د. أحمد السيد أبو زيد: لمن لا يعرفون بروفيسور محمد أشرف نقف في هذه العجالة على سيرة هذا العالم الباكستاني الأصل والسوداني الهوية، والذي التحق بجامعة جوبا عام 1978م قسم العلوم الزراعية بكلية الموارد الطبيعية، وكان أول رئيس لذلك القسم. وقابلته في جوبا في مطلع عام 1980م عقب عودتي من جامعة نيروبي لدراسة الماجستير. وعمل هذا العالم الجليل في جامعة جوبا بجوبا والخرطوم لحوالى ثلاثين عاماً يدرس مواد علم الوراثة والإحصاء وتصميم التجارب وعلوم المحاصيل الحقلية المختلفة. وكان عالماً موسوعياً، وكان من الذين يرجع إليهم المديرون والأساتذة في اللوائح الأكاديمية، بل وأشرف على إعداد دليل الجامعة University Calendar منذ الإنشاء. وتشير سيرته الذاتية إلى أنه تلقى مراحل تعليمه بالباكستان إلى أن حصل على درجة الماجستير في تربية النبات عام 1986م، وعمل في مفوضية الأراضي والري لتسع سنوات، ثم ذهب إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث نال درجة الدكتوراة من جامعة مونتانا، وعمل لمدة عام باحثاً هناك، ثم سافر لزامبيا حيث عمل بجامعة زامبيا لمدة خمس سنوات. وتعرف في جامعة زامبيا بلوساكا على عدد من السودانيين، نذكر منهم البروفيسور الراحل مهلب عبد الرحمن علي طه وبروفسير مختار مصطفى، وعليه أتاح له ذلك أن يذهب للسودان ملتحقاً بجامعة جوبا عام 1978م. وعمل مع المؤسسين لهذه الجامعة: البروفيسور السماني عبد الله يعقوب والبروفيسور عبد الرحمن أبو زيد، ولم يبخل بما اكتسبه من معارف وتجارب لمصلحة الجامعة، واستقر هو وأسرته بجوبا في ظروف معيشية صعبة، وساعد الكثير من الأساتذة الأجانب خاصة الآسيويين منهم على التكيف مع بيئة جوبا. وكانت الجامعة وقتذاك تعاني نقصاً في أعضاء هيئة التدريس، فتم التعاقد مع أساتذة من أوروبا وآسيا وإفريقيا، فكان مجتمع الجامعة مجتمعاً متعدد الجنسيات. ونجحت إدارة الجامعة في خلق بيئة متجانسة ومحفزة للعمل الأكاديمي في الجنوب. وعقب حضوره انخرط البروفيسور الراحل في إجراء التجارب العلمية، ونجح في توطين زراعة القمح بجنوب السودان، وكانت تجاربه لاختيار أفضل عينات محصول القمح في ناقيشوط (Nagishot) في مرتفعات الأماتونج، وحققت تلك العينات إنتاجية عالية. ثم نشرت هذه البحوث العلمية في مجلة كلية الموارد الطبيعية (Jonares). واعتمدت منظمة الزراعة والأغذية العالمية (FAO) نجاح زراعة القمح في الجنوب، وتم نشر تلك النتائج المبشرة في تقاريرها آنذاك. لم يكن البروفيسور أشرف عالماً فحسب في تخصصه، بل كان شخصية متعددة المعارف والمواهب، وكانت له نظرة فاحصة وبعد نظر، وكان الإخوة المديرون يستشيرونه كثيراً، وكان يقدم نصائحه بتجرد وتفانٍ. وكنا نستمتع عندما يكون حاضراً في اجتماعات مجلس الكلية أو مجلس الأساتذة، فكانت الآراء الحكيمية والمقترحات النيرة تتدفق منه في سلاسة وعمق. وكان يتمتع أيضاً برومح مرحة (Good Sense of Humor) وكان ذلك يخفف عنا كثيراً من الظروف الحياتية الصعبة وقتذاك في جوبا. بالإضافة للتعاون معه في الأكاديميات عملت معه في بداية ثمانينيات القرن الماضي في لجنة تجميل جامعة جوبا، وكان معنا مهندس الجامعة، وبدأنا بمباني الإدارة والكليات، ثم دلفنا إلى منازل الأساتذة، فكان عملاً جميلاً مازالت آثاره باقية. وكان أول من أنشأ مشتلاً في حرم الجامعة لأغراض التدريب والبحث، وكان قد نجح في إنشاء مزرعة للخضر في الجزيرة ببحر الجبل، وكانت مزرعة تدريبية واستثمارية وتمد الجامعة بالخضر خاصة التي لا توجد في جوبا. وعند انتقال الجامعة للخرطوم في العام الدراسي 1989 1990م واصل عطاءه وتدريسه، وكان مديرو الجامعة يرجعون إليه للاستشارة. وكانت علاقة بروفيسور أشرف بالأساتذة والطلاب الجنوبيين جيدة وتقوم على الاحترام المتبادل بدءاً بالعمداء الأوائل، الراحل جوزيف عوض وبروفيسور بيتر تنجوا ووكيل الجامعة آنذاك بروفيسور مؤسس مشار الذي كان له الفضل مع بروفيسور عبد الرحمن أبو زيد في إكمال بنيات الجامعة. وأذكر أن بعض طلابه من جنوب السودان كانوا يحتفظون بعلاقات اجتماعية متواصلة معه، ومنهم من التحق بأعضاء هيئة التدريس. كان بروفيسور أشرف كما أحسبه مسلماً ملتزماً يؤدي صلواته، وكان يذهب معنا لأداء صلاة الجمعة والعيدين بمسجد مدينة جوبا. وهنالك كانت عادة يتبعها، وهي أنه في الأول من شهر رمضان المعظم كان يحضر معه حوالي ثلاثين كيساً بها تقريباً جميع مستلزمات شهر رمضان، وكان يخصصها للمسلمين الجنوبيين من العمال، وكان يفعل ذلك سنوياً وحتى العام الماضي. وقبل وفاته بسنوات قليلة عكف على تأليف كتاب مرجعي في الإحصاء التحليلي وتصميم التجارب: Experimental Methods in Agriculture. وتم إصدار العدد الأول عام 2008م بمطبعة جامعة جوبا، ثم رأت إدارة الجامعة أن تعيد طباعته، فتمت طباعته العام قبل الماضي بشركة مطابع السودان للعملة المحدودة. وهذا الكتاب المرجعي مفيد للأساتذة وطلاب البكالريوس والدراسات العليا، ولا أعتقد أن له نظيراً في المكتبة السودانية الآن، وعليه أرجو من كليات الزراعة والإنتاج الحيواني والكليات التطبيقية أن تزود مكتباتها بهذا الكتاب المرجعي المهم. وأوصتني أسرة الراحل أن أقوم بتوزيع بعض النسخ للجامعات السودانية، وشرعت في ذلك لتعميم الفائدة. وأعتقد أن وفاة بروفيسور محمد أشرف فقد جليل لجامعة بحري خاصة كلية الزراعة، وهي الكلية التي أنشئت حديثاً، فكان خير معين في مجلس الكلية ولجانها الاستشارية، وكان عضواً فاعلاً في مجلس الأساتذة في جامعة جوبا ثم جامعة بحري الآن. وكذلك كان مرجعاً أساسياً في لوائح الجامعة. وأذكر قبل عام عندما كنا نسعى للتصديق بإنشاء كلية الزراعة بجامعة بحري، أنه وضع تصوراً شاملاً لمفهوم كلية الزراعة بمنظور جديد ومتطور يجعل كلية الزراعة جهة استشارية تقدم الخدمات الزراعية الأساسية للمجتمع من حولها، وتقوم بإنشاء مراكز بحثية تقدم الخدمات العلمية للمزارعين، مثل خدمات تحليل التربة والمياه واختيار العينات المحسنة ووقاية النباتات مقابل أجر زهيد للمزارعين والمجتمع. وترك البروفيسور أسرة صغيرة مكونة من السيدة الفاضلة عابدة التي شاركته الحياة بالسودان بجنوبه وشماله، وابنة «سارة» وابن «نبيل» اللذين ترعرعا بجوبا منذ مرحلة الأساس وواصلا تعليمهما بالخرطوم. وتخرجت سارة في جامعة الأحفاد ونبيل في مدرسة العلوم الإدارية بجامعة جوبا 2003م، والملفت هنا أنه أول طالب يحرز معدلاً تراكمياً كاملاً (4 Out of 4) ولم يحرز هذا المعدل أي طالب قبله ولا بعده حسب علمي. ويعمل نبيل الآن في منظمة دولية في أفغانستان، وتعمل سارة بالسودان في منظمة ومتزوجة من صومالي «أحمد» يعمل ب (Unamid). ورأت الأسرة أن تستقر في السودان، ومما يجدر ذكره أن الراحل تحصل على الجنسية السودانية قبل حوالى خمسة أعوام. ونسأل الله للفقيد الرحمة والمغفرة بقدر ما قدم من عمل جليل في مهنة سامية، وبقدر ما أحب السودان إذ أنه مكث فيه حوالى «35» عاماً في عطاء مستمر وعمل مخلص وأداء متميز، وأقترح على الإدارة الحالية بجامعة بحري أن تسمي إحدى القاعات الرئيسة باسمه تخليداً لذكراه. اللهم ارحمه وانزل البركة على ذريته. * قسم البساتين كلية الزراعة جامعة بحري