أمام حشد من الجنود مدججين بالسلاح وتحيط بهم أشجار كثيفة تطفي نوعاً من التمويه حول المكان، وفي شكل مقطع ڤيديو نشر في «اليوتيوب» تحدث زعيم حركة العدل والمساواة د.جبريل إبراهيم في حفل أقيم خصيصا بتخريج دفعة من قوات حركته ، كان ذلك في بحر الأشهر التي أعقبت توقيع اتفاق التعاون بين دولتي السودان وجنوب السودان، ورغم العادية التي يمكن أن تتسم بها مثل تلك الأشياء على غرار ان الحركات المتمردة دائما ما تنحو في اتجاه بث أنشطتها عبر المواقع الاسفيرية لاعتبارات اتساع نطاق مساحة التعبير المتوفرة لديها، إلا أن المتفحص يمكنه أيضا استخلاص نقطة صغيرة تبدو ذات أهمية بمكان لكون أن مظهر الحفل الذي تخللته أناشيد وأغاني حماسية عبر مكبرات الصوت والعروض العسكرية يشي بأنه مكان آمن لا يمكن أن تمتد إليه يد القوات المسلحة السودانية، وهي دلالة بدورها تنبئ بان الحركة تتمركز في مكان ما خارج الحدود، والمكان هذا وفقا للحكومة السودانية هو دولة جنوب السودان التي ما فتئت تنفي وجود تلك الحركات في أراضيها، وهو أمر شكل مصدراً للجدل بين الطرفين، وبوادر حمى لا زال اتفاق التعاون يعاني من أعراضها، وفي هذا فإن تقرير لجنة العقوبات بالأممالمتحدة الذي صدر أول أمس وأشار صراحة إلى «أن حركة العدل والمساواة، ، لديها قاعدة عسكرية في دولة جنوب السودان تضم نحو 800 مقاتل» ربما يمثل تحولا جديدا في مسار البحث عن خلاص للعلائق «المتشربكة» بين الجارتين الخرطوموجوبا، لكون أن شقه المتعلق بالحركات المسلحة بحسب متابعين قد يدعم مواقف الخرطوم في هذا الاتجاه سيما وان اللجنة تعتبر محايدة في نظر الكثيرين انطلاقا من صفتها الأممية. فأولى الإشارات التي يمكن للمتابع الحصيف التقاطها من بين اسطر الكلمات التي أوردها التقرير والذي خصص جزء كبيراً منه لقضية دارفور، تكمن في أن القضية لا تزال مكان غلاط بين الدولتين، وهو أمر بدوره مرتبط باتفاق التعاون الذي لم يبارح مكانه بسبب ذات النقاط، التي يمثل الملف الأمني أهم ركائزها، في وقت نص الاتفاق على»توقف البلدين عن إيواء ودعم الحركات المسلحة المعارضة لنظام الدولة الأخرى»، فالخرطوم التي «جف حلقها» وهي تنادي بأعالي صوتها منددة بإيواء جوبا للحركات المتمردة ومطالبة المجتمع الدولي بالضغط عليها للتخلي عن ذلك، ربما قد يمثل لها هذا التقرير «قشة الغريق» باعتبار انه أكد ما كانت ترمي إليه في السابق وهي تطرق كل الأبواب بغية إيجاد من يسمعها، هذا إذا أخذنا في الاعتبار أن الأمر شكل العقبة الكؤود التي حالت دون إنزال الاتفاق «الرئاسي» إلى ارض الواقع، ورغم أن فقرات التقرير جاءت محشوة بالعبارات التي تجرم الخرطوم في محطات أخرى، وان الاحتفاء بالفقرة المعنية من قبلها يعني ضمنيا الاعتراف بما حواه التقرير من فقرات يحمل مضمونها اتهامات قاسية بحق السودان، الا ان الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية السفير ابوبكر صديق يعتبر في حديث ل(الصحافة) أمس ان التقرير مجرد شهادة من جهة محايدة أكدت ما هو معروف ولا يمكن ان تتهم بأنها تتعاون مع السودان، وأضاف صديق «حقيقة وجود حركات مسلحة سودانية في أراضي الجنوب شئ معروف وموثق وهو ما ظللنا نقوله ونحن متمسكون على ضرورة معالجة الملف الأمني وإعطائه الاولوية» ولتقريب الصورة أكثر عاد السفير صديق إلى الوراء قليلا وبالتحديد أحداث هجليج وزاد قائلا»لعلك تذكر أثناء احتلال هجليج كان مقاتلي حركة العدل والمساواة مشاركين في القتال ووثقت المسألة عبر وكالة أنباء عالمية في شكل صور» وانطلاقا من مواقف الخرطوم وتأكيدات اللجنة الأممية، فإن رياح التوقعات اللاحقة ربما سارت عكس سفن دولة الجنوب التي ظلت تنكر علنا أية صلة لها بالحركات المتمردة الدارفورية، والشاهد أيضا ان الاجتماعات التي تعقد بين اللجان الفنية الأمنية الخاصة بالمفاوضات بين الدولتين، تواجه بمواقف متشددة ونبرات حادة عندما يتدحرج الحديث إلى نقطة رفع الدعم والإيواء ، وكثير ما تتحطم المحاولات الساعية إلى إيجاد مخرج بسبب الإشارات عن دعم أية دولة لمعارضي الاخرى، ولكن حيثيات التقرير الاممي هذا بحسب متابعين يضع جوبا في محك النفي والإثبات أمام مناصريها والوساطة، ووفقا لخبير القانون الدولي عضو الحزب الشيوعي د.صالح محمود «أن قرارات الأممالمتحدة بغض النظر عن الاختلاف معها غالبا هي تقارير تعد من خبراء بالتالي لا تأتي من فراغ مما يلغي بتبعات جديدة على دولة الجنوب وفقا للقرار الاممي» ويضيف صالح في حديث ل(الصحافة) أمس»هذا ربما يعزز من موقف الحكومة السودانية باعتبار ان دعاويها في هذا الجانب صادقة واعتقد ان هذا برمته سيشكل نقلة جديدة ويضع الوساطة الإفريقية في موقف جديد للتعامل مع دولة الجنوب بشأن الملف مع السودان»، بينما ينبه السفير ابوبكر إلى محطة أخرى يرى بأنها كفيلة في ان توقع جوبا تحت طائلة المراجعة والمحاسبة بقوله «ان جنوب السودان الآن صار عضواً في المؤتمر الدولي لإقليم البحيرات العظمى وهي منظمة إقليمية غرضها الأساسي السلام في المنطقة وهي صنفت حركة العدل والمساواة وحركة عبدالواحد نور بأنهما قوة سلبية مثلهما وجيش الرب الذي يهدد امن الإقليم» وأضاف»هذا إلى جانب الاتفاقيات الثنائية مع السودان فان حكومة الجنوب ملزمة بموجب معاهدات السلم والاستقرار والتنمية في دول إقليم البحيرات بعدم دعم وإيواء الحركات المتمردة ولكن هذا دليل واضح بأنها لا تلتزم بذلك» ولكن رغم قوة الحيثيات ووضوح البراهين التي يعتقد الكثيرون بأنها كفيلة بتجريم دولة الجنوب وإجبارها على اتخاذ مواقف تتسق مع نص اتفاقاتها الثنائية مع السودان ومعاهدتها الدولية في محيطها الإقليمي، إلا ان بعض المراقبين يسيرون عكس ذلك، ويشيرون في الكثير من الأحايين لا تجد تلك التقارير سنداً يحولها إلى حقيقة ملموسة، رغم اعترافهم بقوة واعتبارية التقارير التي تصدر عن المنظمة الأممية، وهنا يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة بحري د.حمد عمر حاوي «ان تقارير الأممالمتحدة تأخذ وزنها وبها قدر كبير من المصداقية، لكن الأهم من ذلك كله بحسب حاوي هو هل ستبني الأممالمتحدة على تقريرها هذا أي تحرك أو مجهود للتعامل مع هذا الوجود أم لا؟ وللإجابة يقول حاوي «لا اعتقد أنها ستتخذ خطوات عملية ، والتعامل معه في هذه الحالة يصبح مجرد تقرير على الورق يقرأه الناس دون أي تأثير»، وما قاله حاوي يبدو صحيحا إلى حد ما بالنظر إلى ما قاله الناطق الرسمي باسم حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم ل(الصحافة) أمس عندما نفي ما ورد في التقرير الاممي، بقوله» الحديث عن وجود معسكرات لحركة العدل والمساواة السودانية داخل دولة جنوب السودان غير دقيق وليس هناك ما يثبت صحته» ويضيف «بمجرد الاستناد على استنتاجات دونما دليل مادي يبقى الخبر في سجل الاعتماد على الإشاعات ليس أكثر، ولا يمكن إعتبار وجودنا في الولايات الحدودية مع الجنوب مثل جنوب وشرق دارفور وجنوب كردفان مؤشراً للتواجد في جنوب السودان، كما لا يمكن إعتبار تعامل دولة جنوب السودان مع المواطنين السودانيين نوعا من أنواع الدعم للحركة»، وللمآلات المرتقبة يعود حاوي إلى التذكير بان دولة الجنوب حال وصل الأمر إلى التنفيذ ستذهب بأدلة واضحة عن اتهاماتها للخرطوم بقصف أراضيها بالطائرات، ويضيف «هو جدل وكل طرف لديه حجة وبينات وأدلة، ويخلص الرجل إلى ان مسألة التأويل على ان الحل سيكون هناك في محافل الأممالمتحدة أمر خاطئ لان الأفضل دائما هو التفاهم المشترك للوصول الى حلول على حد تعبيره.