تعقيب على المجذوب: المؤثرات والأطوار دسامة المادة وعمق الموضوعات يشدانك لأن تستغرق فيها دون وعي منك بالزمن فتحلق في آفاق تشدك أو تقلقك تتفاعل معها وجداً وتحترق بالفكرة وتزدهي دواخلك بالخاطرة، وتظل تطاردها كما الفراشات الملونة تحرص على الاصطياد دون ضياع، الألوان زاهيها وبريقها وبعض تنتابك حالة من اللاوعي والهستيريا الفكرية تضيع عليك جمال وكمال النشوة وأنت تبحث عن الجمال والبريق فجأة تقع موقعاً من الفكر الذي لا يغوص في حروف الكلمة، فالكلمة كائن حي حيويته تنبع من دغدغة كاتبها وسماحة نفس متلقيها ليضعك في اريكة وثيرة ترتاح عليها المشاعر وتحلق بها الروح لآفاق السمو دون الحط من قدرها، وتحميلها شائه المعني لتحطك في قذارة المعاني، عندي أن الدلالات للكلمات والمعاني تحتمل كل شيء وأنا أخطها في محراب النقد أقدمها دون مزجها بسلوك قائلها، فالسلوك لا يعني لي شيئاً في شخصي أما نتاج الكلمة الأدبي يحملني إلى آفاق رحبة من الخيال، وإن جاز لي أن أفرد ظاهر وباطن العبارة والمصطلح دون المساس بشخص القائل فقد يقولها نقلاً عن واقع واربي ان أسيئ للقائل، فالاساءة للقائل تشمل أيضاً البيئة التي تحملها العبارة وحتى اقترب أكثر مما أرمي له أصوغ بعضاً من الكلمات ودلالاتها في ثقافة وبيئة محددة، وما ترمز له بغض النظر عن الفضيلة والأخلاق: - السرقة كلمة بغيضة عند موروثي الثقافي لكن في مجتمع آخر فضيلة ما بعدها فضيلة إذ تحدد الرجولة والفروسية وفي واقعة مشابهة لما أقول حدثت سرقة لكمية من الجمال بالبطانة وهبت قوة من الشرطة وحاصرت السارقين كانوا من الشبان وعند التحري معهم وتوجيه التهمة لهم بالسرقة انتفضوا وكادوا أن يقتلوا المتحري وعندما سئلوا أفادوا بأنهم لم يسرقوا بل (خرتوا أو قلعوا)، والسلوك أياً كان فهو يحمل معنى السرقة والتعدي على حق الغير بينما في معتقدهم هو ضرب من الرجالة والفروسية وعلى صاحب الحق أن يقاوم لأخذ حقه وإلا لا يكون جديراً بادعاء الحق. هكذا المجتمع فحتى دخول الوعي يمكن لهم أن يميزوا بين الفعل المرغوب فيه وغير المرغوب فيه. - المريسة ذاك المشروب المصنوع من الذرة والدخن والبفرة فالذرة غذاء وقوت غالب أهل الوسط والدخن لأهل الغرب والبفرة لأهل الجنوب في ذاك الزمن الجميل، وتتعدد أشكال الاستفادة منه بصنع الكسرة والمديدة والعصيدة، والحديث عن المريسة كما ورد فهي في الجنوب تنوب تماماً عن الوجبة الغذائية في الشمال فالحمراء للسكر أو النشوة والبيضاء للغذاء فإن إتيان الفعل بها تحكمه ظروف المجتمع ودرجة الإباحة، فهناك من يطيق ويألف ومنهم من لا يألفها في المجتمع الواحد وهكذا حتى في العصر الإسلامي الأول كان كثير من الصحابة يعاقرون الخمر لم يعب عليهم ذلك فضلهم وسبقهم حتى أقلعوا امتثالاً للرشد. - الزنا والكذب وكثير من الآفات ضاربة أطنابها في المجتمع يمارسهما علية القوم وينادم بعضهم البعض ولم ينقص ذلك من مكانتهم ولم يشهر بهم، رؤساء كانوا أم وزراء فباب النقد لم يشملهم والانتقاد من قبل مثقفي هذه الأمة سواء في باب النقد السياسي والأخلاقي وكل ذلك على اعتبار انه سلوك شخصي لا يهم العامة في شئ طالما نتاج عملهم المرتبط بالمجتمع فيه منفعة يتقاضون عليها أجراً محاسبون عليه. أخلص: ان نشأة وتكوين الانسان هي الأصل وما يعتريه بعد ذلك هو نتاج تفاعل ومؤثرات خارجية وعادات تكتسب كنوع من جديد السلوك أو سمة الحضارة والثقافة، أو تلون بيئة كل جماعات كالفنانين ولعيبة الكرة وجماعات الأندية وكذا الجماعات الفكرية والثقافية وممارسة بعض أنواع من السلوك ولا تستطيع أن تصف الكل بصفة قد يتصف بها بعضهم وإن شئنا قلنا أرادة الله، والحديث (يعمل أحدكم بعمل أهل الجنة...) أعتب على الكاتب جنوحه رغم احترامي لرأيه ولا أغالط فيما لا أعلم، فإن كان كما توصل الكاتب لمعاقرة الشاعر للخمر والسجائر أو كان سلوكه فإن هذا لا ينفي ولا يقدح في شاعريته وجزالة لفظه وملكته التي أهلته لأن يعد من قلائل الشعراء الذين رسموا بالكلمة ما تجيده الريشة من صخب الحركة وآهات الفعل الممزوج بالوله أو التوله بالمحتفى به وتصويره للمسرح كاملاً والحركة الصاخبة التي تعج يكفي أن تعيش المتعة وتأسرك النشوة والاندهاش كأنك حضور تسمع وترى بل وتتمايل. وقتها لا يهمني قائل هذه الكلمات شارب خمرة أو مريسة المتعة والصورة قد حدثت وأنت وربك ان كنت لاهياً أو كنت جاداً في القدوة. النقد ضرب محبوب وفيه تقويم ان عنى بالنتاج الأدبي ومقومات النجاح من جزالة اللفظ ومتانة السبك وموافاة ضروب الشعر والميزان والايقاع الداخلي والحركة والصور. استمتع جداً وانتشى من قول الشاعر: اسقني خمراً شعشعت في الكأس لا تغادرني أيها الشماس أو أطلق الكأس بعد طول احتباس واسقنيها ما بين ورد وآس لم أذهب وأنا استمع واعيش النشوة إلى حانة خمار ولم أحس ان الخمرة هي الخمرة رغم ان الحروف هي الحروف لكن المرموز والمشار إليه ليست الخمرة الحسيه لم لا أحمل المريسة والصورة المستوحاة حتى وان كانت سوداء الجبين هي الساقية. رحم الله شاعرنا عاش عفيفاً شريفاً ومات وهو في ألسنِ الناس الشاعر الخارج من بيئة صوفية سلوكه الشخصي يُقابل به كريماً لكني لم اتضرر منه في انتاجه الشعري ورؤاه وتفاعله، بل العكس تمنيت ان امتلك موهبته ويكفي انه شب على نار القرآن تشرب معانيه وسمت روحه في آفاق المعاني وعبق أجواء المجتمع برائع رائق صافي المشرب الروى. عليك الرحمات سليل السادة المجاذيب، ولست أنا من يدافع عنك فإنتاجك كفيل بذلك. الشاذلي أحمد محمد المجذوب سنار ٭ هامش:- المقالة للدكتور حمد النيل محمد الحسن