مصر هي مصر، وأعظم ما قاله عنها الناس في معرفتهم للأقطار أن مصر أم الدنيا، وهذا التعريف يرجعني إلى تاريخنا ونحن صغار عندما يخطئ أحدنا ويهرب من العقاب فتقول الأم لو مشيت مصر أم الدنيا ألحقك وأعاقبك، فهذا وحده يؤكد أهمية مصر عند الناس. أما تاريخنا مع مصر منذ ما قبل الميلاد وحتى الحاضر فهو عظيم، هذا اذا أضفنا إليه تاريخ مصر الديني، ولأهمية مصر وغنائها وطيبة «ناسها» أصبحت في عين كل قائد وهدف لكل زعيم، ومحط أنظار الأنبياء والرسل، فهذه الغزوات وهجرات الأنبياء جعلت من مصر والمصريين شعباً غير الشعوب وقيادات غير القيادات ومؤسسات غير المؤسسات، ومهما ندين الغزاة ونلعنهم فإنهم أتوا بثقافات وحضارات ليست كلها غثاً وليست كلها ثمينة، فالفراعنة أتوا بما لم يأت بها الأوائل، فإن الأهرامات التي هي معجزة من المعجزات حيرت العالم وأصبحت حجاً سنوياً للأجناس من كل أنحاء المعمورة، ودرت أموالاً طائلة للدولة المصرية من خلال السياحة، والسبب أن سجيناً اسمه عون فر من السجون اليمنية وقيل عنه فرعون، وفرعون هذا دخل مصر وأسس ملكاً باذخاً وتراثاً منيراً، وهكذا تقول بعض الروايات عن تاريخ الفراعنة، ومهما قيل عنهم فإنهم خلفوا تراثاً وطباً وحضارة، والإسكندر اليوناني الذي غزا مصر في عام 333 قبل الميلاد نقل الفكر الأوربي والحضارة اليونانية لمصر، وهكذا نابليون بونابرت الذي غزا مصر في عام 1798م جاء بالمطابع، وعندما حكمها محمد علي باشا طور فنون الحكم وأدخل التحول الديمقراطي في مؤسسات الحكم، فهذا جمال الدين الأفغاني يؤسس حزباً في عهد التركية المصرية، وهكذا استفادت مصر من كل الغزوات كالهكسوس من الشمال والسودانيين من الجنوب والليبيين من الغرب، وكانت تلفظ كل بئيس وتلتقف كل جميل، وإذا تحدثنا عن الأنبياء ووجودهم في مصر وما قدموه للإنسانية من خلال وجودهم هناك، فإن المجلدات تلو المجلدات لا تكفي للإحاطة بالأسفار العظيمة والأديان السماوية السامية التي انطلقت من مصر، فابراهيم أبو الأنبياء مرَّ من هناك مروراً بموسى وانتهاءً بالنبي محمد الذي وصى بمصر خيراً، وقال فيها الرحم والنسب، فهاجر أم إسماعيل ابن إبراهيم عليه السلام كانت مصرية، ومارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من هناك أيضاً. أما الصالحون والصالحات والمجتهدون والمجتهدات والعابدون والعابدات الذين أفنوا زهرة شبابهم وقدموا أفكارهم وماتوا في مصر، فيكفي ما أشار إليه الشيخ المرحوم عبد الرحيم البرعي، إذ كيف له حصر كل هؤلاء الذين دفنوا في مصر العزيزة، فلا بد أن يكون هناك إلهام وليس بحثاً عادياً في بطون أمهات الكتب. أشرت إلى كل هذا بمناسبة مقدم الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، الذي جاء ميلاده السياسي نتيجة ثورة مصرية كاملة الدسم بسبب المعاناة التي عاشوها في عهد حكم ديكتاتوري بغيض بعيد عن النفس البشرية السليمة، والتي عبر عنها سيدنا عمر بن الخطاب قائلاً: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، وبالمناسبة هذه الحكمة قيلت في أحد حكام مصر من قبل سيدنا عمر نفسه، عندما حاولت أسرته التعالي على الناس، ولكن حسني مبارك لم يرتدع من هذه الحكمة، فأراد أن يخلف أبناءه حكاماً على مصر، ولذلك جن جنون المصريين فكانت ثورة يناير الشهيرة، لقد جاء حسني ببدع عظيمة حطمها المصريون، وجاءوا بمرسي وإن لم يستقم سيقومه المصريون. فالثورات عند المصريين كانت متوازية ضد حكم قهري حكمها ابتداءً بمقارعة اليونان والرومان وانتهاءً بثورات عرابي، وسعد زغلول وغيرهما، فعلى مرسي أن ينتبه إلى مغبات التاريخ، وعلى المصريين ألا يجعلوا سبيلاً لحكم مصر غير السبيل الديمقراطي، وكنت في مصر قبل أربعة شهور تقريباً وصادفت الهجمة على مرسي ومجموعته، وكانت الهجمة شرسة ولكن كان مرسي أقوى من كل الأعاصير التي واجهته، فلم يلجأ للجيش ولم يلجأ لتفعيل قوانين الطوارئ الصارمة ولم يجيش مجموعته ويحرضهم على الآخرين، بل قاد السفينة التي تتخطفها الأمواج وهي تمخر عباب البحر بكل هدوء، واعتقد انه السبيل الوحيد الذي ينمي الديمقراطية والتحول السلمي للحكم، فإن علاج أمراض الديمقراطية هو المزيد من المعالجات الديمقراطية، ليس كما نفعل نحن فمن أول مظاهرة يتحسس الضباط «طبنجاتهم» بل يبحث السياسيون عن العسكر لحمايتهم كما فعل المرحوم عبد الله خليل سبب كل النكبات السياسية في البلاد، لأنه هو وحده وليس حزبه الذي أدخل الجيش في فن الحكم. على كلٍ فقد زار الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي بلادنا يومي الخميس والجمعة الفائتين، ولم أتتبع كل معالم الزيارة، ولكن واضح جداً ان الحكومة السودانية كأنها دخلت في حرج من مغبة زيارات الرئيس المصري لعدد من الدول المجاورة والبعيدة ولم يزر السودان، ويبدو ان هناك اشارات من السودان الحكومة بزيارة مرسي، وكنت أرى لا داعي لكل هذه الحساسية، فالزيارة لا بد أن يسبقها برنامج عمل وتكون لها أهداف لا بد أن تحقق ومشروعات لا بد أن تنفذ، ولكن نحمد الله أيضاً على الزيارة لأنها ستكون زيارة استكشافية بالنسبة له ولزملائه للتعرف على أحوال السودان عن قرب، ومن رأى ليس كمن سمع. واستطيع أن أقول إن السودان ومصر لم يشهدا مطلقاً نظامين للحكم متقاربين، فالعلاقة التركية المصرية السودانية في القرن التاسع عشر كانت علاقة مستعمِر لمُستعمَر، والعلاقة بين الدولتين في القرن العشرين نظام دولتين تحكمهما دولة مستعمرة غريبة اليد واللسان وهي بريطانية، لم تكن للشعبين إرادة حقيقية في ادارة البلاد. والعلاقة بين الدولتين مصر والسودان ما بعد الاستقلال بعد ثورة يوليو 1952م واستقلال السودان 1956م كانت ما بين نظام دكتاتوري باطش في مصر ونظام ديمقراطي في السودان، فلم يستقيما لأن الخطوات غير متئدة وغير متسقة مبتدأً وخبراً، حتى قضى الدكتاتوري على النظام الديمقراطي في السودان وجاء بنظام دكتاتوري مشابه وهو نظام مايو 1969م بقيادة العقيد جعفر نميري، وعندما استطاع السودانيون إسقاط النظام الدكتاتوري لم يستطع الصادق المهدي رئيس الوزراء مسايرة الدكتاتوري الباطش في مصر، لأن طريقة اخراج القرار الديمقراطي تختلف عن طريقة اخراج القراري الدكتاتوري في أية دولة كانت، وأيضاً التفكير الديمقراطي في كل شيء مختلف عن غيره من أنظمة الحكم، وهكذا المؤسسات، لذا عمل حسني مبارك على إزالة النظام الديمقراطي في السودان كما فعل قرينه عبد الناصر بالمحجوب، ولذلك أول تصريح لحسني مبارك قرأته في جريدة «الشرق الأوسط» في أول أسبوع لحكومة الانقاذ، قال فيه بالحرف: «الآن ارتحنا من ازعاج المهدي»، فالدكتاتور حسني مبارك يعتبر الكلمات الديمقراطية التي يتفوه بها الصادق المهدي إزعاجاً، وبالفعل هي ازعاج وخطر عليه كنظام حكم. والآن النظامان مختلفان مهما تقاربت بينهما الأفكار الايديولوجية والمناهج العقائدية، فأنظمة الحكم هي وسائل لتحقيق تلكم الغايات، فهل لم ترد الانقلابات العسكرية في خلد المؤسسة الإسلامية التي كانت معارضة في مصر؟ وهل تحقيق الأهداف العقائدية التي نفذت بالانقلاب على النظام الديمقراطي في السودان هل هي الأفضل بعد كل هذه التجارب؟ وهل هذان النظامان الديمقراطي في مصر والشمولي في السودان يستطيعان السير معاً ليخوضا عباب البحار وينسقا مع بعض في كل المحافل ومواقع القرار في دول التسفار البعيدة كالأمم المتحدة ومجلس الأمن في شتى شؤون الحياة في العالم؟ وهل يتفقا على أي تحول ديمقراطي أو ديكتاتوري في المنطقة ولا يدخل بينهما خلاف من خلال منهجية أي من نظام؟ ومن خلال تجارب التاريخ السابقة فالاجابة هي لا، وأعتقد ان أسباب تأخر زيارة مرسي تعود إلى جزئية من تلكم. ونحن بوصفنا شعوباً تهمنا مرونة التحرك بين مصر والسودان، بمعنى تطبيق كامل للحريات الأربع المعلومة وتمتد إلى دولة جنوب السودان، ثانياً ضرورة معرفة الحدود بين مصر والسودان فهذه ضرورية، ومادام النظامان متصالحين لا بد لهما من حل مشكلة حلايب حتى لا نحول الأمر لقنابل موقوتة تنفجر في المستقبل في وجه نظامين غير متسقين كل منهما يعتبر حلايب ذريعة للتدخل في شؤون الآخر، وتقوم الحروب بين الدولتين دون طائل ومبرر. وأخيراً لا بد من إقناع أحدهما الآخر باتباع منهج واحد سبيلاً لاستقرار الأوضاع في الدولتين، فأيهما الأفضل النظام الشمولي أم النظام الديمقراطي؟ لأنهما بهذه الكيفية سيصبحان كالزيت والماء كل يطفو في سطح معين ولن يذوبا في بعضهما البعض، وأدلة وشواهد التاريخ ناصعة كما ذكرنا في لب المقال.