في الأيام القليلة الماضية رشح إلى السطح حالة مخاشنة بين طرفي تطبيق وثيقة الدوحة لدارفور، وهما حركة التحرير والعدالة بآلية السلطة الاقليمية، والمؤتمر الوطني بآلية الحكومة الاتحادية، حول قضايا تبدو تنفيذية وتشريعية عادية، انه تم تفسيرها في دوائر مختلفة، بأن عدم الثقة وانعدام حسن النية ما بين الطرفين ما يزال ماثلاً. لقد مضت التفسيرات أيضاً أن المؤتمر الوطني يسعى بوسائل متعددة إلى الحد من علاقة شريكه بالمجتمع الدولي على النحو الذي برز في مؤتمر المانحين بالدوحة مؤخراً. لقد برز بوضوح في المؤتمر أن المجتمع الدولي وممثليه ظلوا داعمين لوثيقة الدوحة مع الدعوة إلى تعزيزها بمناشدة الأطراف الأخرى للانضمام إليها، كما بدوا مطمئنين إلى خطوات السلطة الإقليمية سياسياً وتنفيذياً، وهم يتطلعون أن تكمل رمزية د. التجاني السيسي للقبول بالتنوع الثقافي والإثني بدارفور والسودان عامة، والترويج لصيغة سودانية جديدة بخلفية الفيدرالية الديمقراطية تضمن للدارفوريين حقوقهم المشروعة دستوراً في اطار وحدة السودان (الفضل). لقد كانت أكثر أركان تلك المخاشنة حساسية وطرافة، أن أحمد (مدني) اسحق المنسوب للحركة وقد تولى حقيبة وزارة الصحة بولاية غرب دارفور، وهي ولاية تقع إدارتها تحت أحد قادة حركة التحرير والعدالة وهو حيدر جالوكوما (الشجاع صاحب الصدر العريض في ثقافة المساليت)، وهي في ذات الوقت ولاية متدنية في الخدمات والوعي السياسي المعاصر تنعدم فيها المبادرات التنموية حكومياً. في ظل تلك الظروف بدا كما لو أنه من حسن حظ الولاية، أن تأتي الحركة بأحمد وزيراً لخدمة الصحة فيها، حيث أنه أضحى من رموز خدمة الكوارث الدوليين، الذين استعانت بهم الأممالمتحدة في أكثر المناطق كارثية في العالم بما في ذلك الصومال وأفغانستان وظل ناجحاً طوال الوقت، بل أضحى رمزاً من رموز المجتمع المدني بقدرته الفائقة على جلب التمويل للمشروعات الضرورية من المانحين قليلي الثقة في دوائر العمل الطوعي بالسودان. تمكن الوزير أحمد من تحسين أوضاع المستشفى المركزي بالجنينة، وطرح مشروعاً طموحاً لتشييد برج خدمي في قلب المدينة، كما أن مشروعاته الصحية الأخرى لا تكاد تتعثر بفضل قدراته المهنية وطموحه الشخصي في خدمة مواطنيه، برغم عدم تخصيص أموال حكومية مساندة له. من طريف ما حدث أن المجلس التشريعي أشاد بانجازاته وعمل على التصويت ضده بتوجيه من قيادة المؤتمر الوطني كما هو متواتر من أقوال، وقد أصبح اعفاؤه من منصبه احتمالاً راجحاً لنشاطه الذي قد لا يصب في مصلحة المؤتمر الوطني، وإذا ما تم ذلك، فان المؤتمر الوطني قد وضع اسفيناً بينه وبين مواطنيه من جهة، وبينه وبين المانحين المحتملين من جهة أخرى. أيضاً وضع المؤتمر الوطني نفسه في امتحان غير ضروري، عندما أعلن عن تصفية أعمال المعهد الجمهوري الدولي في السودان. إن الخلفية تبدو معقدة كذلك، إذ كان واضحاً في مؤتمر المانحين بالدوحة، أن ممثلي المجتمع الدولي، عبروا بوسائل مختلفة عن ضعف ثقتهم في حكومة السودان في سياقات معالجة الأزمة بدارفور. في ذلك السياق أضحت الدول تبحث عن بدائل لخدمة العملية السلمية في دارفور، وقد اختارت الولاياتالمتحدة أسلوب بناء القدرات للدارفوريين كمدخل مناسب لدعم العملية السلمية. لقد أسندت تلك المهمة إلى المعهد الجمهوري الدولي، وفي أولى ورش التدريب حضر المبعوث الأمريكي للسودان، والسفير الأمريكي وآخرون، كما ساهم بالحضور رئيس السلطة الإقليمية في الختام. ما قام به المعهد وفق تقديرات مختلفة، يعتبر تعاوناً دولياً في سياق تسهيل تنفيذ وثيقة الدوحة، وإذا ما تم تصفية العلاقة مع المعهد حكومياً، فإن ذلك يعني أن بعضا من أطراف وثيقة الدوحة تعمل على إجهاض التعاون مع المجتمع الدولي، بما يبقي دارفور مهدداً للأمن والسلم الدوليين والأمن الاقليمي، بما يجعل الرقابة الدولية على حكومة السودان، أمراً لا مناص منه. إذا ما أضيف إلى ذلك تعثر الترتيبات الأمنية أو تأخيرها قصداً فإن ذلك يعني في قائمة الاتهامات الدولية أن حكومة السودان، ماتزال غير راغبة في تهيئة البيئة الجاذبة لاستكمال العملية السلمية في دارفور، خاصة أن الدارفوريين في ملتقياتهم ومؤتمراتهم العديدة، أكدوا على قبول وثيقة الدوحة، والتعاون في أطرها لتحقيق الأمن الاجتماعي وتوفير الفرص للإنعاش المبكر وإعادة التعمير والتنمية على المدى البعيد، بضمانات الحكم الراشد والعدالة والمصالحات. هذا مع توفر الفرص لإطلاق النداءات إلى قادة الحركات المسلحة للاستجابة لدواعي الاندماج في العملية السلمية، بضمانات المواطن والأهل. لقد توفرت أنباء أن بعض الأسر التي تنتمي إليها قيادات معروفة في الحركات المسلحة، بصدد التفاكر والعمل لمخاطبة أبنائها على قاعدة من الأمل في وثيقة الدوحة. إن دوائر غير قليلة في الحكومة الاتحادية، وحكومات الولايات، تعتقد أنه بالوسع تجاوز وثيقة الدوحة كما تم تجاوز وثيقة سلام دارفور (أبوجا)، بتوسيع دوائر الشكوك بين الأطراف، وبعدم الصرف أو تقليله في المفاصل الحيوية في العملية السلمية، واستخدام عنصر الوقت للتأثير على خطى سير التنفيذ أو استخدام الفرص السانحة لجعل الأطراف من الدارفوريين يتصرفون كحمقى، أو قليلي حيلة، أو كما لو أنهم مصابون بداء النكوص النفسي. إن كل ذلك يتم على قاعدة (ناس دارفور ما بتفقوا..)، تلك المقولة التي أضحت من المفارقات والطرائف والملح، خاصة في الحوارات والنقاشات الدارفورية، عندما يتبرع أحد المشاركين أو المراقبين بالتعقيب (طبعاً ناس دارفور ما بتفقوا..) وربما زاد كما أنهم يتلقون الرشاوى، فتتصاعد الضحكات، والدارفوريون يمضون نحو الاتفاق في الأساسيات كما حدث ويحدث بعد وثيقة الدوحة. لقد اتفق الدارفوريون عملياً على ضرورة تجاوز الاحترابات المحلية أياً كانت أسبابها ودوافعها، وهم يتفقون اليوم على استخدام سلطة العملية السلمية والسلطة الإقليمية وأجهزتها الولائية والمحلية في تحقيق تطلعاتهم في تعزيز وحماية حقوق الإنسان والعدالة والمساءلة والمصالحة، ويعملون للاتفاق على تطلعاتهم المشروعة في إنهاء أعمال العنف خاصة في مواجهة المدنيين وانتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك تلك المرتكبة بحق النساء والأطفال. والدارفوريون اليوم يواجهون كل أعمال العنف في الإقليم بالاستهجان والرفض والمعالجة باخضاع كل الحالات تحت المصالحة أو القانون أو كليهما. على الرغم من الصعوبات التي يواجهها المواطن، في استيعاب وثيقة الدوحة في أريحية، أما لأنها غير متوفرة على نطاق واسع، أو أن التعريف بها من مهنيين مايزال محدوداً، ومع ذلك فإن الخطوات التي تلت إقرار وثيقة الدوحة كتوافق دستوري لصالح السودانيين في دارفور، أصبحت خارطة طريق لمختلف اللاعبين في العملية السلمية من الحكوميين والسياسيين والمجتمع المدني والمجتمع الدولي والمواطن العادي نفسه، إذ أدرك أن نجاح الوثيقة يعني أن يصبح هو إنساناً حراً، مرفوع الرأس يملك حق الحياة والاستقرار والحماية وأمامه خيارات للتعاون مع الآخر المحلي والوطني لتأكيد وحدة البلاد والحفاظ على بقاء وتطوير تنوعها الثقافي الإثني ديمقراطياً لا مركزياً فيدرالياً. لعل السؤال الأكثر أهمية في هذه الحالة يأتي حول الذين يشرفون على تمويل مشروعات المواطنة الجديدة في دارفور؟ لقد تمكن مؤتمر المانحين من ايجاد آليات ضابطة لصرف الأموال في اتجاه خطط استراتيجية دارفور للتنمية، كما أنه من ناحية أخرى وتلك ميزة للسلطة الإقليمية أن تم تعيين وزير مالية آمنة هارون أحمد، امرأة خدمت في الإدارة المحلية خاصة في دارفور، واكتسبت من الخبرة والصرامة المهنية ما يجعلها متوافقة مع حقيقة أن دارفور إنما تنهض مجدداً بنهضة المحليات كما ورد في وثيقة الدوحة. هكذا قد تبقى فترة السنوات الست القادمة من عمر السلطة الإقليمية تخصيصاً لبناء القاعدة الاجتماعية الاقتصادية لدارفور التنوع من خلال المحليات، برفع القدرات الأساسية بالحوار والتعليم وأنسنة الإدارة والسياسة ديمقراطياً، وانهاء مؤسسة الصرف السياسي والاحتفالي والأمني، حيث يتولى المواطن تدريجياً أخذ المبادرة في تنظيم أحواله المجتمعية والأمنية على قاعدة الثقافة الموروثة. بعد مؤتمر المانحين، أضحت خيارات السلطة الإقليمية محددة وواضحة، أولها الدفع بادماج وثيقة الدوحة في الدستور القومي كما ورد في الوثيقة، وثانيها إحداث التعديلات التشريعية التي تزيل أي تعارضات تطبيقية مع أحكام وثيقة الدوحة، وثالثها العمل على تحديد الوضع الإداري لدارفور بعد المرحلة الانتقالية، أن تكون إقليماً بولايات أو ولايات في إطار اقليمي. تلك خيارات إجرائية ضرورية توفر الضمانات للدارفوريين ليعملوا مجدداً في سياق المساهمة الوطنية، والمبادرة في إعادة بناء الأمة، بمساهمات المجتمع المدني بمكوناته الفكرية الثقافية، وخياراته الدستورية القانونية وفعالياته الاجتماعية الاقتصادية الإنسانية.