هذا طريقٌ وعرٌ سلكه من كانوا قبلكم.. فتاهوا وتركوا السودان ليتمزق!! في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون قامت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت بزيارة للقاهرة، والتقت فيها قيادات التجمع الوطني المعارض.. وفي ذلك الوقت كانت «المواجهة» هي السياسة الأمريكية المعلنة تجاه السودان.. وكانت الوزيرة الأمريكية تسعى لتجميع صفوف المعارضة للعمل المسلح ضد حكومة الخرطوم.. وحينما فشلت في تلك المهمة في القاهرة.. وتعذر الوصول الى اتفاق يجمع شمل المعارضة الشمالية.. حملتهم معها في طائرتها الى كينيا لتفتح لهم ابواب التعاون مع الحركة الشعبية.. والتي كانت تملك جيشاً تحارب به الخرطوم.. ووقتها كان الرئيس الكيني هو دانيال أراب موي الذي فتح فنادق عاصمته نيروبي للمعارضة الشمالية.. وحاول هو والوزيرة الامريكية تقريب وجهات النظر بين فرقاء شمال السودان.. إلا انهما وجدا أنّ الخلافات قد اشتدت داخل التجمع بدرجة عالية يصعب احتواؤها حتى على شخصية في مستوى وزيرة خارجية أمريكا.. فقالت لهم وزيرة الخارجية الأمريكية مُحذرة: «من الصعب تسليمكم الحكم في الخرطوم في وجود تلك الخلافات.. لا بُد من حسم خلافاتكم أولاً».. وأضافت: «واشنطن غاضبة على الحكومة الإسلامية الموجودة فهي متعصبة وغير مرنة الا انها على الأقل قادرة على حفظ الامن داخل السودان.. وهي افضل من المعارضة المتشاكسة». وحينما خرجت إلى وسائل الإعلام قالت للصحف إنّ: «على المعارضة أن تستعد لحكم الخرطوم» وربما كان ذلك من باب التشجيع للمعارضة لتستجمع صفوفها.. والشاهدُ في هذه القصة هو أنّ الأحزاب الشمالية المعارضة كانت ومازالت تفتقد الكلمة السواء والمواقف الموّحدة.. حتى أنّ أعظم وأقوى دولة في التاريخ الحديث أرسلت وزيرة خارجيتها فعجزت عن تجميع صفوفها.. وفي الأيام الفائتة خرجت وسائل الإعلام بخبر غريبٍ لا يُبشرُ ببداية جيدة لهذا العام الميلادي الجديد.. حيثُ وقعت قوى الإجماع السياسي المعارض والجبهة الثورية السودانية وبعض المنظمات الشبابية والمجتمع المدني في العاصمة اليوغندية كمبالا على ميثاق أطلقت عليه «الفجر الجديد».. تهدف من خلاله إلى إسقاط الحكومة السودانية بكافة الوسائل.. ووقع عن قوى الإجماع الوطني القيادي بالحزب الشيوعي صديق يوسف.. ورئيسة حركة «حق» هالة عبد الحليم.. بجانب حزب الأمة والمؤتمر الشعبي.. كما وقع مبارك الفاضل المهدي بصفة شخصية مستقلة عن حزب الأمة.. ومن ضمن الموقعين أيضاً زعيم حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم وقائدا حركتي تحرير السودان مني أركو مناوي وعبد الواحد محمد نور، بجانب رئيس الحركة الشعبية قطاع الشمال مالك عقار.. وحدد ميثاق «الفجر الجديد» ترتيبات لما بعد إسقاط حكومة الخرطوم.. وأورد الخبر أنّ الميثاق نصَّ على إقامة فترة انتقالية مدتها أربع سنوات تنتهي بإقامة انتخابات حرة ونزيهة، وينعقد خلالها «مؤتمر دستوري» من أجل تحقيق إجماع وطني حول كيفية حكم السودان.. واشتمل الميثاق على قيام نظام حكم فيدرالي من ثمانية أقاليم «فصل إقليمين لجنوب كردفان والنيل الأزرق ومنحهما حكماً ذاتياً»، بجانب العمل على فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة «إقامة دولة علمانية» بجانب التوافق على دستور انتقالي للحكم.. وقرَّرت القوى الموقعة على الوثيقة تكوين مجلس تنسيق انتقالي سوداني لقيادة وتنسيق الجهود المشتركة بين كافة أطراف هذه الوثيقة، والعمل على تقديمها للشعب السودان والمجتمع الإقليمي والدولي، وإحلال البديل والنظام الانتقالى فور إسقاط نظام المؤتمر الوطنى.. وفي ما يتعلق بالوسائل المتبعة لإسقاط النظام، اتفق الموقعون على الميثاق على إسقاط النظام بوسائل مختلفة وعلى رأسها العمل السلمي المدني الديمقراطي والكفاح الثوري المسلح، وأكدَّت الوثيقة دعم «الجبهة الثورية السودانية» المسلحة لاستمرار وتصاعد العمل العسكري، وتعبئة العمل الجماهيري وتحوُّيله لانتفاضة شعبية كأداة رئيسية لإسقاط النظام. إنّنا نعتقد أن الميثاق خطوة غير محسوبة بدقة.. وفي هذا الوقت بالذات.. ويتفق معنا في ذلك كثير من المراقبين السياسيين وقيادات الأحزاب.. لا سيما تلك الأحزاب التي وقعت على الوثيقة دون الرجوع إلى قياداتها.. فها هو الحزب الشيوعي يقول في بيان له أصدره في السابع من هذا الشهر «أكد الحزب الشيوعي مراراً وتكراراً، وأعلن على رؤوس الأشهاد، كحزب مستقل، وكطرف في تحالف الإجماع الوطني المعارض، ضرورة إيجاد صيغة مناسبة لإشراك كل القوى المعارضة تحت لواء التحالف، بما في ذلك الجبهة الثورية.. غير أن وفد التحالف تجاوز حدود صلاحياته، وتوصل لمشروع جديد تحت اسم الفجر الجديد، يعتمد وسيلة إضافية لإسقاط النظام هي الكفاح المسلح. كما شملت وثيقة الفجر الجديد أيضاً قضايا أخرى غير متفق عليها في التحالف، بل إن بعضها لم تتم مناقشته أصلاً».. كما أنّ حزب الأمة رفض الانضمام للاتفاق رغم أنّه كالعادة أمسك بالعصا من المنتصف، فقال في بيان له «لا يوافق حزب الأمة على أية بنود تؤثر سلباً على وحدة السودان، مع ضرورة العمل على أن تقوم وحدة البلاد على العدل والمساواة.. كما أنّ موقف الحزب المبدئي في العلاقة بين الدين والدولة يقوم على التوفيق بين تطلعات المؤمنين، والمساواة في المواطنة.. ويتطلع حزب الأمة لنظام جديد لا يقوم على تقويض الدولة، بل يقوم على أساس هيكلة جديدة لمؤسسات الدولة على أساس قومي.. نحن نلتزم بتحقيق الأهداف الوطنية بكافة الوسائل، ما عدا العنف والاستنصار بالخارج.. الميثاق المعلن به ترهل وتناقضات مما يستوجب أن يواصل حزب الأمة الحوار مع كافة القوى السياسية لتوحيد الرؤية الوطنية من أجل النظام الجديد المنشود». وهذا ما يؤكد تبرؤ بعض الأطراف الموقعة من الاتفاق الذي تمّ باسمها دون مشاورتها فيه. إنّنا نقول إنّ تلك الخطوة غير محسوبة لأنّها ستمنح الحكومة فرصاً للتضييق على نشاط المعارضة.. وذرائع للحد من تواصلها مع جماهيرها.. وسوف تعتبر الحكومة بعد التوقيع على هذ الميثاق اي نشاط سياسي سلمي للمعارضة بالداخل هو اشبه بالعمل العسكري، وهذا وضع يجعل الساحة السياسية كلها تعود لما قبل المربع الأوّل.. بل سيفاقم الأزمة السياسية في البلاد ويزيدها تعقيداً على تعقيد.. كما أنّ الميثاق ينص على انشاء اقليمين في جبال النوبة والنيل الازرق «ضمن الأقاليم الثمانية».. ويمنحهما حكماً خاصاً وهو ما سيكون مقدمة لفصل الاقليمين.. وإعادة تجربة «اتفاقية نيفاشا» المؤلمة التي انتهت بفصل ثلث مساحة البلاد وأبعاد ربع سكانها. وإذا استعرضنا تاريخ العمل المسلح للمعارضة، وهو التاريخ الذي تريد تكراره بما سمته ميثاق الفجر الجديد، سنجد انّها فشلت على مدى «23» سنة في تحقيق هدفها في «اقتلاع نظام الإنقاذ من جذوره» او حتى فروعه.. في وقتٍ توفرت فيه للتجمع المعارض فرص كبيرة لا تتوفر للموقعين على ميثاق «الفجر الجديد».. حيث كانت القاهرة عاصمة سياسية مفتوحة للتجمع.. وكانت أسمرا عاصمة للعمل المسلح، وحصل فيها على مباني السفارة السودانية بإريتريا.. وكانت امريكا مركز دعم مالي واعلامي كبيرين.. وكانت قرارات المنظمة الدولية «ومجلس الأمن» تصدر بانتظام ضد الخرطوم.. ولكن كانت المعارضة تفتقد لأية استراتيجية.. وتفتقد للترابط والتوافق بين عناصرها، ففي قمة العمل المسلح ذهب السيد الصادق المهدي وعقد اتفاقاً مع الحكومة سماهُ «نداء الوطن» في جيبوتي.. وفي المقابل نجحت الانقاذ وحزبها الحاكم في قطف فروع من الأحزاب المعارضة وجعلت منها حلفاءً لها ضد أحزابهم. إنّ الاتفاق الذي تمّ توقيعه في كمبالا مشابه في حيثياته وأهدافه ووسائله لمخرجات «مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية 1995م».. وهو المؤتمر الذي أقرت فيه المعارضة بحق الجنوب في تقرير مصيره.. وهو الحقّ الذي سار على هديه المؤتمر الوطني بعد عشر سنوات في «نيفاشا 2005م» حتى تقسم الوطن الواحد واصبح دولتين متناحرتين.. والتاريخ يعيد نفسه الآن.. وربما تُعيده القوى الغربية التي كانت سبباً في فصل الجنوب من أجل فصل دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.. ولهذا كان لا بدّ لنا أن نحذِّر هؤلاء الذين يريدون أن يتلاعبوا بمستقبل البلاد.. فالطريق الى السلطة يجب أن يمر عبر صناديق الاقتراع وليس صناديق الذخيرة.. والحرب لم تصنع سلاماً في يومٍ من الأيام.. وخير دليلٍ على ذلك أنّ الحركة الشعبية بعد خمسة عقود من الاقتتال عادت لمائدة المفاوضات. بلادنا أمام مصاعب وتحديات يمكن أن تعصف بوحدتها ولا تحتمل مزيداً من الشقاق والاستقطاب، وإذا كنا على موعد مع صياغة دستور دائم، فينبغي أن يكون مدخلاً للوحدة الوطنية. ونأمل من جميع القوى السياسية في الحكم والمعارضة أن تقدم تضحيات من أجل الوطن، فهل يدرك قومي النصح قبل ضحى الغد؟!