يراد للتفاوض الذى اُستؤنف هذا الأسبوع بين الحكومة السودانية وقطاع الشمال بالحركة الشعبية، أن يقود إلى نوع من التسوية تتعلق بإنهاء حالة التوتر الحدودي مع الجنوب والمواجهات المسلحة والحرب وإفرازاتها في جنوب كردفان والنيل الأزرق. والمعروف أن عملية التفاوض هذه، قد جاءت امتداداً للتسوية «التهدئة» مع حكومة جنوب السودان، بعد ضغوط على الطرفين، والتى أسفرت عن إعلان الأخيرة رسمياً فك ارتباط قطاع الشمال بها، بخطاب رسمي تسلمه الوفد الحكومي في جولة مفاوضات الأسبوع الثالث من مارس الماضي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، حسبما صرح بذلك رئيس الوفد الفريق عبد الرحيم محمد حسين وقتها، مؤكداً أن «فك الارتباط الذى تم يمهّد الطريق لتفاوض الحكومة مع قطاع الشمال». وأياً كان الأمر فإن استخدام العنف المسلح في مواجهة المشكلات لأى بلد، ما هو إلا تفريخ لمزيد من الأزمات قابلة للتناسل والانتشار. ولم يثبت في أى وقت أنه يمكن أن يكون بديلاً لحل المشكلات عبر الحوار والتفاوض والحراك السلمي. لذلك فإن الجنوح إلى التعبير المسلح عن المظالم الوطنية، هو عامل تأزيم أكثر منه عامل تحقيق منجزات، على اعتبار أن الثمن يكون دائماً مدمراً وليس بناءً، ويدفعه الجميع بلا مقابل. وعلى أية حكومة «مسؤولة» أن تتلافى قدر الإمكان الأسباب التى تحوِّل المطالب المشروعة لأى جزء من الشعب إلى مظالم وغبن، تدفعه للتعبير العنيف عنها. وحتى إذا ما انزلقت الأمور إلى طورها العنيف في هذا الجزء أو ذاك من البلد، يبقى واجب الحكومة دائماً الموازنة ما بين حماية المواطنين الذين لا علاقة مباشرة لهم بالنزاع المسلح، وبذل كل الجهود والطاقات لاستصحاب الفصيل المسلح في الحراك السياسي السلمي. لذلك فإن التواضع على الحوار كآلية لحل الأزمة بين حكومة المؤتمر الوطني وقطاع الشمال في الحركة الشعبية، هو خطوة مهمة للانتقال من مربع الصراع المسلح إلى مربع الحراك السلمي، إذا ما خلصت النوايا وصدقت. ولكن الواضح هو أن هذا التفاوض يواجه مشكلات جوهرية تتعلق بجميع الأطراف المرتبطة به «دولية، إقليمية أو سودانية». الأمر الأول هو أن الطرفين قد لجآ إلى التفاوض، ليس عن قناعة ذاتية حقيقية بالآليات السلمية بوصفها وسيلة فاعلة في حسم النزاعات الوطنية، بل لجآ إليه بفعل ضغوط الأطراف الدولية والإقليمية، ذات الاهتمام والصلة المباشرة بالشأن السوداني الداخلي، والتى نفد صبرها من لامبالاة الأطراف السودانية باستمرار النزاعات وتطاول أمدها وعدم اكتراثها لمعاناة شعبها. بمعنى آخر فإن الطرفين يفتقدان للإرادة الحرة والرغبة الصادقة في حسم النزاع، ويتفاوضان تحت شعار «مجبرٌ أخاك لا بطل». وهذا يجعل كل ما يمكن أن يفضي إليه هذا التفاوض، عرضة للانتكاس في أية لحظة على شاكلة سوابقه من الاتفاقيات التى تمت تحت ضغوط خارجية ولم تنبع عن إرادة ذاتية. الأمر الثاني هو انبثاق هذا التفاوض من رحم عملية فك الارتباط بين قطاع الشمال وحكومة الجنوب، وهى عملية شائكة لا يمكن اعتمادها بمجرد خطاب من حكومة الجنوب، أو أخذها بدون ضوابط عملية تضمن تفعيلها أو استدامتها. أى أن إصرار قطاع الشمال نفسه على هذا الارتباط، يطرح استفهامات كبرى حول المستقبل وضمانات الحل النهائي للأزمة القائمة بين القطاع والمؤتمر الوطني من جهة، وبين حكومة الشمال وحكومة الجنوب من جهة أخرى. فالاتفاقيات الأخيرة في أديس أبابا تحتاج إلى اختبار زمني لتأكيد صدقية طرفيها، وبالتالي تستوجب الاحتفاظ بكروت الضغط المهمة لدى كل طرف إلى أن يثبت التزامه بما هو متفق عليه. ومن هذه الناحية لا يمكن أن تضحي حكومة الجنوب بهذه السهولة بقطاع الشمال باعتباره ورقة ضغط يمكن استخدامها وقت الحاجة إلى تصعيد مع الشمال، ولا يمكن لقطاع الشمال أن يفك ارتباطه التاريخي بالحركة الأم كيما يقع فريسة للمؤتمر الوطني. فالانفكاك من الجنوب أمر ليس بهذه البساطة لا لقطاع الشمال ولا لحكومة الجنوب نفسها. والناحية الثالثة هى أجندة التفاوض نفسها، هل هى حول المنطقتين فقط أم تشمل جغرافية الشمال كلها. المؤتمر الوطني وحكومته يصرّان على أن يكون التفاوض حول المنطقتين فقط، وعلى هُدى مرجعيات نيفاشا، بينما قطاع الشمال يتحدث عن جغرافية أكبر من المنطقتين وموضوعات أوسع منهما. فهل ينحصر الأمر في المنطقتين أم يتعداه إلى التحول الديمقراطي والدستور وإعادة هيكلة الدولة السودانية.. إلخ. وفى الحالين ينطرح سؤال على الطرفين: من الذى يملك الحق في التقرير بشأن المنطقتين إذا انحصر الأمر فيهما؟ ومن يمتلك الحق في الانفراد برسم مستقبل السودان إذا امتد الأمر إلى ما هو أشمل؟ الحكومة تقول إن وفد غندور الذى ضم بعض الشخصيات الديكورية من مناطق الحرب، يحمل وجهة النظر الرسمية لها، وعلى ذات النسق وفد عرمان الذى أقصي القيادات المؤسسة للحركة الشعبية في هذه المناطق. فإذا كان الأمر خاصاً بالمنطقتين فينبغي أن يكون الإطار الذى يتداول حولهما قومياً، ولكن بتمثيل حقيقي لأهل المنطقتين من حاملى البندقية ومن غيرهم، وهذا لا يكون بالتعيين الفوقى أو بالتعليمات العسكرية قومياً، لأن الأزمة هناك هى أزمة قومية وليست إفرازاً محلياً صرفاً، والمخرجات تستوجب التزامات وضمانات قومية تهم كل أهل السودان، مثلما تهم الحرب أي مواطن سوداني. فالتفاوض يجب أن يكون سودانياً وليس ثنائياً، ومع شموله لقطاع الشمال فإنه يجب أن يشمل كل الأطراف السودانية على قدم سواء، لأن الأزمة تعني كل الأطراف، لا كما يقول المؤتمر الوطني إن التفاوض ووفده أمر يخص الحزب وحكومته فقط، لأن مستقبل السودان لا يجب أن يقرر فيه طرف واحد أو اثنان مهما ادعيا لنفسيهما شرعية هى مٌختلف حولها. وهذه الثنائية الإقصائية هى أول مسمار في نعش مخرجات هذه العملية التفاوضية، لأنها شئنا أم أبينا سوف تكون مساومة بمحاصصات على شاكلة ما جرى في نيفاشا، وغالباً ما تنتهي إلى نفس المنتهى الحالي أو أسوأ منه، في ظل الإنهاك الذى تتعرض له البلد من جميع أطرافها. والأمر الآخر هو الأرضية التى يمكن أن ينطلق منها التفاوض، وهذه نفسها مثار جدل ما بين اتفاق نافع عقار، وبروتكولات المنطقتين في اتفاقية نيفاشا، وقرار مجلس الأمن رقم «2046». وحسب الآجال التى وضعتها نيفاشا فإنها تعتبر منتهية الصلاحية منذ التاسع من يوليو 2011م الذى انقسم فيه السودان إلى دولتين، وإلا فلا يجب أن يشكل ارتباط قطاع الشمال بحركته الأم ورئيسها سلفا كير وكامل هيكلتها أية مشكلة. وأن تكون الحركة الأم هى من يمثل في التفاوض. أما وقد تبدل الحال وأصبحت هناك أزمة متجددة في الأقاليم ذات البروتكولات الخاصة، وأزمة مع الفصيل الشمالي من الحركة الأم، فإن هذه تعتبر أزمة جديدة ينبغي التعامل معها على هذا الأساس، استفادة من دروس نيفاشا وغيرها من الاتفاقيات، لا أن نعتبرها «أي نيفاشا» مرجعية للتفاوض. خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن ما أتت به بروتكولات نيفاشا للنيل الأزرق وجنوب كردفان قد أحبط كل المجتمع هناك، ويرفضه كثير من منسوبي الحركة الشعبية التابعين لقطاع الشمال من جنوب كردفان بالذات. ومرجعية نيفاشا هى رجوع إلى ذات المربع بمزيدٍ من التعقيدات، مثل التفاصيل المتعلقة بالانتخابات والمشورة والمحاصصات والآجال والنصوص إلخ إلخ. لذلك لا بد من النظر إلى الوضع في المنطقتين بوصفه أزمة جديدة تحتاج إلى حلول جديدة جذرية ومستدامة. وهذا يستوجب التواضع على ماعون قومي سوداني شامل وليس ثنائياً، يتناول كل الموضوعات المتعلقة بالأزمة السودانية في المنطقتين وفي كل السودان.