تناولت الكاتبة في الجزء الأول من هذه الدراسة رواية «العلامة» ل بن سالم حميش وهو نص سردي يعتمد التخيل التاريخي، ويستلهم سيرة ابن خلدون التي دونها ملحقًا لكتابه في التاريخ وجاءت بعنوان «التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا»، وأشارت الى الفرق بين السيرة، والسيرة الذاتية، باعتبار أنه سيترتب عليه تحديد نوع الراوي الذي يتولى تقديم أحداث كل منهماوأشارت ايضاً إلى أن داخل النص الروائي، الراوي الخارجي بدأ سرده لسيرة ابن خلدون من مرحلة متأخرة، مرحلة وجوده في القاهرة وتوليه منصب قاضي المالكية بتعيين من السلطان الظاهر برقوق.. ونواصل في هذه الجزئية ما انقطع من حديث ... أما في ليالي الإملاء فسنلاحظ تكرار فعل «سجل» فقد تكرر هذا الفعل في الصفحتين الثانية والثلاثين والثالثة والثلاثين ست مرات، وتأتي في سياق الحوار الذي يدور بين العلامة وكاتبه إذ يسأل الثاني ويجيب الأول مستخدمًا هذه الصيغة فيخاطب كاتبه قائلًا: «اتركنا الآن من هذا وسجل ما يلي... سجل علي يا حمو هذه اللطيفة، سجلها... سجل يا حمو، فما انتدبتك لغير هذا؛ سجل أني حلمت... سجل أني رأيت يوماً...»،(العلامة، ص 32-33). ولعل استخدام الراوي لصيغة الأمر قد جاء منسجمًا مع سياق الحوار الذي يدور بين قاض وفقيه وعالم جليل، وبين ناس يسألونه، ويحكم بينهم فيأمر أو ينهى، من جهة؛ ومن جهة ثانية بين أستاذ وتلميذه، يأمره بتدوين ما يقوله، وفي كلتا الحالتين فإن الأمر هنا معناه الأمر لأنه موجه من أعلى إلى أدنى. ومن جانب آخر يسهم فعل الأمر في نقل الحوار من حيز الماضي إلى حيز الحاضر، وكأنه يحدث الآن، وهذا يتفق مع ما أراده الراوي من العودة إلى الماضي لمخاطبة الحاضر. والتقنية السردية الأخيرة التي اعتمد عليها الراوي هي أسلوب الحوار المسرحي. ففي الفصل الثالث من الرواية، يصف الراوي الحالة التي وصل إليها السلطان برقوق بسبب الخطر المغولي الذي يهدده، ولذلك بدأ بأخذ نصح أهل الرأي والمشورة، وعندما يأتي دور العلامة، يقول الراوي: «كان الجلوس بالإيوان الكبير برفقة قاضي المالكية ناصر الدين ابن التنسي، ونائب الحضرة سودون مرتّب الجلسات وحارس الحركات والسكنات، والداودار يشبك مقرر الكلام»،(العلامة، ص 193). ثم ينقل لنا الراوي ما دار بين هؤلاء جميعًا عن طريق الحوار المسرحي الذي استغرق حوالي عشر صفحات مكوّنًا بذلك فصلًا مسرحيًا صغيرًا، ويقوم فيه الراوي الخارجي بدور الراوي غير الممسرح الذي يوجد في المسرحيات المكتوبة فقط، إذ يختفي هذا الراوي عندما تتحول المسرحية إلى عرض على خشبة المسرح، لأن ما يصفه الراوي على الورق حول أحوال الشخصيات المتحاورة للقارئ، سوف يشاهده المتلقي فعلًا تؤديه الشخصيات نفسها والشاهد التالي يجعل الأمر أكثر وضوحًا: «برقوق(بصوت فاتر ونظرات تالفة): دعوت عالمي المالكية الجليلين في قطرنا... ابن التنسي(ماسحًا عرقه): قال نبينا عليه السلام ... سودون(مقاطعًا): هذه الأحاديث وغيرها نعرفها... ابن التنسي(متكلفًا الكلام): قال... ابن خلدون: أعمار الدول كأعمار الأشخاص بيد الله... سودون (متكلفًا الاستغراب): سبحان الله!... برقوق(مغالبًا هجمة النوم عليه): هنا أيها العلامة...»،(انظر: العلامة، ص 193-194-195-196-197، إلى نهاية الفصل المسرحي). وما يهمنا في هذا الشاهد العبارات التي جاءت بين أقواس، وهي عبارات الراوي التي تبدو ضرورية في النص المكتوب، لأنها تصف لنا حال الشخصية، أما في أثناء العرض فسوف تختفي هذه الضرورة، لأن الراوي لن يصعد إلى خشبة المسرح ليقول لنا: ابن التنسي(ماسحًا عرقه) على سبيل المثال، بل سوف نرى الشخصية (ابن التنسي) وهويمسح عرقه أمامنا، ويستطيع المتلقي (المشاهد) أن يعرف عبر فعل الشخصية وطريقة أدائها في الكلام أو الحركة كل تلك الصفات التي قدمها الراوي بين أقواس في النص المكتوب، ولذلك يطلق على هذا النوع من الرواة، الراوي غير الممسرح أو غير المعلن. إذا كانت السيرة لا يمكن أن تكون حقيقة فعلية، أو تاريخًا لحياة الشخصية المراد كتابة سيرتها بشكل حرفي؛ فإنه من المفترض أن تؤدي السيرة الذاتية هذا الغرض، وهذا أمر معروف في الآداب الغربية، فالسيرة الذاتية تكاد تكون عندهم نوعًا من أدب الاعتراف، إذ يدوّن الشخص الذي يكتب سيرته الذاتية كل شيء مر في حياته سواء أكان نجاحًا أم فشلًا أم أخطاء ارتكبها أم شذوذًا في شخصيته، ولا يتعمد إخفاء أي معلومات عنه، ولذا فإن هذا النوع من السيرة الذاتية غير متوفر عندنا لأن المجتمع العربي لا يسمح بمثل هذا البوح حتى الآن، كما أن العرب يركزون في كتابتهم للسيرة الذاتية على الشخصيات الاعتبارية والمواقف التعليمية لا على ذواتهم، ولذلك فإن الراوي الداخلي/ابن خلدون في روايته لسيرته الذاتية في الفصل الثاني، والتذييل، لا يقدم سيرة ذاتية بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنه يقدم بعض الأمور الخاصة به، وبعض الأشياء التي تجول في الخاطر مما يتقبله القارئ العربي، ومن الطبيعي أن يتكئ الراوي الداخلي/ابن خلدون في روايته لسيرته على ضمير المتكلم الذي يظهر بوضوح في الأجزاء التي يرويها، مع حفاظه على استخدام التقنيات الأخرى التي استخدمها الراوي الخارجي. أخيرًا نود الإشارة إلى أن تلون السرد بأساليب وتقنيات مختلفة قد خدم موضوع الرواية، وجعل وصولها أسهل إلى المتلقي، ولاسيما أنها تتناول شخصية مفكر ومؤرخ وعالم اجتماع، وتقدم فكره بشكل مبسط يقربه من قارئه، مع الإشارة إلى أن الراوي كان يتعالى على قارئه في بعض المواقع عبر أسلوب التضمين النصي الذي يستخدمه، إذ قد يتعسر على القارئ في الكثير من الأحيان أن يتعرف إليه، ويبلغ التعالي ذروته عندما يستحضر أبياتًا شعرية باللغة الفارسية لا يستطيع فهمها أو معرفة صاحبها إلا من يجيد اللغة الفارسية، وهذا ما وجدناه في حديث الراوي الداخلي(ابن خلدون) عن الحانة والمغنية التي سمعها فيها إذ يقول: «وأضاف صائحًا والمغنية تختم طربها: كر كوهر طاعتت نسفتم هر كز وركود كنه زرخ نرفتم هركز وصاحبته أصوات من داخل الحانة: نوميد نيم زباركاه كرمت زيراكه يكي رادو نكفتم هركز»(1)، (العلامة،ص 178). 1- الشاهد الشعري من رباعيات الخيام، ويوجد في البيت الأول من الرباعية خطأ، وهو: وركود خطأ، والصواب ور ?رد، كما أن كتابة البيتين غير صحيحة والكتابة الصحيحة لهما في اللغة الفارسية على الشكل التالي: ? ر ?وهر طاعتت نسفتم هر ?ز ور ?رد ?نه زرخ نرفتم هر?ز نوميد نيم زبار?اه كرمت زيراكه يكي رادو ن?فتم هر?ز وترجمة هذه الرباعية هي: إن لم أطعك إلهي في الحياة ولم أطهر النفس من أدران عصياني فليست النفس من جدواك قانطة إذ لم أقل قط إن الواحد اثنان انظر: الخيام، عمر: رباعيات عمر الخيام، تعريب: السيد أحمد الصافي النجفي، د.ت، ص 112.