كل النزاعات فى السودان أنتهى بها الأمر أخيرا الى طاولة التفاوض، والنزاعات ايا كانت محدودة او كونية بما فيها تلك التى انتهت باخضاع الخصم واستسلامه كتبت نهاياتها على أيدي المفاوضين، وتجاربنا الحوارية السودانية ولو أنها تمخضت فى الغالب عن اتفاقيات يوقعها طرفا النزاع وبغض النظر عن مردودها ودرجة رضاء الاطراف الموقعة عليها، الا انها فى الكثير من الاحيان أما ادت الى تجدد النزاع بشروط جديدة أو خلقت نزاعاً آخر، وفى جميع الاحوال كانت تلك الحوارات وما تلاها من اتفاقيات ثنائية الاطراف عالجت مشكلات جزئية، سجلت تاريخاً لانعدام الثقة وإهدار الكثير من الموارد والفرص، ابتداءً من اتفاقية الخرطوم للسلام وأبوجا «1،2»، نيفاشا، القاهرة، الشرق والدوحة، وكانت جلسات التفاوض تجمع بين بعض أبناء الوطن وفى بعض من أجزائه بعض ابنائه يتقاتلون، ولم يفلح وضع بعض الاتفاقيات فى الدستور أو الحاقها به في أن يعطى قيمة اضافية لهذه الاتفاقيات لجهة صمودها وتخطى الصعاب والاتيان بمردود يرجح كفة السلام وايقاف هدر الموارد من أجل توجيه كل الطاقات للبناء والتنمية، ولذلك أتى العائد هزيلاً ولم يكن فى أحسن الاحوال «باستثناء نيفاشا» إلا إراقة لماء وجه بعض اطرافها، وبالطبع ازدياد تشددهم لجهة انعدام مصداقية النظام وجديته فى تنفيذ ما يتفق عليه، وكل ذلك وضع البلاد بأكملها بعد انفصال الجنوب على حافة الهاوية! فالأزمة الوطنية الشاملة قد استحكمت حلقاتها وزاد الأمر سوءاً بتردى الاوضاع الاقتصادية وانفلاتها وازدياد معدلات الفقر وانعدام الامن وظهور انواع من الجرائم الاقتصادية وجرائم التعدى على الغير التي لم تكن معروفة من قبل فى بلادنا، وشهد الوضع السياسى الراكد حراكاً فى الايام الماضية ربما يتجاوز الاحتمالين المطروحين، إما «إسقاط النظام أو بقاء النظام»، مع النتائج المتوقعة فى الاحتمالين، وقد يكون البحث عن طريق ثالث بشهادة دولية يعبر عن مخاوف الفريقين من احتمالات الانفلات فى حالة حدوث اى الاحتمالين، وهو يعكس ايضاً مخاوف دول الاقليم والمجتمع الدولى من حدوث فوضى فى المنطقة بكاملها، وربما كانت الندوة المغلقة بين الحكومة والمعارضة التى التأمت برعاية مركز الحوار الانسانى «جنيف» بالقاعة الماسية بفندق السلام روتانا مؤشرا إلى ذلك، والمتحدثون فى الندوة من الطرفين سموا ما يحدث داخل القاعة «مرحلة ما قبل الحوار»، وبعد إخراج الهواء الساخن ساد جو من العقلانية برزت من خلاله اشتراطات الطرفين، وهى تبدو معقولة ومنطقية وتشكل مدخلاً لحوار جاد، لو وجد ما يمكن تسميته بالاتفاق على ايجاد طريق «ما» للحوار، ورغم أن الدعوة كانت شخصية الا أن مواقف المتحدثين حملت بلا ريب مواقف ومخاوف الأطراف المعارضة من جدوى الحوار اذا كانت الحكومة وحزبها الحاكم مازالا يراوحان مكانهما. وانطلاقاً مما سمته اطراف المعارضة «الحل الشامل» تناوب المتحدثون عنها فى تأكيد أن لا حل من غير مشاركة كل الاطراف، وبالذات الحركات المسلحة والحركة قطاع الشمال. ورأت أن ذلك فى حد ذاته يشكل ضمانة للابقاء على ما تبقى من الوطن، وهو هدف فى سلم أولوياتها، وركز أغلب المتحدثين على ضرورة أن تفهم الحكومة أن هذا الحوار أن تم سيكون حوار الفرصة الواحدة والاخيرة، ولذلك عليها أن تحسن الخطاب تجاه المعارضين من ابناء الوطن؟«سلميين ومحاربين» وتكف عن نعتهم بالعملاء والمارقين وشذاذ الآفاق، كما عليها أن تحسن الخطاب تجاه المجتمع الدولى بما يؤكد احترامها للقانون الدولى وإبداء التعاون في ما يلى اغاثة المناطق المتضررة من الحرب، كما شدد البعض على انه حوار لا يرجى منه فى غياب الحريات والتضييق على القوى الوطنية وحرمانها من ممارسة حقوقها وفقاً للقانون والدستور. والحزب الحاكم من جانبه شدد على فكرة الاتفاق على الثوابت الوطنية، وضرورة التمييز بين الحكومة والدولة.. وهو أمر اعتبرته المعارضة من البديهيات، كذلك أبدى الحزب الحاكم تخوفه من تردد المعارضة وتفرقها، وأبدى المتحدثون من لجنة تنظيم الندوة ارتياحهم لاعتبار أن الندوة قد نجحت في جمع الفرقاء وتأكيدهم على الالتزام بالحوار بعد أن تتوفر مطلوباته، ورجح بعض المراقبين أن الحزب الحاكم قد يطمئن الى أن فرضية إقصائه قد تتراجع إذا أظهر قدراً من الجدية والحرص على سلامة البلاد وإمكانية تخطيها للاوضاع المأساوية التي تعيشها، ولتكن البداية بالاعتراف بالأخطاء ونقد التجربة بشجاعة والاحتكام الى مبادئ العدالة الانتقالية عبر آلية للمصالحة الوطنية وبرنامج للاجماع الوطنى، وهذا الحوار يتطلب أن يتخلص المؤتمر الوطني من خوفه ومن مشكلاته الداخلية، وأن يتوحد حول فكرة الحوار، وأن يعي المخاطر التى تحيط به، ويظهر ويؤكد الاستعداد لتقديم التنازلات فى ملفى الثروة والسلطة لصالح الوطن. وبخلاف ذلك سيكون الحوار مستحيلاً.