الخرطوم: الصحافة: بحضور سياسي واكاديمي واعلامي مميز عقد مركز طيبة برس منتدى حول مشروع «الحل الرشيد»، طرح فيه الكاتب الصحفي عثمان ميرغني مسودة المشروع التي تحمل شعار «خارطة طريق للخروج من نفق الأزمة السودانية» ، الذي يشير ان أمد الصراع السياسي في بلادنا تطاول الى الدرجة التي يئس الكثيرون وقنطوا من الخروج من حالة ال«لا» استقرار التي تؤخر عجلة الحياة العامة وتحبط طموح الشعب في التنمية والرفاهية. ويضع المشروع مبضعه على مشكل السودان ويقول انه بعد أكثر من «57» عاماً من الاستقلال «أي نفس الفترة التي قضاها الاستعمار في السودان من 1898 -1956» تبدو الأمة السودانية في أسوأ حالاتها وأوهن قواها ، ويشير ميرغني الى فقدان البلاد لثلث مساحتها وخمس سكان السودان، لافتا الى الحرب التي تدور رحاها الطاحنة في دارفور وبشمال وجنوب كردفان والنيل الأزرق. على ان المسودة تؤكد رغم كل ذلك ان شعب السودان من أكثر شعوب العالمين العربي والافريقي ثراء بتجارب التعايش والتنظيم الاداري الأهلي ، مشيرة الى ان الدولة السودانية تشكلت على ميراث ممالك ودويلات ضاربة في عمق التاريخ. ويقدم المشروع ملاحظة مهمة تدور حول أن شعب السودان نجح في نيل استقلاله من المستعمر الأجنبي بلا نقطة دم واحدة الا انه نحرت أكثر من مليوني نفس في حرب الجنوب وحدها ،ويؤكد مشروع الحل الرشيد « اضيف اليها مئات الألاف من الأنفس البريئة في الحروب التي بدأت ولم تنته حتى هذه اللحظة» . ويلفت المشروع الى انه «لا يخفي على أحد ان السودان كله في مهب ريح الاحتراب الذي بدأ سياسياً لكنه الآن يحتشد بالقبليات والجهويات التي تكفي لتمزيق البقية الباقية من الوطن الكبير» . وتشير المسودة الى ان شعوب السودان ظلت متعايشة طوال تاريخها الا أن الأنظمة السياسية نجحت في زرع الفتن والتباغض وشحنت الأنفس بالغبن الذي «تحول الى بارود يكفي لتفجير البلاد كلها»، مبينة مساهمة سياسات الحكم خلال العقدين الأخيرين في تمزيق الانتماء القومي لصالح الحزبي والقبلي والجهوي بصورة اوشكت أن تضاهي النموذج الصومالي. ويؤكد المشروع ان اكثر ما يخرب البلاد هو احتكار المصير والقرار لدى فئة قليلة في الحكم والمعارضة على حد سواء ، بينما يقف بقية الوطن بكل الاستنارة التي ينعم بها الشعب السوداني الذي يفيض بأصحاب المؤهلات العلمية والمهنية والخبرات العملية الذين ينتظرون في طابور الصمت بلا حيلة ولا تدخل أو مشاركة في صنع مستقبل وطنهم وأبنائهم. وتصف المسودة ما تعتبره العلاج الناجع والدواء ب«الحل الرشيد Principled Solution » ويؤكد المشروع ان «الحل الرشيد» يفكك الأزمة السياسية ويضع البلاد كلها في مسار جاد نحو الاستقرار السياسي، الذي تعتبره الدراسة في متناول الجميع مشترطة توسع الأبصار لتدرك بالبصيرة مكمن الفشل و منافذ الخروج من النفق المظلم. ويحاجج مشروع «الحل الرشيد» بانه يخترق الواقع السياسي المحبط ويضع أولى خطوات الطريق نحو وطن مستقيم ، ويضع مشروع الحل الرشيد المحاور الاساسية التي تسير عليها قاطرته التي تشمل توصيف وتشخيص المشكلة بدقة وتصميم وصياغة المبادئ والمفاهيم الأساسية للحل ووضع خارطة طريق للخروج من نفق المشكلة السياسية. ويضع المشروع سيناريوهات المآلات وتوصيف وتشخيص المشكلة ويشير الى ان الكثيرين اجتهدوا في تحليل وتشخيص الأزمة الحالية، مؤكدا انه لا يكاد يوجد فرق يذكر في هذه التحليلات بما يشكل قناعة كاملة أن المشكلة معلومة للجميع ، ويقول مشروع الحل الرشيد ان المشكلة تكمن في فشل النظم السياسية المتعاقبة في صياغة مشروع «دولة سودانية» متمرحلة بأسس ومفاهيم مستدامة، فكل عهد سياسي يفترض أن تاريخ السودان بدأ به ، وفشل النظم الحزبية في ترسيخ الديموقراطية على مستوى الممارسة الحزبية وعزلها في العملية الاجرائية للانتخابات التعددية مما جعل الديموقراطية تسقط في كل مرة بعد سن الفطام بقليل ، وتغول الفعل السياسي في جسد الدولة بحيث يؤثر الانتماء والقرار السياسي على كامل حياة المواطن فتتحول الدولة الى «محاكم تفتيش» كبيرة تربط العمل المدني والحقوق بالولاء السياسي ، واضمحلال أسس الخدمة المدنية التي تحولت الى ذراع سياسي مترع بالفساد. واستثمار الدين الاسلامي كشعار وبطاقة ولافتة في مختلف مستويات الدولة على مستوى الطائفة والحزب والحكم بينما تغيب حقوق الانسان وكرامته التي نص عليها الدين بل ويستخدم الدين لقهر الانسان في حقوقه الأساسية. وفي جانب تصميم وصياغة المبادئ والمفاهيم الأساسية للحل يؤكد مشروع الحل الرشيد ان المبادئ التي يقوم عليها الحل يجب أن تتجاوز المسلمات والمصطلحات التي رضخ لها السودان كثيراً ، مشيرا الى مسلمات من قبيل صياغة دستور جديد، موضحة ان الدستور الأمريكي الذي ولد عام 1787 لم يكتب من الفراغ بل كان تعديلا لاتفاقيات «الكونفدرالية» بين الولايات للتحول الي نظام الحكومة المركزية «الاتحادية الواحدة» وبعد أقل من عامين تعرض لتعديلات جوهرية بادخال وثيقة الحقوق «Bill of Rights»وتلفت الدراسة الى ان بريطانيا التي تعتبر أرسخ دولة ديموقراطية في العالم ليس لها دستور مكتوب ، وتشير الى ان كل الدساتير السودانية لم تكن مشكلتها في الصياغة بل كانت دائماً في الالتزام والتقيد بنصوصها. ويفكك الحل الرشيد ثاني المسلمات التي رسخت في اذهان الناس كثيرا مشيرا الى الصيغة الانتقالية التي تستخدم كثيراً في غالب الوصفات التي تقدم لحل المشكلات السياسية ويصفها المشروع بانها مفردة خطيرة للغاية لأنها تحدد وضع الحل في اطار «مؤقت» بينما تقوم أسس أي دولة رشيدة على التقادم بالخبرة والتمرحل عبر الحقب دون حاجة لوصف حقبة في عمر الدولة بأنها «انتقالية» لأن ذلك يضعف جذور الدولة ويكبل رسوخ تجاربها بالثبات والاستقرار. ويدعو المشروع الى سيادة القانون وهو المبدأ الاول للحل الرشيد، مشيرا الى ضرورة وضع كل الاشتراطات والمواثيق والجزاءات التي تجعل مخالفة القانون على أي مستوى «خاصة في مستوى الدولة الأعلى» فعلاً تجريمياً يفضي للمحاسبة «بلا حصانة» مهما كان وضع مرتكب الفعل وترسيخ دور السلطتين التشريعية «في سن القوانين» والقضائية «في حماية هذه القوانين» بصورة تبعد تماماً أي تدخل أو تأثير من السلطة التنفيذية عليهما. ويضع المشروع المبدأ الثاني في الحل الرشيد عبر عزل عناصر الدولة، مشيرا الى تقسيم الدولة الى طبقات تعمل بتنسيق «هارموني» لكن دون تداخل فالخدمة المدنية مثلاً ماكينة ضخمة تدير الدولة لكنها تتعطل في حال ارتبطت بأي من تروس «Gears» السياسة وكذلك الأعمال في مختلف مستوياتها من الشركات الكبرى الى أصغر عمل حر يمارسه المواطن يجب عزله من تأثيرات طبقة السياسة Political Layer وطبقة الخدمة المدنية Civil service Layer. ويضع المشروع خارطة الطريق للخروج من نفق المشكلة السياسية بالنظر الى الوضع الراهن ومطلوبات احداث التغيير التي يجب أن تتحقق على الأرض حسب جدول زمني محدد يجب تقديم مقترحات لاكمال عمليات «الحل الرشيد» الى أنجع مستوى ويضع اطارا زمانيا يفترض أن خط الصفر الزمني يبدأ من العام 2010 بالانتخابات العامة والرئاسية التي أجريت آنئذ. ويدعو الحل الرشيد الى اقرار وليس صياغة دستور جديد مؤكدا صلاحية الدستور الحالي «دستور 2005» بعد سحب المواد التي تتعلق باقليم جنوب السودان ويشير المشروع الى تعديل طفيف في الدستور يغير طريقة انتخاب الهيئة التشريعية القومية لتصبح عبر انتخابات «تجديد نصفي». بحيث يصبح التعديل نافذاً «الآن» باسقاط عضوية نصف البرلمان الحالي. مع تعهد حزب المؤتمر الوطني وكل الاحزاب المتحالفة معه «في اطار التسوية السياسية» بعدم خوض انتخابات التجديد النصفي لتتمكن الأحزاب المعارضة من الحصول على نصف البرلمان. ويصبح في امكانها التشريع لاحداث التغيير المطلوب ومراقبة أداء الحكومة لتحقيق مبدأ توازن السلطات «Checks and balances». ، ويطالب الحل الرشيد باجراء العملية الثالثة بالتزامن مع تعديل الدستور عبر البدء بعملية الاصلاح الحزبي وذلك بتعديل قانون الأحزاب لتحصل الأحزاب على دعم مالي مباشر من الدولة مشروطا بهيكل واجراءات مالية وادارية تلتزم بها الأحزاب، ويلفت المشروع الى أن الأحزاب مهمة حتمية لأي عمل ديموقراطي ولا يمكن الحديث عن تطوير البنية السياسية بمعزل عن اصلاحها وتطوير قدراتها. ويصل المشروع الى العملية الرابعة والأخيرة : انتخابات التجديد النصفي الثاني «في 2015» التي يجب ان تدخلها أحزاب المعارضة وهي حائزة فعلاً على نصف مقاعد البرلمان في انتخابات التجديد النصفي الأول. ويصبح المحك الحقيقي للطرفين «الحكومة الحالية والمعارضة» التنافس في نصف مقاعد البرلمان في العام 2015م. ويضع مشروع الحل الرشيد سيناريوهات ومآلات الأوضاع الحالية في حال عدم الحصول على حل رشيد للأزمة السياسية فان السيناريو الوحيد الأقرب للواقع هو ما قاله الدكتور حسن الترابي : « يصبح الصومال أمنية يحلم بها السودانيون» أي أن الوضع يصبح أكبر كارثية مما وصلت اليه الصومال. وبعبارة واضحة ينهي مشروع الحل الرشيد حججه بالقول «هذه مجرد مقترحات مبدئية قد تصلح - او لا تصلح - للنقاش لكنها بالضرورة تصلح ليدار حولها حوار مستنير للبحث عن حل رشيد لأزمتنا السياسية المتطاولة والخطرة الذي يكاد يعصف بالوطن كله».