تأخر توقيع مصفوفة تنفيذ اتفاق التعاون بين السودان وجنوب السودان نحو ستة أشهر لم يكن مبرراً ولم يستفد أي طرف من هذا التأخير بل خسرا نفوساً وتعقيداً في الأوضاع الإقتصادية وتوتراً سياسياً ودبلوماسياً وضغوطاً خارجية بعد ما سئم المجتمع الدولي من المماحكات وغياب الإرادة ووضع متاريس جلبت لكليهما سخطاً. ليس المطلوب لطم الخدود والبكاء على اللبن المسكوب وضياع شهور كان يمكن استثمارها في تجاوز غياب الثقة وتعويض مواطني الدولتين عن حالة البؤس والمصاعب الإقتصادية التي تبدت منذ الانفصال. المصفوفة الموقعة لا جديد فيها بالطبع فهي ترجمة للاتفاقيات التسع الموقعة منذ سبتمبر الماضي في أديس أبابا، وتحديد مواقيت للتنفيذ وآليات وقنوات لمعالجة أية شكاوي وخلافات يمكن أن تنشأ خلال مراحل التنفيذ. المنافع التي يمكن أن يجلبها تنفيذ اتفاقيات التعاون المشترك لا حصر لها على الدولتين والشعبين،فالجنيه في البلدين الذي كان في حالة تراجع بدأ ينتعش قبل تنفيذ الاتفاق،كما ان عائدات النفط تسمح لهما بالوفاء بالتزاماتهما وتوفر مناخاً أفضل للاستثمار وتطمئن المستثمرين بعودة الامن والاستقرار. وسيستفيد السودان أكثر من الجنوب في التبادل التجاري لأن الميزان في صالح الخرطوم،لكن الجنوب سيحصل على سلع كان يواجه متاعب في توفيرها خصوصاً للولايات الخمس المتاخمة للسودان التي تعتمد في غذائها على بلادنا حتى بعد الانفصال لموقعها الجغرافي وثقافة مواطنيها الغذائية،وسيحرك التبادل التجاري أيضاً المصانع في السودان بعد حالة ركود،ومنذ شهور فتحت اعتمادات في مصارف بجوبا لاستيراد نحو 170 صنفاً من السلع والبضائع من السودان بنحو مليار دولار. والأهم من ذلك نحو 200 ألف من الرعاة السودانيين وأكثر من 50 ألفا من التجار وخمسة ملايين مواطن على جانبي الحدود الذين تحولت حياتهم الى جحيم خلال المرحلة السابقة سيكون الاتفاق نزل برداً وسلاماً عليهم. لكن كل ذلك رهين بمواجهة تحديات كبيرة،ويحتاج الى توفر إرادة مشتركة،فالرئيس سلفاكير ميارديت لن يجد الطريق ممهداً للمضي بسلاسة في تنفيذ المصفوفة فهو محاصر من ابناء أبيي في حكومته الذين يعتقدون أن الفصل بين ملف المنطقة وقضية الجنوب في العلاقة مع الخرطوم نزع من بين ايديهم اي كرت للضغط وتحسين موقفهم التفاوضي،كما أن ابناء دينكا ملوال يرون أن سلفاكير تنازل عن الميل 14،ولن يسكت الطرفان وسيسعيان الى عرقلة المصفوفة. وفي السودان لا يزال دعاة الحرب يضربون على طبولها ويحاولون استباق تنفيذالمصفوفة بالتشكيك في نوايا الجنوب، وتعزيز انعدام الثقة،ويسعون إلى استخدام الأوضاع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق لإضعاف فرص تنفيذ المصفوفة. دعاة الحرب بالإضافة الى أجندتهم المعلنة وسعيهم لضرب أي تعايش وتعاون بين مواطني السودان وجنوب السودان،فإن الاتفاق سيجعل بضاعتهم واستثمارهم الى بوار وخسارة ولا يمكن تعويضها بعدما صمموا برامجهم السياسية والاقتصادية على القطيعة والعداوة بين الخرطوموجوبا والبغضاء بين الشعبين. تنفيذ المصفوفة بحسن نية وجدية سيخلق واقعاً جديداً يساعد في تجاوز بقية القضايا المتبقية وهي معقدة سواء ما يتصل بملف الحدود أو أبيي،كما أنه يساهم في تيسير التسوية السياسية في جنوب كردفان والنيل الأزرق. الصراع في المنطقتين يمكن أن يكون خميرة عكننة وسبباً في تراجع العلاقة بين السودان والجنوب،وحسناً فصلت الخرطوم بين فك ارتباط جوبا مع «الحركة الشعبية - قطاع الشمال» والتعاون بين البلدين. سيضعف الإتفاق التمرد في المنطقتين،لكن ذلك ليس بديلاً عن السعي الى تسوية سياسية حتى يعود الأمن والاستقرار إليهما ،وستخطىء الخرطوم التقدير في حال ظنت أنها ستحصل على إتفاق « مجاني» بلا ثمن مع حاملي السلاح في جنوب كردفان والنيل الأزق،لا صفقة سياسية بلا ثمن، فحاولوا أن يكون معقولاً، وأي تأخير سيجعله مكلفاً وباهظاً.