1 انسلت الحركة السياسية السودانية التي ترقرقت مساربها الاولى اثناء وبعيد الحرب العالمية الاولى، ثم تلاقت روافد لاحزاب لها عدد بعد الحرب العالمية الثانية، وقد آل اليها الحكم أخيراً في دولة ما بعد الاستعمار من تجاويف المؤسسة السودانية، ولا يستقيم تصور هيكل الحركة السياسية دون اضافة الفئات والطبقات الحديثة التي اضفت ابعاداً والواناً جديدة الى تشكل لوح ذلك الهيكل السوداني، وفي مقدمتها فئة أو طبقة الافندية التي انبعث من طين تخلقها المتدرج منذ مطلع القرن «1900م» وحتى الربع الاول من القرن العشرين قادة وجماهير ثورة 1924م التي اضحت المرجعية الثابتة في حراك وتدفق الزخم في الحركة الوطنية في شقها الذي يعود بنسبه الاجتماعي والسياسي الى الافندية. قد أصيبت البنية الاجتماعية والذهنية لفئة الافندية بتشقق وتباين في الرؤى والتوجهات بعد الهزيمة الساحقة التي لحقت باللواء الأبيض في مواجهة مع الجيش البريطاني ولا مبالاة من طرف القوات المصرية التي شحذت وحرضت، وتبدت معركة مستشفى النهر التي دخلت تاريخ الربع الاول من القرن العشرين في ذلك الجزء من العالم وكأنها عملية انتحارية صرفة، الشيء الذي دفع بسؤال خافت أن يرشح هل كانت كل الحركة بمقدماتها وليست المواجهة العسكرية وحدها خطأً تاريخياً فادحاً حينما تبنت أجندة وتصورات الحركة الوطنية المصرية للسودان، ولم تقف على مسافة واحدة من شريكي الحكم الثنائي البريطاني والمصري؟ وايا كان الجواب فقد تكفلت طلائع الافندية وجماهيرها في المدن بتسديد فاتورة الفشل التي استنزفت جسدها وعقلها وروحها لأكثر من أربعة عشر عاماً حسوماً «1924 1938م» حتى تأتى لها رغم الوهن الذي لازم مسار خطاها وعقلها أن تقف على قدميها بتوجه يرجح كفة التصالح والتوافق والتراضي على التواجه طبع حركة الخريجين منذ نشأتها في عقد الثلاثين من القرن الماضي لخصها الدكتور بشير البكري في كتابه «من هنا نبدأ» «ص410»، أما الميزة الثانية للحركة الوطنية في السودان فهي انها لم تكن حركة دموية بل كانت حركة سادتها روح المصالحة والتآلف والتوافق، وقد بدا ذلك في كثير من المواقف التي يذكرها اسماعيل «العتباني» في تراثه، اذ روى اختلاف الرأي بين فريق ابراهيم احمد هذا السوداني الكبير وبين يحيى الفضلي هذا الشاب الثائر التي انتهت بالمقاربة والمصالحة على الرأي الوسط، كذلك كان اللقاء بين كبار القوم وشيوخهم واسرهم، وبين الاتجاهات الشابة التي انتهت دائما الى المصالحة والوفاق». 2الغياب الكبير: العقد الاجتماعي المشروع القومي الشامل لقد عجزت الحركة الوطنية تلك التى أعلنت وجودها المنظم بمؤتمر الخريجين فى 1938م وشكلت لها بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها أحزاباً سياسية ومؤسسات مدنية من نقابات واتحادات وروابط وجمعيات منذ عام 1945م، وانتسبت عبر الاحتواء المتبادل والتصالح والتراضي الى المؤسسة السودانية بتقاليدها واصولها الضاربة في نزاعات الشركاء في الحكم الثنائي وقد قيض أن يتحقق بمشيئتيهما المشتركة الاستقلال في 1956م لقد عجزت أن تقدم مشروعاً قومياً شاملاً للنهوض والتنمية البشرية، المتواصلة إذ غابت عن افقها هشاشة الدولة القومية بعمرها القصير في السودان، وغاب عن افقها ايضاً التعدد والتنوع الذي يسم البناء القومي والديني والثقافي واللغوي، والشأن كذلك تحول الاستقلال إلى غنيمة تتجاذبها وتتنازعها الأطراف النافذة في المؤسسة السودانية التي تمثلها الفئات التالية: 1/ قيادات الطائفية وصفوة المتعلمين والمثقفين في أحزابها. 2/ قيادات الخدمة المدنية والعسكرية «الافندية» 3/ رجالات الإدارة الأهلية. 4/ بيوتات الطرق الصوفية. 5/ رأسمالية تجارة الصادر والوارد وملاك مشروعات القطن في النيل الابيض والزراعة الآلية في القضارف والدالي والمزموم. بررت الحركة الوطنية التى آل اليها الاستقلال عزوفها عن التصدى لقضايا البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ذات الطابع القومي الشامل في وطن متعدد القوميات والاديان والأعراق والثقافات واللغات أن المرحلة تقتضى تحريراً من الاستعمار وازالة عقابيل مخلفاته وليس تعميراً أو تنمية، وقد شجعها وغرر بها آنئذٍ «1956م» ان عدد السكان كان صغيراً «13 مليون» فى بلد متعدد الموارد كبير المساحة «واحد مليون ميل مربع عاشر قطر في العالم» إذ كان السودان جزءاً من الاقتصاد العالمي وقد عززالازدهار الاقتصادي BOOM ارتفاع اسعار القطن في البورصات العالمية نتيجة الحرب الكورية 1953م، وقد واكب ذلك صعوداً في الحركة الوطنية «الاتفاقية 1952م» وتراجعاً من قبل البريطانيين فى وجه التقدم الحثيث لقوى الاستقلال، الامر الذي ثبت انطباعاً خاطئاً بتلازم ما بين حركة التحرير ودوام تلقائية الازدهار الاقتصادي الذي يضرب بجذوره في الخطوط الحديدية ذات الكفاءة العالية ومشروع الجزيرة والزيداب واروما ومؤسسة جبال النوبة في جنوب غرب كردفان بادارات مستقلة، ويرعى كل ذلك جهاز رفيع للخدمة المدنية ونظام تعليمي يسير على ضوء مناهج التعليم العام فى بريطانيا. وافضى شد التجاذب والتنازع الملحاح للفئات الآنفة الذكر في تداخلها تحالفاً وتضارباً مع بعضها البعض ومع قوى المجتمع المدني صغير الحجم وضده في ان واحد، الى سباق مبادلة اعمى للهيمنة على السلطة والثروة فى السودان، وكانت النتيجة دورات محمومة من الانقلابات العسكرية تعقبها انتفاضات مدنية عارمة تطيح بها من جديد ذات الانقلابات بيانات تعيد انتاج نفسها بديباجات ذات طابع هلامي. وكانت محصلة تنازع نخبة المؤسسة السودانية وسباق مبادلتها صوب السلطة والثروة ان قد خرج السودان من خريطة الاقتصاد العالمي، واهملت مرافق ومؤسسات الانتاج الاساس: الكهرباء الخطوط الحديدية المشروعات الزراعية الكبرى والمصانع التي تنشأ عادة مع بدايه كل دورة عسكرية جديدة وانتفاضة مدنية ثم تذوي رويداً لتموت بعد حين. ولم يعرف السودان منذ الاستقلال 1956م تلك التي يطلق عليها التنمية المتواصلة، وتركزت خدمات الماء والكهرباء والتعليم والصحة والمواصلات ووسائط الاعلام والبنوك والحراك الثقافي في محور دنقلاكوستي سنار لتوفر البنية التحتية والقاعدة الانتاجية «مشروع الجزيرة توليد الكهرباء الطرق والخطوط الحديدية النقل النهري والجوي التعليم وشيئاً من التجانس الاثني في بنيات قوى الحداثة». واهملت بدرجات متفاوتة بعداً وقرباً من ذلك المحور كل اقاليم السودان اقصى الشمال الشرق الغرب والجنوب. وكانت النتيجة اقصاءً وحرماناً شبه كامل لكل اقاليم السودان الشمالي المسلم الذي يقع خارج المحور المختار، ثم اندلعت الحرب مع جنوب السودان فى عشية الاستقلال 1955م لتستنزف موارد بشرية ومادية كانت كافية لتنمية ذلك الاقليم. الجدير بالذكر ان قد اصاب الخدمات فى المثلث المختار نفسه تدهور ملحوظ، حيث ضجت واحتجت فئات العاملين في حاضرة البلاد والمدن الكبرى من تدني معيشتها واسلوب حياتها، وكان من النتائج الوخيمة التي ترتبت علي ذلك العجز والاهمال في تداخل مع سباق المبادلة المحموم لفئات الصفوة شطر السلطة والثروة ما يمكن ايجازه في التالي: 1 إغفال كامل لحماية البيئة الطبيعية وتنميتها، مع التخلي في ذات الوقت عن مكافحة آفات الزراعة والحيوان سيما في اقاليم الري المطري في شمالي كردفان ودارفور، ما افضي إلى مزيد من التصحر والجفاف مع تدهور للتربة بوتائر عالية، وكان طبيعياً أن تتقلص مساحات الرعي والزراعة والتحطيب، وأن يختل التوازن البيئي والسكاني، وأن يؤدي ذلك في سياق مجتمع تحوز فيه القبائل الارض والكلأ ومساقط المياه إلى أن تتفجر النزاعات والحروب حول ملكية الارض والمراعي والماء والنفوذ في سياسة الديار، وكان ذلك جلياً في جنوب النيل الأبيض وشرق النيل الأزرق وشقيق الماجدية وجنوب كردفان ودارفور وشرق السودان، كما قد أشارت مراراً وتكراراً تقارير مصلحة المراعي والعلف في مطالع عقد السبعينيات «1970م»، ولم تك الدورات المتسارعة للمجاعات التي تخلف مواسم الجفاف المتعاقبة وأكثرها سوءاً في الصيت مجاعة 1985 1993 سوى التعبير المأساوي عن الخلل الذي أصاب البيئة والسكان في غياب خدمات الدولة ومسؤوليتها، وفي حضور طاغٍ لرأسمالية الزراعة الآلية. 2 أطلقت دولة المؤسسة السودانية يد تجارها في كردفان ودارفور وشرق السودان، فعاثوا نهباً في الموارد «المحاصيل بانواعها والثروة الحيوانية والتمباك في دارفور والكروم والمعادن في شرق السودان» أما ملاك مشروعات الزراعة الآلية في القضارف، الدالي والمزموم جنوب كردفان جنوب دارفور، فقد قدموا شهادة حية بأن دمار البيئة وصناعة التعاسة لمئات الآلاف من السكان المحليين كان مصدراً لثرائهم وسعادتهم على المستوى الخاص، اذ كانوا يقومون بتصدير وتهريب ملايين الاطنان من الذرة الى دول الجوار في ذات الوقت الذي تستنهض فيه منظمات الإغاثة الدولية قوى الخير في العالم لانقاذ السودانيين من اهوال المجاعات. 3 لم تكتف الفئات التي آل اليها الاستقلال ان تنصرف عن تنمية البيئة واقتصاديات المجتمع فحسب، ولكنها انكرت أيضا هوية السودان التعددية «متعدد الاعراق متعدد القوميات متعدد الاديان متعدد الثقافات متعدد اللغات 130 لغة» وابتسرت كل ذلك في دين واحد ولغة واحدة وثقافة واحدة الاسلام والعروبة. ويبدو أن ذلك الانكار كان مستبطناً لدى القوى التي آل اليها الاستقلال حينما اكتفت من مفهومها لتقرير المصير الذي رفعته إبان المحاورات والمداورات مع مصر التي تدعي أن لها حقوقاً في السودان حول الاتفاقية 1952م باعلان الاستقلال من داخل البرلمان، وكان من شأن حق تقرير المصير اذا سارت فيه الاحزاب الاتحادية الى نهايته المنطقية ان يفضي الى حاجة شعوب السودان الى عقد جديد بينها يجسد خيارها في الوحدة الطوعية، أو يتكشف لكل الاطراف المعنية بالعقد الاجتماعي أن لا سبيل للعيش معا في وطن واحد، وعليهم جمعياً البحث عن افضل الوسائل للتعايش بسلام وتعاون كدول متجاورة. وتفاعلت مآزق غياب التنمية المتواصلة مع الدمار الذي لحق بالبيئة والانسان مع النهب المنظم تحت الحماية المباشرة لمركز المؤسسة السودانية، وأفضت الى انهيار مجتمع المنتج الصغير في شمال كردفان وفي شمال دارفور، حيث لم يتبق سوى خيارات جد محدودة، وكلها تعيسة لسكان تلك الاقاليم كالهجرة الداخلية والخارجية والنهب المسلح او الانضواء في جيوش الارتزاق التي تمولها الدول المجاورة، ولما كان ذلك قد تم في سياق الحاق وابتسار كل القوميات والثقافات والاديان واللغات السودانية في لغة وثقافة ودين وقومية المركز «المؤسسة السودانية» العربيه الاسلامية التي لا تتجاوز وسط شمال السودان، فقد قاد ذلك الى أزمة عامة في الهوية والمواطنة والوجود الاجتماعي انتظمت كل السودان افراداً وجماعات واعراقاً وقوميات وشرائح وفئات وطبقات اجتماعية واقاليم، وليس اللجوء الى اشهار السلاح الذي سرى في كل مرابع السودان كالنار في مستودع القصب الجاف، سوى صرخة من غاضب في آذان الذين جعلوا اصابعهم في اذانهم واستغشوا ثيابهم، إذ قد طفح الكيل ولم يبق في قوس الصبر منزع. [email protected]