ان علاقة دارفور بالمركز علاقة غير طبيعية، فهي بدأت في الاتصال عادية جداً في حالات التحرر والانعتاق من المستعمرين، وعادت في الاتصال بالمركز بالقوة في حالات السيطرة الخارجية، فمعروف ان دارفور ليست لها علاقة بالمركز قبل احتلال الزبير باشا لها بالقوة وضمها الى الادارة التركية في السودان وكان ذلك عام 1874م. فزحف من جنوب السودان وخاض حروباً عظيمة ضد الرزيقات منذ عام 1866 حتى هزمهم عام 1873م، ومن ثم تحرك للفاشر فدخل مع السلطان ابراهيم قرض في حروب عظيمة حتى قتل السلطان في منواشي عام 1874م ومن ثم أصبحت دارفور جزءاً من السودان التركي، ولكن لم يستكن أهل دارفور وانما قاموا بثورات متتالية ضد الاحتلال حتى سميت فترة السبع سنين التي قضتها دارفور تحت الاحتلال التركي بفترة الحروب والاضطراب، دون أدنى شك فان يقين الأتراك الذي تزحزح كان بسبب الجهد الذي بذلوه لاستتباب الوضع في دارفور، وكان ذلك على حساب الاقتصاد والاجتماع والسياسة الخارجية للدولة التركية، فحرك الأطماع الدولية في دارفور على حساب ضعف الادارة التركية التي هزتها الحروب الدارفورية، ولا ننسى أن المهدي لم يكن بعيداً عن هذه الحروب والمعارك في دارفور، فقد كان في الأبيض ويراسل أهل دارفور. المرة الثانية التي انضمت فيها دارفور طواعية الى السودان، كانت في أعقاب قيام الثورة المهدية عندما استنجد بهم المهدي وبايعوه في قدير الكردفانية، بايعه مادبو ومعه أهله المعاليا ولفيف من القبائل الجنوبية المتاخمة لدارفور، وتحرك حتى أقنع قبائل دارفور بسهولة دون اي حروب يخوضها، وكانوا هم الوقود الأساسي لحروب المهدية في التحرك من الغرب زحفاً لأم درمان حتى تم فتح الخرطوم وقتل غردون بمشاركة كل أهل السودان وعند استلام الخليفة للحكم بعد الامام المهدي، لاحظ أهل دارفور أن الحكم أصبح مركزياً لا يطاق رغم أن الخليفة منهم، ولكنهم لا يهتمون بالأشخاص بقدر الاهتمام بأساس الحكم، ومعلوم أن القبضة المهدوية للحكم كانت مركزية للغاية. ومعنى ذلك سلب الصلاحيات من السلاطين والنظار والملوك في دارفور «الإدارة الأهلية» الأمر المرفوض تماماً من الدارفوريين، قد لا يتخيل القارئ أن الحروب التي خاضتها المهدية في دارفور تكاد تضاهي الحروب التي خاضتها في كل أنحاء السودان، وأن الدماء التي سالت في دارفور من جراء هذه الحروب لا تقل عن حروب كرري وأم دبيكرات. معركة واحدة لعثمان جانو حاكم الفاشر وكانت في الجهة الغربية للفاشر سقط فيها أكثر من خمسة آلاف قتيل. والثورات تتالى، والثوار يسقطون، كالأمير هرون سيف الدين ودود بنجة، أبو الخيرات، أبو جميزة، ابراهيم الوالي، سندكة، مادبو، تورجوك، أبكر اسماعيل، كل هؤلاء وغيرهم ناجزوا المهدية في دارفور. هذه الحروب الاستقلالية أيضاً كانت بداية النهاية للمهدية بأثرها في السودان - للأسباب التالية - الانهاك المستمر للأنصار قتلاً ودماراً للاقتصاد، لأن هذه الحروب كانت تكلف خزينة الدولة الشئ الكثير، تعطل دولاب العمل في دارفور، توقفت الزراعة وضاعت المواشي وتكثفت العطالة، وأصبحت الاشاعات ضد المركز تلاك في كل مكان، رغم ايمان الناس بالمهدية الا أن الاختلاف كان في كيفية حكم البلاد، فان القبضة المركزية أضحت مرفوضة من قيادات البلد. طبيعي أن تسقط الدولة التي كان وقودها الناس الذين وقفوا ضدها الآن، ورجعت دارفور الى استقلالها من جديد وتربع السلطان علي دينار على عرش آبائه الذي كان يرنو اليه وهو شبه حبيس في أم درمان، فالخليفة لشدة الحروب ضده في دارفور، أرسل لمعظم القيادات من غير الذين أعدمهم، وأتى بهم الى أم درمان كعلي دينار وموسى مادبو، ولكن كل ذلك لم يفل في عضد الانتفاضة الدارفورية. صحيح أن الانجليز في بداية أمرهم لم يتحمسوا لضم دارفور كلية للخرطوم، خوفاً من ثورة تقوم عليهم من جديد، واكتفوا فقط بالادارة الشكلية تاركين لعلي دينار ان يفعل ما يشاء في بلده، وهذا جلب عليه مقتاً جديداً من مواطنيه في شتى قبائلهم، لأنه أيضاً حاول القبضة الحديدية المتمركزة في الفاشر وأيضاً كانت مرفوضة. ومن جهة أخرى عندما أحس علي دينار بالاستقلالية مدد رجليه أكثر من اللازم ، فأراد أن يستقل بسياسته الخارجية، مرة مع السنوسية ومرة مع حاكم مصر، حتى ان الانجليز علموا بغضبه عندما خلعوا سلطان مصر في فترة من الفترات، وكانوا له بالمرصاد، وعندما أعلن انضمامه الى الخلافة العثمانية والتي انضمت بدورها الى حلف المحور ضد الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، والتي تقوم على رئاسته بريطانيا مستعمرة السودان. هب الانجليز ضده وأسقطوه بكل سهولة في عام 1916م وقتلوه. ولكن الجن خرج من قمقمه من جديد ثائراً ضد الهيمنة المركزية في الخرطوم، وزيادة على ذلك فان الحكم كان استعمارياً دخيلاً نصرانياً. فاذا قاوم أهل دارفور حكم المركز الذي فيه بني دينهم الأتراك والزبير باشا، وقاوموا حكم المركز الذي على رأسه ابن دينهم وجلدتهم الخليفة عبد الله، فكيف لا يقاومون حكماً استعمارياً أبيضَ نصرانياً، فقامت الانتفاضات تلو الانتفاضات ثورة السحيني بنيالا وقتل المفتش الانجليزي ، ثورة المساليت وحرق العلم البريطاني في مظاهرات صاخبة بالفاشر. حتى جاء الاستقلال، ولأن الوطنيين لم يحسنوا السياسة في حكم السودان، فالقبضة المركزية هي العلة التي واجهت كل الأنظمة التي كانت قبلهم، وبالمقارنة فان الحكم السناري عندما كانت فيه المرونة الكافية لادارة الأقاليم ومشاركة «لونية» في الحكم استمر لأكثر من ثلاثة قرون ولم يسقطه الا غزو أجنبي. أضف الى ذلك فان الوطنيين لم يستطيعوا فهم سياسة الحكم في اقليم دارفور، فتصفية الادارة الأهلية التي دمغ الشيوعيون بها فان كثيراً من القيادات السياسية كانت خلف الحل معه وراء الكواليس، وبهذا اضطرب الاقليم، حكماً مركزياً قابضاً وتدخلا سافرا في سياسته الداخلية ، وللعلم فان أسباب سقوط مايو كانت على اثر السياسات في الأقاليم من حيث التوزيع غير العادل للثروة والسلطة والسياسات التعسفية بين القبائل وهذا بدوره أفضى الى ركود في الانتاج وزحف الى المدن الكبيرة خاصة الخرطوم وتحرك عالمي لمعاينة سوء الادارة والتخطيط في البلاد، هذا التكدس البشري والمضايقة في المعايش والمواصلات والمستشفيات حرك كوامن سكان الخرطوم ومن ثم كانت الململة وتطور الأمر الى انتفاضة. والآن نعيش نفس المشاكل القديمة التاريخية من قبضة مركزية وسياسات عقيمة وسط قبائل دارفور، ومراقبة دولية لصيقة لما يجري في دارفور وفي السودان، حتى وصل الأمر إلى محكمة العدل الدولية. أرى أنه لابد من اعادة النظر في النظام الفدرالي الذي تدعيه الحكومة الآن، والتفكير ملياً كيف يحكم السودان، ان الفدرالية الأمريكية والفدرالية السويسرية الحقيقية وغيرهما من سياسات الحكم اللامركزي في كثير من الدول والتي بها حافظت على وحدتها ونموها وتطورها كفيلة بأن تجعلنا نفكر مثنى وثلاث ورباع وخماس في أمر سياسة المركز «الخرطوم» التي حكمت البلاد، ولم تقدمها الى الأمام بل أرجعتها الى الوراء خطوات وخطوات.