(1) مع طوفان الوافد النقدى تكاثرت القراءات النقدية التى تمارس مهمتها باعتماد مجموعة إجراءات تطبيقية مستخلصة من هذا الوافد , توظّفها فى قراءة النص العربى دون مراعاة للمغايرة بين الركائز الثقافية التى قامت عليها الإجراءات الوافدة ، والركائز الثقافية التى قام عليها النص العربى , ولاشك أن فى مقدمة هذه المغايرة (البناء الصياغى) فلكل لغة قوانينها وقواعدها التى تكاد تنغلق عليها ، دون أن ينفى ذلك أن هناك أسسا عامة تلتقى فيها كل اللغات. لقد كان فرح النقاد طاغيا عندما وقفوا على مجموعة الأدوات النقدية الوافدة ، وظنوا أنها تساعدهم على قراءة النص العربى على نحو غير مسبوق ، ومن ثم أقدموا على قراءة كثير من النصوص التى سبق قراءتها ، وسلطوا عليها أدواتهم الوافدة ، والنص المسكين بين أيديهم ، يتأبى عليهم تارة ، ويستسلم لهم تارة أخرى ، لكنه ? فى الغالب ? يعيش لحظات من القهر والإكراه فى مواجهة سلطة نقدية تحكمية ، تفرض على النص ما يرفضه ، ومن ثم فإن هذه القراءة الجديدة ، يمكن القول عنها إنها قراءة غير شرعية ، لأنها قد تؤذى النص إيذاء بالغا ، بل قد تؤدى إلى أن يفقد هذا النص هويته نتيجة للتشوهات التى أصابته . وفى رأينا أن هذا التشويه راجع إلى إغفال الناقد لقاعدة أساسية تحكم الظاهرة النقدية ، وهى أن النص يفرض على الناقد كيفية التعامل معه بأدوات تنبع من خصوصيته ، أى أن الناقد يتعامل مع النص بما فى النص ذاته ، لا بما يختزنه فى ذاكرته من إجراءات محفوظة ، سواء أكانت وافدة أم غير وافدة. على هذا الأساس نحاول قراءة نص من أهم نصوص الثقافة العربية هو نص (موسم الهجرة إلى الشمال) للروائى السودانى (الطيب صالح) ، وهى قراءة تعتمد الإنصات إلى نبضات النص وهمساته الحانية أو الشاكية ، مع إعطاء أهمية خاصة للمرجعيات الثقافية التى يقودنا النص إليها ، سواء أكانت مرجعيات عقلية معرفية ، أم واقعية تنفيذية ، أم حياتية سلوكية ، ويجب الإشارة هنا إلى أن هذه المرجعيات ربما تكون مضمرة فى النص ، لأن محلها المختار ? غالبا ? هو الفضاء النصى الذى يرتبط مع النص بعلاقة جدلية تقوم على الإعطاء والأخذ ، شريطة ألا يكون اهتمامنا بهذه المرجعيات الثقافية فيه جور على النص ذاته ، حتى لا نفرض عليه ما ليس فيه ، ونحمله ما لا طاقة له باحتماله. وإذا كانت النصية هى التى تقودنا إلى المرجعية الثقافية ذات الأنساق المتعددة ، فإن ذلك يقتضينا أن نوجه عناية بالغة إلى البناء الصياغى ، لأنه المادة الوحيدة المحسوسة نصيا ، ثم نوجه عناية خاصة لمجموع الشخوص ووظائفها ومهامها السردية والحوارية ، حتى لا تتحول قراءة النص إلى محاولة إدخاله قوالب سابقة التجهيز. (2) لقد كان ظهور نص (موسم الهجرة إلى الشمال) ذا أصداء هائلة ، لفتت الأنظار إلى واحد من أهم الروائيين العرب ، ولفتت الأنظار إلى حركة الإبداع الروائى فى السودان ، وهو ما يحتاج إلى الوقوف مليا أمام هذه الظاهرة الإبداعية وركائزها الثقافية التى أنتجتها . ولم تكن هذه الرواية هى الأولى للطيب صالح ، بل سبقتها رواية (عرس الزين) سنه 1962 التى تضمنت نوعا من الإجراءات الفنية فى رسم شخصية (الزين) بكل محتوياتها النفسية والفكرية ، وبكل مكوناتها الجسدية والشكلية ، لكن الرواية لم تنبه القراء إلى هذا المبدع ، وإنما جاء التنبه له عام 1966 عندما صدرت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) ، ثم تبعتها (بندر شاة) عام 1971 التى تكاد تكون إعادة قراءة فى (عرس الزين) و(موسم الهجرة إلى الشمال) ، لأنها تضع الماضى والمستقبل فى صدام مع الحاضر خلال : (الجد والحفيد فى مواجهة الأب) أى أن (عرس الزين) تكاد تكون امتدادا للروايتين السابقتين ، وهو امتداد يرتكز على أنساق ثقافية بعينها ، منها ما هو راسخ فى الأرض السودانية ، ومنها ما هو وافد من الشمال ، وبين الأصل والوافد تجرى الوقائع ، وتتحرك الشخوص لتحول هذا المقول النظرى إلى وقائع حية. ومن المؤكد أن هذه المغايرة بين ثقافة الشمال وثقافة الجنوب قد كانت ذا تأثير بالغ فى الواقع العربى عموما ، إذ إنها ولدت نوعا من الصدام الحضارى بين الشرق والغرب ، ونقصد الشرق العربى بالطبع ، وهو ما أنتج نصوصا روائية وغير روائية تجسد هذا الصدام ، منها ما صوره على نحو ناعم كما فى (أديب) لطه حسين ، و(عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم ، (والحى اللاتينى) لسهيل إدريس ، ومنها ما صوره على نحو خشن ، كما فى (قنديل أم هاشم) ليحيى حقى ، (وموسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح. وكلها نصوص لها مرجعيتها الثقافية المشرقية ، التى كانت مواجهتها لمعالم الحضارة الغربية مثيرة للدهشة التى تحولت إلى انبهار ، ثم أخذت تتحول إلى نوع من الصدام الذى تابعنا بعض ملامحه السردية فى النصوص التى ذكرناها ، فكل نص منها كان صاحب حق (القائل) الذى قد يضم إليه حق ( المقول) بكل تقنياته ، وبكل بلاغته التعبيرية ، وبين القول والمقول تحرك السرد صعوداً وهبوطاً متخطياً (القول والمقول) ليكون هو مستقبل القول ذاته ، أى هو المقول له .