ما أجمل منظرنا حين نمتطي البصات الجديدة لتجول بنا داخل ولاية الخرطوم، ونحن نتربع على مقاعدها الوثيرة، لننعم بهوائها المكندش المعبق بروائح البخور والملطفات العطرية، ونتأمل من وراء زجاجها النظيف في السيارات الصغيرة وعربات الأمجاد التي تبدو كالأقزام من تحت باصاتنا العملاقة! ذلك المنظر الذي سيجعلنا نتساءل في عجب وإشفاق: كيف يخاطر أصحاب هذه السيارات بأرواحهم وهم يقتربون من بصاتنا السريعة؟! ألم يجد هؤلاء الناس سوى تلك العربات البدائية ليتنقلوا بها ويزاحمونا في شوارع الولاية؟! يا لهم من مساكين! ولولا أن السيد الوالي رجل طيب وكريم لما سمح لهم أبداً بتلويث هواء الولاية بعوادم عرباتهم التاريخية! إن والينا الجديد يختلف عن المتعافي الذي حكم الولاية في زمان غابر، ذلك الرجل الذي كان يهتم بالنفايات أكثر من المواطنين! لدرجة أنه جلب لها العربات العملاقة من هولندا ليضمن نقلها بطريقة محترمة، بينما ينشحط مواطنوه تحت شمس النهار المحرقة لساعات طوال في انتظار أن يجود الله عليهم بحافة مكركعة علهم يجدون فيها موطئ قدم للشماعة لا أعادها الله! كان الناس في ذلك الزمان يشمّعون كالبهلوانات وفيهم الدكتور والمحامي والأستاذ الجامعي! يقف الواحد منهم متصلّباً لا يتزحزح وكأنه حرس القصر الجمهوري وقد صبت عليه المطرة! وذلك لأن أية حركة ستكون نتيجتها بهدلة الشكة والكرفتة، وسقوط النظارة السميكة! هذا غير حذرهم من الاصطدام بسقف الحافلة الملئ بالغبار! أما السيد الكمساري إمبراطور ذلك الزمان فلم يكن يكترث بوقفة أؤلئك الأفندية ولا بتصببهم عرقاً، بل كان يأمرهم أن يخفضوا رؤوسهم كلما برز له شرطي للمرور! ويا ويلهم لو رآهم أحد رجال المرور وقام بتغريم سائق الحافلة ثلاثين ألفاً من جنيهات ذلك الزمان! فإن السيد السواق سيظل يرمقهم من وراء المرآة بنظراته الغاضبة ولسان حاله يطنطن: ما قلنا ليكم ما دايرين شماعة؟! وكأنهم من هواة ركوب الشماعة! فيا له من سائق مستبد! أيحسب أنها ستدوم له أبد الدهر؟! فما الذي سيفعله بعد أن تأتي الباصات الجديدة؟! وأين سيجد أولئك المغفلين الذين يرضون أن يركبوا حافلته المكركعة بعد قدوم البصات؟! فنحن لسنا على استعداد أن نجازف بحياتنا مرة أخرى، ويكفينا ما سببته لنا تلك الحافلات من آلام في الظهر! وليحمد سائقوها ربهم أننا لم نطالبهم بتعويض لرد شرفنا الذي انتهكته أسلاك مقاعد حافلاتهم؟ ولأننا أناس طيبون فإننا نتمنى لهم حياة عملية طيبة بالسوق المركزي بعد أن يتحولوا إلى نقل الطماطم والخرفان! فهذه هي سنة الحياة! فمن اليوم وحتى تشغيل البصات قررت وبكامل قواي العقلية أن أقاطع الحافلات والأمجاد والبهدلة التي لا تشبهني أنا المواطن المحترم الذي عرفت الحكومة قيمته! وآمل من السيد الوالي أن يسرع بالبصات حتى لا يترك فرصة للشامتين للنيل مني! وأنا واثق تماماً من استجابة الوالي الذي يهتم براحة مواطنيه، وموقن أن حكاية البصات هذه ليست حلماً يراودني، ولا حتى دعابة من دعابات السيد الوالي التي عودنا عليها منذ قدومه! ولكي يطمئن قلبي أكثر أريد من السيد الوالي المبجل أن يظهر على شاشات التلفاز بطلعته البهية التي نتفاءل بها، ويقول لنا بصوته الدافئ الذي نحبه: إن هذه البصات فعلاً قادمة من أجل راحة المواطن! وإنها بصات جديدة لنج وليست بصات دلالة لا تصلح للعمل في الصين،كما يروج لذلك بعض الحاقدين! وإن كمية البصات ستكون كافية لنقل الجميع ولن يكون هنالك تزاحم عليها، وإنها ستحوم في كل شوارع الخرطوم من الحاج يوسف شرقاً وحتى سوق ليبيا غرباً، ومن سوبا جنوباًً وحتى الكدرو شمالاً! ولا ينسى سيادته أن يبشرنا بوجود الكندشة ويؤكد لنا أن السواق لن يتدخل في إيقاف المكيّف الذي لن نتازل عنه أبداً لأنه قضية مصيرية بالنسبة لنا! وعلى الوالي أن يواصل نفحاته ويخبرنا: أن سائقي هذه البصات سيكونون من شباب شركة الهدف المعروفين بانضباطهم ومظهرهم الراقي وعدم تعاطيهم للسعوط! فالبصات الجديدة ليست مقاهٍ بالسوق الشعبي! أما عن شاشات المشاهدة داخل البص؛ فإني أفضل المدائح النبوية، وليست لدي مشكلة مع تلفزيون السودان، والأمر متروك لحكمة الوالي! وأريد من سيادة الوالي أن يعيد على مسامعنا حكاية البطاقات الإلكترونية وكاميرات المراقبة عبر الأقمار الاصطناعية وذلك لأن هذه الحكاية ممتعة جداً، ونريد أن نسمعها من خشم الوالي، وأهم شئ عندي مما سيتحفنا به والينا الهمام؛ هو قيمة تذاكر تلك البصات! وأنها ستكون كما هي عليه، ولو لا خوفي من أن يموت المواطنون من شدة الفرح لطلبت من السيد الوالي أن يعلن عن تخفيضها في ذلك اللقاء المرتقب! هذا كل ما أرجو سماعه من سيادة الوالي، فإن كانت البصات جديدة لنج ومكندشة، وكافية للجميع في كل الولاية، وعليها سائقون محترمون، فذلك معناه أن قيمتنا الإنسانية قد ارتفعت لدى حكومتنا! * معلم / القبس بحري بنين