٭ هذا المقال تلخيص لورقة كتبتها بطلب من اتحاد المحامين السودانيين في اطار جهودهم للتعريف بالمفوضية القومية لحقوق الانسان، وكان من المفترض تقديمها في المنتدي الدوري لاتحاد المحامين السودانيين الذي انعقد بدار الاتحاد يوم السبت الموافق 9/11/3102م، ولكن لظروف خارجة عن ارادتي لم استطع تقديم الورقة، وقد قامت الأستاذة عائشة صبيرة بتقديمها بأفضل مما كنت سأفعل، ولتعميم الفائدة وفي إطار الاهتمام العام بالمفوضية، رأيت أن اقدم تلخيصاً ارجو ألا يكون مُخلاً للورقة: إن إنشاء المفوضية القومية لحقوق الانسان أتى في إطار تطور علاقة الدولة بالمجتمع، والسعي الحثيث لإيجاد عقد اجتماعي يليق بالانسان السوداني، هذا من جهة، من جهة أخرى من المؤسف أن تطورنا في مجال علاقة الدولة بالمجتمع لا يتم إلا في اطار صراع دموي مرير بلغ ذروته في حرب الجنوب والشمال التي انتهت باتفاقية نيفاشا التي كانت ادبياتها جزءاً من دستور 5002م الذي ضم وثيقة الحقوق وإنشاء مفوضية قومية لحقوق الانسان، المادة 241-3 (تراقب المفوضية تطبيق الحقوق والحريات الواردة في وثيقة الحقوق وتتلقى الشكاوي حول انتهاكات الحقوق والحريات). كما حدد قانون المفوضية في الفصل الثالث اختصاصات المفوضية 9 1 (تختص المفوضية بحماية وتعزيز حقوق الإنسان ومراقبة تطبيق الحقوق والحريات المضمنة في وثيقة الحقوق الواردة في الدستور)، هذا من جهة نجاحنا كشعب في تضمينها في الدستور وإيجاد قانون متقدم جداً بشأن إنشائها، أما الجهد الذي بُذل من أجل إصدار مرسوم رئاسي بتكوينها، فبدأت قصته من الدوحة، حيث أمضينا وقتاً طويلاً نؤكد فيه على ضرورة إنشاء مفوضية لحقوق الإنسان في دارفور بعد ثلاثة أشهر من إنشاء المفوضية القومية لحقوق الانسان، وقد أوردنا ذلك في وثيقة الدوحة والحمد لله استجابت الارادة السياسية واصدرت مرسوماً رئاسياً بإنشاء المفوضية في مطلع يناير 2102م وأود أن ألفت الانتباه الى إنني اطلاقاً لا أشير الى أن تطورنا القانوني والتشريعي وتطور علاقة الدولة بالمجتمع إنما تم بفعل الاتفاقيات الأخيرة، بل اعترف بأن هناك جهداً مقدراً بدأ منذ فجر الدولة الوطنية في المركز له أثره في تقدمنا نحو دولة القانون، وإن رافق الجهود التي تمت في المركز ايضاً صراعا دموي داخل الخرطوم تمثل في الانقلابات العسكرية ومجزرة بيت الضيافة وضربة الجزيرة أبا وال «82» ضابطاً الذين تم إعدامهم في رمضان. وللأسف ونحن نتقدم نحو دولة القانون من خلال التشريعات مازال مسلسل العنف السياسي والصراع على السلطة والثورة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية مستمراً. وأردت بهذا أن أُذكر بخلفية الأجواء التي تم فيها إنشاء المفوضية، لنرى حجم الجهد الذي يجب أن يتوفر من أجل تثبيتها وحجم الشراكة المجتمعية الذي يجب أن يتوفر لتناغم أدائها. ولنرى أيضاً كيف أنها تمثل تحدياً للإرادة السياسية، كما هو تحدٍ للإرادة الشعبية في رعايتها والدفاع عنها، وهى مكسب وطني ولم تأت صدفة، ولا العمل فيها ومن أجلها بذخ، بل كفاح ونضال وجهاد يجب أن يستمر بتفاعل تام بين كل المهتمين بكرامة الانسان. وكذلك اردت من خلال هذا السرد أن أثبت حقيقتين: 1/ إن هذه المفوضية قيمة لأداء السودانيين دُفع ثمنها غالياً ويجب المحافظة عليها. 2/ إن كونها أتت في أجواء من التوتر السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، يتطلب شراكة واسعة لتصميم أولوياتها والحكمة والصبر لبنائها. ٭ لقد أعطى القانون اختصاصات واسعة للمفوضية منها: 1/ إيجاد السبل اللازمة لتعزيز ومتابعة تحقيق الأهداف الواردة بالاتفاقيات والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. 2/ تقديم المشورة والتوصيات للجهات المعنية في المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان. 3/ النظر في أية تجاوزات أو انتهاكات لحقوق الانسان، والعمل على تسوية ما تتلقاه من شكاوى وبلاغات بشأنها، والتنسيق مع الجهات المختصة لاتخاذ اللازم بشأنها وإيجاد سبل معالجتها. 4/ النظر في مدى ملاءمة القوانين ومشروعات القوانين لأحكام الاتفاقيات الدولية بحقوق الإنسان التي تكون الدولة طرفاً فيها. 5/ رفع تقارير عن حالة أوضاع حقوق الإنسان للمجلس الوطني والى الحكومة مشفوعة بتوصيات المفوضية. وبجانب هذه الاختصاصات ولكي تقوي شراكتها مع الجهات المختصة، فإن المفوضية القومية لحقوق الإنسان تسعى لتقديم الخدمات الآتية: 1/ وضع برامج للتدريب وعقد الحلقات الدراسية والمؤتمرات والندوات وورش العمل، وتقديم المساعدة القانونية عن كيفية تلقي الشكاوى، والنظر فيها في ما يتعلق بانتهاكات حقوق الانسان. 2/ ستعمل المفوضية مع جهات محددة لتساعدها على ممارسة حقوق الإنسان أثناء أداء مهامها وفقاً للمعايير الدولية والمحلية لحقوق الانسان، ومن هذه الفئات على سبيل المثال لا الحصر رجال الشرطة والأمن، والمسؤولون في السجون، المعنيون بصياغة التشريعات، القوات المسلحة، وسائل الإعلام، المعلمون، منظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الانسان والمحامون.. الخ. 3/ تقديم المشورة بناءً على طلب أو مبادرة ذاتية من المفوضية عندما يتعلق الأمر ب: 1/ مشروعات القوانين التي تتعلق بحقوق الانسان مثل مشروعات القوانين المتعلقة بالاسرة أو الهجرة أو الانتخابات أو الخدمات الاجتماعية.. الخ. 2/ التحقق من مواءمة مشروع القانون مع الالتزامات الوطنية والاقليمية والدولية في مجال حقوق الانسان وتقديم التقارير للجهة المختصة. 3/ كشف القصور التشريعي في القوانين. 4/ رصد السياسات المتعلقة بالقصور في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية أو غيرها للمواطنين. 5/ رصد الأنماط الإدارية البيروقراطية التي تخل بالتمتع الكامل بحقوق الانسان أو تؤثر فيها. 6/ رصد الإجراءات القضائية التي تتعلق بحقوق الإنسان، مثل الحبس الاحتياطي أو تأخير المحاكمات. هذا بجانب خدمات نشر الوعي بثقافة حقوق الإنسان وتلقي الشكاوى والنظر بشأنها والمساهمة في اعداد التقارير، كذلك تقدم المفوضية المساعدة القانونية من خلال التعاون مع المحامين، بالاضافة الى الزيارات الميدانية. هذه بعض المهام التي تخطط المفوضية للقيام بها لأنها من صلب اختصاصاتها، وبنظرة خاطفة لهذه المهام مقرونة بالواقع المعاش يدرك المرء مدى التحديات التي تواجه المفوضية. ومن أهم التحديات التي تواجه المفوضية الآتي: ٭ وصلت منظومة حقوق الإنسان الى اقصى ما يمكنها، وذلك بوضع المعايير العالمية والقواعد والمبادئ التي يجب أن تقوم عليها المنظمات الوطنية لحقوق الانسان، والتي تحكم تشكيلها وطريقة عملها وعلاقتها بالدولة الأم وبالمؤسسات الدولية والاقليمية والوطنية الحكومية وغير الحكومية. وهذه المبادئ تعرف بمبادئ باريس 2991م التي لا يتم الاعتراف بالمنظمة الوطنية لحقوق الانسان إلا اذا تطابق قانون إنشائها مع معايير باريس المعروفة، وهى معايير وضعت لتحافظ على استقلالية المؤسسات الوطنية لحقوق الانسان وحيادها، حتى اذا تطابق أداؤها مع هذه المعايير استطاعت أن تحصل على عضوية (اللجنة الدولية للتنسيق بين المؤسسات الوطنية) من خلال وصولها للمرتبة (A)، لذلك فإن اكبر تحدٍ يواجهنا هو كيف نصل بالمفوضية القومية لحقوق الانسان في السودان الى عضوية لجنة التنسيق الدولية. ٭ التحدي الثاني هو غياب الرأى العام المهتم بقضايا حقوق الانسان الذي كان سيسهم في النقد البناء والمناصرة وحشد الدعم وتقويم المسار للمفوضية. ٭ التحدي الثالث عدم تجذر ثقافة حقوق الإنسان لأسباب كثيرة، منها التربية والسياسة القائمة على الكبت والقهر والاستعلاء بالدين أو العرق، مما يجعل نشر ثقافة حقوق الانسان بكافة الوسائل افقياً ورأسياً من اولويات عمل المفوضية، وكذلك نرجو أن يكون من أولويات كافة منظمات المجتمع المدني. ٭ التحدي الرابع ضحايا الصراع المسلح وبقاؤهم بلا كرامة خارج أطرهم الثقافية والمعيشية لفترة طويلة جداً، بجانب استمرار الصراع ونقص الغذاء والماء الصالح للشرب وتفشي الامراض وفي مساحات شاسعة من السودان، الأمر الذي يجعل مهمة المفوضية لحقوق الانسان في غاية الصعوبة، مما يتطلب شراكة مجتمعية تقتنع بجدولة الاولويات. إن التحديات التي تواجه المفوضية القومية لحقوق الإنسان لا يمكن حصرها، لكن يمكن محاصرتها بالعمل الدؤوب والصبر، ومع ذلك فإننا نجد أن هناك فرصاً مواتية اذا اغتنمناها فإن حالة حقوق الإنسان في السودان ستسير في طريق التحسن، منها: ٭ وجود وثيقة الحقوق في الدستور يجب أن يستمر في الدستور القادم، لأن وجودها في الدستور يعني تحول المفاهيم المتعلقة بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. الخ، من كونها منحاً الى كونها حقوقاً واجبة النفاذ، وهذه مرحلة متقدمة من مراحل تأسيس (المواطنة). ٭ وجود المفوضية القومية لحقوق الإنسان كمؤسسة تملك البُعد المحلي والاقليمي والدولي بولاية واسعة، يجعل مسألة حقوق الإنسان في السودان تدور بمباركة الدولة في مجال عريض يساعد على مراقبتها وعلى جعلها ثقافة راسخة وسلوكاً عملياً. ٭ أصبحت مسألة حقوق الإنسان المكون الثالث في مصفوفة العلاقات الدولية بعد الأمن والسلم ونزع السلاح من جهة، والتنمية المستدامة من جهة أخرى. وهذا التوجه العالمي مقرون بثورات الربيع العربي التي أتت كرد فعل على حالة الاحباط وإنسداد الأفق السياسي والتهميش، مما جعل الشعوب تخرج مطالبة بقيم الحرية والمساواة والعدالة، ويجعلنا نجزم بأن أى نظام أو كينونة سياسية أو حزب سياسي لا يحترم او يعلي من شأن حقوق الإنسان واحترامها سيكون مصيره التلاشي والانهيار. وهناك فرص متاحة كثيرة تجعلنا نتفاءل بمستقبل حقوق الإنسان، هذا إذا آمنا نحن بها وحملناها محمل الجد بوصفها مبادئ ومعايير من أجل الكرامة الإنسانية، وليست أدبيات للكيد السياسي أو أدبيات للترف الثقافي الفكري، دون أن نسعى لجعلها واقعاً معاشاً سلوكاً وأداءً.