أهي جبال النوبة أم جنوب كردفان؟جبال النوبة أقدم من جنوب كردفان من حيث التسمية ومن حيث التداول السياسي للمصطلح على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، لكن كثيرين يتحفظون على تسمية جبال النوبة لاعتبارات خاصة بهم، ودائماً ما أكتب باسم جنوب كردفان باعتباره أوسع وأشمل وأرحب، لكن في هذا المقال بالذات أتحدث باسم جبال النوبة بوصفها منطقة وليست عرقاً، لأن الخطاب أقرب إلى الخصوصية باعتبار أن معظم المنتسبين للحركة الشعبية بجبال النوبة هم من أبناء النوبة، وبالتالي فإن التحليل الذي نتناوله في هذا المقال يعنيهم في المقام الأول كأصحاب قضية من الدرجة الأولى. وأود أن أشير هنا إلى أن المنهج المتبع في كتابة هذا المقال وبهذا العنوان «جبال النوبة» هو منهج مقتبس من منهج الحكومة السياسي الذي أثبت الاسم «جبال النوبة» في كل المحاضر والاتفاقيات الدولية، بل وحتى في الدستور الانتقالي الذي تضمنته اتفاقية السلا م الشامل، كما أن المؤتمر الوطني بوصفه حزباً حاكماً أطر لهذا الاسم داخل الحزب الواحد، فسمى اللجنة السياسية لإبناء النوبة التي لا يدخلها إلا من كان من القوم، وسمى المجلس الإسلامي لإبناء جبال النوبة، والهيئة الشعبية الإسلامية لإبناء النوبة، ولعل الاسمين الأخيرين من آخر اجتهادات الحركة الإسلامية التي أغلقت باب الاجتهاد، فنحن نتعامل مع واقع أملته علينا سياسات الحكومة، وما علينا إلا الاتباع والانصياع تمشياً مع المثل القائل: «راجل أمك كلو أبوك». كذلك أود أن أشير هنا قبل الولوج في جوهر الموضوع، إلى أن بعض معوقات السلام تكمن في أبناء النوبة أنفسهم بسبب صراعاتهم وتنافسهم الحاد داخل الحزب الواحد، وقد يكون هذا بدافع الهوى وحظوظ النفس، وقد يكون بفعل بعض شياطين الإنس الذين يعملون بمبدأ «فرق تسد»، لكن في كل الأحوال المتضرر الأول هو إنسان المنطقة والمنطقة نفسها، لذلك يجب الانتباه إلى هذه النقطة تحديداً خاصة من بعض الشباب الذين صعدوا إلى القمة دون سند جماهيري، ويناطحون بكل السبل المشروعة وغير المشروعة من أجل البقاء في الموقع لأطول فترة ممكنة حتى ولو ظلت عشيرته في قبضة التمرد. انتهى المدخل، فإلى جوهر الموضوع: أصبحت قضية جبال النوبة من القضايا السياسية والأمنية الأكثر خطورة، وأخذت بعداً إعلامياً أشد خطورة على مستوى العالم عبر المنظمات والآليات الداعمة لهذه القضية، فهذا البعد الإعلامي كان أحد أهم أسباب تعقيد المشكلة وتدويلها وتأزيمها، حتى وصلت إلى هذه المرحلة الحرجة الضبابية التي لا تعطي أي مؤشر لحل نهائي رغم المفاوضات غير المباشرة مع حاملي السلاح من قطاع الشمال. ولكي نناقش هذه القضية بعقلانية ومنطق، نفترض افتراضاً علمياً وحوله ننسج جملة من الخيوط والسيناريوهات المتوقعة في حال صح الافتراض أم لم يصح، والافتراض هو: هب أن الحكومة تواضعت وتراجعت عن موقفها المتشدد مع قطاع الشمال وتفاوضت معه وتم الوصول إلى اتفاق سلام بالذات في جبال النوبة، هل سيكون هذا الاتفاق نهائياً ودائماً، أم سيكون مجرد خطة تكتيكية لوثبة عسكرية ثانية من الطرف الثاني؟ وربما توافق ذات التاريخ المشؤوم «ستة ستة الساعة ستة» كما تكهن بعض الكجرة في جبال النوبة. كل الدلائل تشير إلى أنه طال الزمن أم قصر فلا بد من الجلوس مع قطاع الشمال والتفاوض معه، وفي هذه الحالة لا محالة أن عبد العزيز الحلو سيكون الحاكم على جبال النوبة، وربما يأتي الاتفاق بولاية اسمها جبال النوبة، وهذا ليس بالأمر المستغرب ولا البعيد في ظل الضغوط المتزايدة على السودان، وفي ظل البحث المستمر للخروج من الأزمة بأي ثمن، ولنفترض أنه تم التوصل لاتفاق فهل يعني هذا نهاية المشكلة في جبال النوبة؟ لا أعتقد ذلك لسبب واحد رئيس، وهو العلاقة التاريخية بين الحركة الشعبية الأم والحركة الشعبية قطاع جبال النوبة، فالحركة الشعبية لتحرير السودان لها أهدافا ستراتيجية تتمثل في تحرير السودان من العرب العاربة والمستعربة، وبناء سودان جديد خالٍ من العناصر العربية، كما صرح بذلك يوري موسيفيني الرئيس اليوغندي عندما قال إن العرب خرجوا من اسبانيا بعد خمسمائة سنة من حكمها، فلا بد أن يخرجوا من إفريقيا بذات الطريقة، وبالتالي هذا هدف استراتيجي للحركة الشعبية تسعى لتحقيقه بكل الوسائل بما في ذلك الحركة الشعبية قطاع الشمال أو قطاع جبال النوبة لا فرق، ولذلك فإن أي اتفاق مع قطاع الشمال سيكون اتفاقاً مرحلياً بالنسبة للحركة الشعبية لتحقيق أهداف سياسية فشل الحلو في تحقيقها بشعار النجمة، وفشل كذلك عن طريق الهجمة، إذن فأقرب طريق للوصول إلى أهداف الحركة الشعبية ان يتم اتفاق سلام مع قطاع الشمال «أبناء النوبة» على وجه التحديد لقربهم من دولة الجنوب، ولعل الذي يؤكد ما ذهبنا إليه هو إصرار حكومة الجنوب على عدم فك الارتباط بقطاع الشمال، وإصرار المجتمع الدولي على التفاوض مع قطاع الشمال تحت البند «ستة وأربعين عشرين»، وفي تقديري أن إصرار الحكومة على عدم التفاوض مع قطاع الشمال يأتي في إطار تخوفها من هذا الاتجاه الذي أشرنا إليه، فإن السودان في أي اتفاق سلام يعود بالحلو إلى كادوقلي يعني مزيداً من التقوية العسكرية لهذا القطاع المدعوم من حكومة الجنوب التي تعمل بالوكالة لتفتيت السودان وتمزيقه أو صوملته أو بلقنته حسبما يريد الغرب. فإذا كان عبد العزيز الحلو أثناء تنفيذ بنود اتفاقية السلام الشامل، وهو نائب الحاكم وقتها، يجند رجاله ويستعد للتمرد حال فشله في الانتخابات، فما الذي يمنعه أن يتمرد للمرة الثانية وهو رجل غير وفي ولا مخلص. ونحن لسنا على علم بما في الضمائر، لكن المنطق العقلاني والشواهد ومعطيات الواقع تؤكد أن أي اتفاق مع قطاع الشمال يعني الوثبة الثانية لعبد العزيز الحلو في إطار تنفيذ أجندة الحركة الشعبية لتحرير السودان، ونحن نعلم تماماً أن قطاع الشمال ما هو إلا آلية لتنفيذ أجندة خاصة لحكومة الجنوب، ونحن نقول هذا من باب التحليل السياسي ومن باب الافتراض العلمي للأحداث، ونريد من هذا كله أن نتعامل مع الواقع بأعين مفتوحة وبصائر واعية، فليس من الحكمة أن نلدغ من الجحر الواحد أكثر من مرة. إذن ما ذكرناه آنفاً يمثل الشق الأول من الافتراض في حال تم التوصل إلى اتفاق سلام مع قطاع الشمال وما يترتب على هذا الاتفاق من تداعيات حسبما حللنا. والشق الثاني من الافتراض هو إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق فما هو مصيرالمنطقة «جبال النوبة»؟ والذي لا شك فيه أنه إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام «مضمون العواقب» فإن منطقة جبال النوبة ربما تكون أسوأ بكثير من دارفور، وربما سمعنا عن معسكرات البرام وأم دورين وأم سردبة وكوراك وطروجي، ولات حين مندم، ولذلك يجب تسريع الخطى من أجل الخروج من هذه الأزمة بأقل التكاليف والخسائر، فإذا كنا نحن الآن في العام الثاني بعد الهجمة ونرى بأم أعيننا ما أصاب المنطقة من خراب، وما أصاب المواطن من تشريد وضياع، فماذا يكون الوضع إذا استمرت الحرب أكثر من هذا؟ وينبغي أن ندرك أن الحركة الشعبية قطاع الشمال لا تمتلك الإرادة الذاتية التي تؤهلها للجنوح للسلام، وإنما تقوم بدور مسرحي هزيل لصالح قوى إقليمية ودولية تسعى لإسقاط النظام القائم منذ بزوغ فجره الأول لأسباب سياسية وأيديولوجية معلومة، فلما استعصى عليهم الأمر لجأت إلى خيار التقسيم والتفتيت الداخلي، فكانت البداية بفصل الجنوب ليصبح القاعدة التي تنطلق منها الحركات المسلحة ضد السودان، ولذلك ضم إليه قطاع الشمال والجبهة الثورية وأخيراً ستنضم جبهة الفجرالجديد، فهذه كلها مؤشرات سالبة للوضع في جبال النوبة في حال عدم التوصل لسلام دائم يحفظ للإنسان عيشه وسلامته وكرامته الإنسانية، بعد المرارات التي ذاقها من جراء الحرب، ولذلك نتوقع أسوأ الاحتمالات في جبال النوبة مع استمرار الحرب، خاصة أن الحدود بين الجنوب وجبال النوبة حدود ممتدة ومفتوحة، وهذا يعني أيضاً إطالة أمد الحرب إذا لم يتم السلام، ولذلك كل الافتراضات المتوقعة في غير صالح المنطقة إلا في حالة واحدة، وهي إذا تغيرت عقلية المفاوضين من الطرفين ووضعت مصلحة المنطقة فوق المصالح السياسية، وهذا من الصعوبة بمكان في تقديري.