل الآخر: «اللقمة الكبيرة بتفرق الضرا».