لم أتمكن من الكتابة الأحد الماضى بسبب المرض ولعلها مناسبة جيدة للكتابة عن نتائج الاستفتاء على الدستور المصرى الذى نال فوزا كبيرا بحوالى الثلثين من أصوات الذين شاركوا فى التصويت وان كان بنسبة لاتتناسب مع الحدث لكن نعترف أنه كان استفتاءا" حرا" نزيها و حضاريا وسلميا بعكس ما كان يتوقعه الناس عندما اشتعلت المظاهرات عقب الإعلانات الدستورية والتى مات وقتل فيها البعض مما جعلنا نتوقع عنفا أكبر وفوضى عارمة ولكن الله سلّم وأثبت الشعب المصرى أنه شعب متحضر ومسالم. ولعل ما حدث من تجاوزات كانت متوقعة فى ظل عملية التحول الديمقراطى التى تشهدها مصر بعد نظام استبدادى دام ستين عاما كانت الانتخابات والاستفتاءات تزوّر علنا تصل الى نسبة تسعة وتسعين وتسعة من عشرة بالمائة!!؟؟ يعتقل فيها المعارضون ولايجرؤ أحد أن يقول رأيا" معارضا بحرية مثلما شهدنا قبل وأثناء الاستفتاء عبر القنوات الفضائية المصرية المستقلة وحتى الحكومية.أما الصحافة المقروءة فكانت الأكثر جرأة فى النقد مارست حقها فى حرية كاملة لدرجة التطاول على رئيس الجمهورية نفسه.. لقد مارس الشعب المصرى حقه كاملا فى الحرية و يمكن القول إن هذا الدستور يمثل غالب الشعب المصرى الى حد كبير فمن لم يمارس حقه فى التصويت لا يعتد به، ولكن....!!! رغم ذلك كله دعونا نضع تساؤلا افتراضيا ألم يكن من الأفضل قبل انتخابات مجلسى الشعب والشورى التوافق على دستور يقبله الجميع تجرى على أساسه الانتخابات وعملية التحول الديمقراطى؟ لقد قلت ذلك حينها وانتقدت جماعة الإخوان وحزبهم الحرية والعدالة حين أصروا على الانتخابات أولا الأمر الذى دفع منافسيهم حين فازوا بجميع الانتخابات التشريعية ورئاسة الجمهورية أن يحسدوهم على ذلك ولا شك عندى أن جهات أخرى معادية لهم فى مصر سواء داخلية أو خارجية وعلى رأسها فلول نظام مبارك الذين بدأوا يستجمعون قوتهم ويلعبون أدوارا خطيرة فى تحالف موضوعى بينهم وبين بعض قوى الثورة و يستمرون فى عملية التشويش على الدستور ومحاولة وضع كل العقبات الممكنة خاصة الاقتصادية أمام الحكومة والرئيس مرسى الذى أعلن فى خطابه بعد اعلان الدستور أنه يريد حوارا وطنيا صادقا من أجل مصلحة مصر ويتعين على المعارضة الاستجابة له لتجذير الديمقراطية وعدم العودة للماضى. بعملية حسابية بسيطة يمكن القول إن الذين صوتوا بنعم للدستور وهم عشرة مليون صوت تراجعت ثلاثة ملايين عن الأصوات التى نالها مرسى فى انتخابات الرئاسة فى حين فقدت جبهة الإنقاذ ستة ملايين صوت وفقد كلا الطرفين عشرة ملايين ناخب مصرى من أصوات الذين صوتوا فى الانتخابات التشريعية والرئاسية وربما يعنى ذلك أن هؤلاء العشرة ملايين أحبطوا من هذا الصراع المقيت حول القرارات الدستورية أو الصراع السياسى ومواد الدستور التى كان من الممكن الاتفاق حولها بسهولة حيث كانوا يتطلعون لوضعية سياسية ومنهج سياسى أفضل فى التعاطى مع عملية التحول الديمقراطى بعد ثورة يناير. ولعل هذا يدفعنى للقول إن طرفى الصراع وجميع القوى السياسية المصرية فى حاجة ماسة لثقافة سياسية أكثر ايجابية ولممارسة سياسية أكثر نضجا ولحوار واسع وصادق وعميق ومنتج وليس كحوار الطرشان عبر القنوات الفضائية ذات الطابع الاستعراضى ومحاولة هزيمة الخصم أمام المشاهدين أكثر من محاولة الوصول لقواسم مشتركة يتفق عليها الجميع. ان ذلك يحتاج أول ما يحتاج لثقافة احترام الرأى الآخر والاستعداد لتقبله والقناعة الراسخة بأن رأيه صواب يحتمل الخطأ ورأى غيره خطأ يحتمل الصواب وليس أنى وحدى أمتلك الصواب والحكمة.. لماذا لا نقول للعالم الذى انبهر بثورات الربيع إننا أمة متحضرة؟ الدستور التوافقى أم دستور المغالبة؟ عندما سال أحد الصحفيين أول رئيس لدولة البوسنة المرحوم على عزت بيكوفيتش - وكان محسوبا على التيار الاسلامى - قائلا له هل ستطبقون الدستور الاسلامى؟ أجابه السيد بيكوفتش: سنطبق الدستور العاقل. ولعله قصد بذلك أن الدستور هو العقد الاجتماعى والوثيقة الوطنية والقانون الأساسى لكل المواطنين ويتعين أن يشمل الجميع ولا يكون معبرا عن فئة واحدة لأن الدستور يجب أن يشتمل على الأساس السليم وعلى القواسم المشتركة لكل فئات وقوى الشعب يحدد المبادئ الأساسية للدولة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا وثقافيا ويشتمل على الحقوق الأساسية لكل المواطنين (حقوق سياسية واجتماعية واقتصادية وشخصية) وضمانة حمايتها حيث المواطنة هى منبع الحقوق والواجبات وليس أى انتماء آخر قد يختلف الناس عليه. كما يشمل الدستور تنظيم ادارة الدولة بجميع سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية وتحديد العلاقة بينها وكيفية الفصل والتوازن بينها حتى لا يصبح النظام استبداديا قابضا لكل السلطات فتضيع الحقوق وتنتهك وتهدر الحريات الشخصية والعامة. كما يحدد الدستور شكل النظام السياسى خاصة النظام التنفيذى سواء كان ملكية دستورية أو نظاما جمهوريا رئاسيا أو برلمانيا أومختلطا وكيف تكون السلطة التشريعية من مجلس واحد أم مجلسين والعلاقة بينهما واختصاصاتهما ويحدد القانون طريقة انتخاب كل منهما. كما يحدد الدستور شكل الجهاز القضائى الذى اختلف فى السودان ومصر مثلا بين النظام الانجليزى والفرنسى كما يحدد الدستور اختصاص المحكمة الدستورية بحماية الدستور وتفسيره والفصل فى تنازع الاختصاصات وحماية الحقوق والحريات. ويحتوى الدستور أيضا على نظام الإدارة المحلية ووضع القوات النظامية فى البلاد. كما يحدد الدستور الأجهزة الرقابية والهيئات المستقلة كالمفوضية الوطنية للانتخابات ومجلس حقوق الانسان وغيرهما من هيئات ذات خصوصية وأهمية، كما يحتوى فى نهايته على الأحكام الانتقالية التى تحدد كيفية الانتقال من مرحلة سياسية الى أخرى.ولا شك أن قضية هوية الدولة ووضع الدين أصبحت فى صدارة القضايا اليوم سيما بعد تصاعد المد الإسلامى مؤخرا والتى تحتاج الى حوار عميق وشامل ومتفتح ومتسامح يقوم على الفكر الدينى الوسطى لا المتطرف.. ان الدستور المصرى الذى تمت اجازته - وقد قرأته حرفا حرفا - يصلح ليكون دستورا توافقيا بعد أن فازعبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة فمما لا شك فيه أن رفض ثلث الناخبين له وفى غياب عدد كبير من الممتنعين عن التصويت يعنى الحاجة لجلوس الجميع - حكومة ومعارضة - للحوار للوصول لاتفاق حقيقى حتى ترسى مصر الأساس المتين لنظام مدنى ديمقراطى راسخ يكرس الاستقرار والتوحد والازدهار والقوة والمنعة لمصر الزعيم الحقيقى للعالم العربى تمتلئ بها جوانحها لتفيض علينا جميعا خيرا وبركة. نصيحة لاخوان مصر بعد أن حققت جماعة الاخوان المسلمين المصرية كثيرا من الفوز فى الانتخابات التشريعية والرئاسية وحصدوا ثمار ثمانين عاما من العمل الدعوى والسياسى الجاد والمضنى بتضحيات جسام خاصة فى الأنظمة الديكتاتورية وانتشرت دعوتهم وحركتهم كحركة بعث اسلامى حديثة فى طول البلاد العربية والاسلامية بل فى العالم وما حدث فيها من ايجابيات وسلبيات وأخطاء وصواب بحكم أنها تجربة اجتهاد بشرى مثلما اجتهد من كان قبلهم كالأفغانى وغيره فتسلم رايتها الشهيد حسن البنا، أنصحهم وأقول لهم لقد آن الأوان لهذه الحركة الفاعلة أن تصبح جمعية مسجلة كسائر الجمعيات يحكمها القانون غير سياسية بل حركة للدعوة والفكر الاسلامى لقضايا عصرية شائكة تحتاج لاجتهاد وحوار واسع ومعاصر وللعمل الاجتماعى ورفع القدرات البشرية خاصة للأجيال القادمة وكذلك لحوار الأديان بدلا من الصراع بينها تحت شعار (يامؤمنى العالم اتحدوا فى اطار الحنيفية الأبراهيمية مسلمين ومسيحيين ويهود) ويترتب على ذلك أن تسجل نفسها كجمعية تعنى بهذه الشئون وتترك العمل السياسى المحض لحزب مدنى ديمقراطى بمرجعية ومبادئ الاسلام الخالدة ويمكن أن يضم هذا الحزب أفرادا وقيادات غير مسلمة بل مسيحية ويهودية فالحقيقة التى نشهدها اليوم خاصة بعد انهيار الشيوعية العالمية واهتزازات ظاهرة فى الفكر والممارسة الليبرالية والرأسمالية الغربية أن الإسلام كدين وحضارة بدأ يعود من جديد باعثا قويا لحضارة جديدة متجددة كما فعل بعد الرسالة المحمدية حيث أضاء العالم ونفعه بقيمه الإيمانية والأخلاقية.. لا يحتاج الإسلام اليوم (لحركات) اسلامية سياسية تحتكر العمل باسمه بل الى ( حركة الاسلام الحضارى) يعمل فيه وله كل من يقول لا اله الا الله.. يجب أن تنتهى مقولة الاسلام السياسى ليحل معها الاسلام الحضارى... ويجب أن ينتهى التطرف الدينى ليحل محله جوهر الاسلام النقى الوسطى سيرا الى جنة عرضها السماوات والأرض وبالله التوفيق.