أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الامتاع والمكاشفة في المسموعات الشعبية لمحمد إبراهيم الشوش(1)
نشر في الصحافة يوم 25 - 06 - 2013


:
نُشر لمحمد ابراهيم الشوش كتابان في الآونة الأخيرة يحتويان على طرائف عصرية، أول الكتابين بعنوان «وجوه وأقنعة» «1989م» يضم 185 طرفة، وثانيهما بعنوان نوادر هذا الزمان «1990م» وبه 190 طرفة. وجاءت مقدمة الكتاب الأول في صفحتين، بينما وُضع الكتاب الثاني في قسمين: الأول دراسة بعنوان «نوادر العرب» وفصولها أحد عشر، وثاني القسمين هو الطرائف ذاتها تحت عنوان «نوادر هذا الزمان». وقد تميز الاخراج في الكتاب الأول بلوحات تصويرية مبهرجة وطموح فني وان لم تزد على الخمس. لكن لوحات الكتاب الثاني كانت خطوطاً كاريكاتيرية غير ملونة، ولعلها تعدت الخمس عشرة لوحة.
أ استباق الجدل المنهجي:
سأحاول أن أدافع في هذه الفاصلة جهد طاقتي عن اختياري لاستيعاب طرفات محمد إبراهيم الشوش البالغ عددها 375 طرفة ضمن المجال التعبيري المتفرهد الذي نجمله تحت مسمى التراث الشعبي أو المأثورات الشعبية. وسيكون معياري الأساسي لإثبات ذلك هو زعمي (الذي هو أقوى الافتراضات) بأن أصول هذه الطرائف كانت على الأرجح متداولات شفهية، وسأسترشد لهذا بالحجج التالية:
أولاً: لم يكن الشوش ليستطيع حضور 375 موقفاً يستحق الادراج تحت بند الطرف الأدبية، ولهذا فهو يورد معظم هذه الطرف على لسان الكاتب الخبير الذي يبدو وكأنه عارف بكل شيء (omniscient) وهذا النوع من الاختلاق الابداعي (creation) في نظري جديد تماماً على الأدب العربي ومستعار من آداب عالمية أخرى، ولم يكن حسب علمي شائعاً في التراث الأدبي العربي المدون قبل التأثر بالتراثين السندي والهيليني وما جاء بعدهما، فالمرويات التراثية العربية عموماً كانت إما أن تسند، وإما أن تُقدم بلفظة التمريض، ونعني بذلك أن بعضها قد تبدأ بأخبرنا أو حدثنا، وبعضها قد تبدأ بقيل أو حُكي وكلا المدخلين اسناداً أو تمريضاً لا يتهرب بالضرورة من الرجوع إلى المشافهة في النقل من حيث مصادر الرواية.
أما الشوش فلم يستطع المداومة على ذلك الموقع المتظاهر بالإحاطة الكلية، ففي الكتاب الأول ختم الطرفة رقم 48 بقول: «ويصمت اللسان عن بقية الحكاية، لأن ما من أحد حكى لنا فجيعة النهاية».
ولنفترض أن هذا مجرد تكنيك قصصي تخيلي لكن الظاهرة تتواتر، فبطل الطرفة رقم 49 بدأها: «حكى لهم حكاية أليمة»، وقاطعه مستمعوه بأنها: «حكاية قديمة حكيتها لنا قبل عام»، ودافع هو: «وهل يعيبها أنها حكاية قديمة».. والطرفة رقم 51 استُهلت: «ظل يحكي في حماس بالغ».. ثم بدأت الطرفة رقم 64: «كان يحكي لأصدقائه».. والطرفة رقم 80 أولها: «قال يستفهم عن حكاية انتشرت بسرعة في أوساط الطلاب والأساتذة». ونختم أمثلتنا هذه برقم 175 التي مطلعها: «قال يحكي لصديقه».
هذا الاطراد في استعمال صيغة الحكاية لا تفسره نظرية التكنيك القصصي التخيلي، نسبة لأن التكرار عينه يتعارض مع ابداعية التكنيك القصصي، ولهذا نزعم بأن الأصل الشفهي للطرائف فرض لغته على أسلوب التقديم رغم ذهاب الشوش عموماً نحو تحديث النهج الايرادي عنده عبر اختلاقية المؤلف الخرافي الادراك.
ثانياً: هنالك طرائف أوردها الشوش وهي مشابهة لحكايات كانت ولعلها مازالت منتشرة في الأوساط الشعبية السودانية خاصة في الخرطوم فالخرطوميون يسخرون بإكثار من رجال الأعمال الجهلة. وتتحدث هذه الحكايات عن مواقف محرجة يدعي رواتها أن الموسرين الجهلة وقعوا فيها، فمن ذلك القول بأن رجل الأعمال الفُلاني يحتج على من ينكر عليه جهله ليؤكد له بأن هذه «الشطارة» العلمية الناقدة لجهله هي التي أضاعت نقاده ووضعت من شأنهم المادي، فإذا قبضنا لُب الطرفة رقم 100 في الكتاب الأول للشوش نراه يورد عن أحد رجال الأعمال الراسبين في الثانوية: «موضوعه المفضل في جلساته الخاصة ما أصابه من خيبة أمل في أغلبية مستخدميه من الجامعيين، وكيف أنهم فاشلون في أداء أعمالهم».. وفي الطرفة رقم 140 يقول الراوي عن رجل أعمال آخر: إن المدير طلب منه توقيع العقد أمامه فرد رجل الأعمال: «لو كنت أعرف الكتابة لكنتُ عاملاً بسيطاً عندكم أكنس المكتب».
فإذا كنتُ كسوداني ألقاني أقرأ في طرائف الشوش السالفة هذي تماثلاً بيناً مع مرويات شفهية سمعتها في الحقبة التي عايشت فيها الشوش بالخرطوم، فلماذا لا يتعرف آخرون في لندن والخليج وكندا على مماثلات شفهية مغايرة من بيئاتهم مع طرائف يوردها الشوش ضمن حصيلته؟ وسيتحتم علينا عندئذٍ أن نربط في الفاصلة القادمة بين هذا الذي ندعيه وبين حاجة الشوش المداومة والماسة لتبديل معالم مسموعاته، فبجانب الدواعي الابداعية هنالك من الأسباب التي عبر عنها الشوش في مقدمتيه، ومنها محاذير اجتماعية قاهرة.
ثالثاً: في ذاكرتي أن جامعي النوادر العربية القديمة كانوا يلحون على أن التفصيح الكلي للمرويات الشعبية الهزلية يسلبها طرافتها. وهذا الفهم الابداعي كان يملي عليهم أن يبقوا على بعض التعابير العامية أو بعض المصطلحات الشعبية التي تتمحور حولها النادرة بعد تفصيحها. وأظن ان الشوش كان يواجه مثل هذه الدواعي في غير القليل من طرائفه.
ولنبدأ استقضاءنا بالكلمات الخليجية التي أملت نفسها على مسموعاته فوضعها بين قوسين ليحتفظ لها بشخصيتها في جرس اللفظ وبظلالها في الايحاءات الاجتماعية، كما يتخذها وسيلة للاشارة إلى البيئة السكانية التي يريد الشوش من القارئ أن ينسب لها ذلك الموقف. في الطرفة رقم 38 من الكتاب الأول نرى: «يا قوم اتركوا (الرجّال) في حاله». وفي رقم 82 من نفس الكتاب نسمع الرجل المهم يُقال له: «هذا الذي تفعله (خرابيط)» وفي رقم 91 من الكتاب الثاني نجد رجلاً ينصح آخر ألا يتخلى عن أصدقائه وزملائه: «فهم ربعك».. وآخر في رقم 106 يُوصف بأن «كل ربعه رحل».. وعند الطرفة 170 يُمتدح موظف دؤوب على العمل بأنه (شغّيل).
يستعمل الشوش في الطرائف 140 و180 و182 من الكتاب الثاني لفظة. «ثقيل الدم» للشخص الباعث على الإملال، وهو مصطلح رأيت فيه الطابع الشعبي في التعبير عن ذلك الإحساس، ولعله معروف في كل الثقافات العربية الفرعية. وبنفس المستوى ننظر لاستعمال لفظة «رجل صعب» في الطرفة 134 من ذات الكتاب. ثم نلمنح هنا أيضاً في رقم 98 كلمة «البُطان» وهي حسب معرفتي تدل على رياضة يتجالد فيها الرجال بالسياط أمام الملأ لإثبات الفحولة، وهي عادة شعبية احتفالية لا أدري إن كان غير السودانيين يعرفونها.
وأخيراً: إذا كانت لنقاطنا الثلاث السالفة من وزن تجادلي معتبر فإن انجازات تفصيح المرويات الشعبية العربية طالما بقيت أمراً محورياً في رفد التراث الأدبي العربي خلال أغلب حقب النسخ اليدوي. وفي عصرنا هذا برزت محاولات تفصيح مستجد أثبتت جداوها، ولعلي أذكر من أظهر روادها عبد الله الطيب في السودان، وروكس بن زايد العزيزي في الأردن، ومحمد ناصر العبودي وعبد الله بن خميس وعبد الكريم الجهيمان في السعودية. وهكذا أجمع أطراف نقاشي لأؤكد جازماً بأن كتابي الشوش هذين أضافا لمحصولنا من التراث الشعبي قدراً وافراً وحصيفاً ومفيداً من التجميع والتدوين المؤصل في الفصاحة.
ب تحديث الامتاع وتنسيق المكاشفة:
نظر بعضنا باستمرار لجدوى الأدب العربي حسب ما تركه أسلافنا على أنه حفظ لحكمة الأمة من خلال تمارين تنافسية يجهد فيها الأدباء أنفسهم لتقديم أعمال تمنينا «بالامتاع والمؤانسة» ولا تفتقر إلى «مكاشفتنا» بعمق حول المعاني الأثيرة في حياتنا سلباً أو ايجاباً.
ويبدو لي أن الشوش الذي يستوعب هذا الشأن أفضل مني بصفته عالماً في حيز الأدب العربي إنما سعى لإدخال معرفته بالحياة التي عاشها من خلال تطبيقات مشابهة لهذه الرؤية.
ومع ذلك فإنني لأتمنى أن يقرأ غيري مقدمتي الشوش بفهم أفضل من فهمي. ولكنني لاحظت أن بداية تجربته في عام 1989م بالكتاب الأول كانت مفاجأة للشوش نفسه، فهو يبدأ موضوعه بالقول إن العرب القدماء لم يعرفوا فنون السرد الحديثة كالرواية والقصة القصيرة والمسرح، ولا الملاحم وما من جنسها، بل كانوا يعتمدون على الخاطرة اللماحة التي تخرج دُرة كلامية تحفظها الذاكرة وتسير بها الركبان. وكل ذلك من غلبة الأمية والتطبع على مركوم الشفاهة.
ثم يلوم الشوش أولئك الذين اتهموا العرب بجفاف الملكة الإبداعية لأنهم لم يعرفوا المطولات، ويلوم الذين دافعوا عن ملكات العرب بتلبيس الإبداع التراثي العربي لبوس الفنون التي لم يعرفها العرب الأوائل، ويلوم المنغلقين الذين يرفضون مبدأ التأثير والتأثر، أو الأخذ والعطاء، بين الثقافة العربية وما عداها قديماً وحديثاً.
ويقرر الشوش بأن «حلاوة القصة ورونقها أهم من صدق الوقائع». وهكذا يدلف إلى تشخيص عمله وتأطيره باعتبار أنه ينطلق من التقليد الأدبي العربي القديم في مجال النوادر حينما ينسج على منوالها هذه المجموعة الخاصة بزمانه، لكنه يبادر فيحذر من أية محاولة للربط بين واقعية نوادره والرغبة في جرجرتها باتجاه الإثبات الوقائعي. فهو كما يقول إنما يسعى إلى تسلية القارئ.
وحين يظهر الكتاب الثاني عام 1990م نرى الشوش وقد استفاق من صدمة المفاجأة وتمعن في الذي يصنع، فالدراسة التي بدأ بها ها هنا جاءت في 70 صفحة، ولها 228 هامشة ولم تتغير قناعات الشوش التي قدم بها كتابه الأول، لكنه حفر لتمتين الأساس وتمدد في الأطراف.
ونلاحظ بداية أن الشوش اعتمد كثيراً على مدوني النوادر الكلاسيكية كالجاحظ، ابن قتيبة، المبرد، أبي علي القالي، ابن عبد ربه، البغدادي والزمخشري والأصفهاني والقلقشندي والنويري والأبشيهي، لكي يقيم على أسس راسخة رؤيته حول طموحات الطرائف العربية القديمة وانجازاتها، فكان أن أوصلته دراسته مبكراً إلى أفضلية الايجاز ليتمسك بشكل النادرة اللماحة، كما أوصلته إلى تأكيد مقولته في الكتاب الأول بأن حلاوة القصة ورونقها أهم من صدق وقائعها، وحينئذٍ أجاز لنفسه ما اعتبر أن أسلافه أجازوه لأنفسهم حينما تلاعبوا بالسند لكي يمرروا دروسهم في الحكمة ونقد السياسة وتزويق التاريخ وتقعيد مقاييس الإبداع الأدبي وإضحاك الأمة من نفسها، كل ذلك دون أن يُعرضوا أنفسهم للمساءلة السلطوية.
ويختم الشوش دراسته للكتاب الثاني بالتأسف على عدم تعامل كتابنا المعاصرين تعاملاً جاداً مع النادرة وذلك كما يفهم الشوش، لعلة أنها لا تشبه الفنون العصرية التي شُغلوا بها. ثم يدمج الشوش في النهاية بين كتابيه حينما يحذر القارئ ثانية من محاولة الربط بين الواقع الذي يرسمه المؤلف وبين الوقائع التي يستنزلها القراء على النوادر.
وكما يتضح فإن الشوش لا يذكر شيئاً عن منطلقه نحو مصادر مادته الخام، ولا يخبرنا عن منهجه في جمع وصياغة مسموعاته، ولا يشرح لنا علاقتها بخلفياتها الحديثة، ولا يكشف أمامنا المقاصد التي وجهت إبداعه من عند التوسل بالامتاع والمؤانسة إلى غرضيات المكاشفة الثقافية الرفيعة. وهو بكل ذلك «الإغفال» المقصود انما يترك لنا مهمات استقراء مادته وتبيان هذه المحددات التي نحتاجها عن يقين ما دمنا نتوجه بتصميم راسخ نحو تلقي رسائله، ولعلنا نجهد أنفسنا لأجل ذلك ولا نألو.
لا بد أن الشوش قد انتبه في وقتها إلى ما في ذاكرته من مواقف تستحق أن يمتع ويكاشف بها المتلقين عن طريق تحويلها من مجال المشافهة إلى حيز القراءة. ولما كان التراث الذي استنطق الشوش جهابذته ليكتب مقدمة كتابه الثاني في متناول يده، فقد تملى فيه، وإذا به يتوصل إلى أن الطبع يسبق التطبع، وأن التمسك بالهوية والانضمام في نفس الوقت للعصر يحتمان عليه أن يجد وسيلة لتحديث تبهيج النادرة لقرائها العصريين. ولعله لاحظ أيضاً أن الرواية والقصة القصيرة والمسرح وحتى الصور المتحركة لم تستطع النفاذ إلى مكاشفة مقنعة للمجتمع العربي في الوقت الذي سيرت فيه المتلقين نحو فجاجة كثيرة في حيز الامتاع. وأما الأنس والترفيه الخصوصي، كضرورة اجتماعية، فقد بقى شفهياً في فنيات السرد التقليدي، واستوعبته كذلك مجالس السمر ومحافل الطرب، وأفسدته التشنجات اللاعقلانية في كرة القدم.
لعل جمع الشوش كمية من النوادر في المراحل الأولى لتركيمه جعله كما نظن يفكر في قالب صالح للمخاطبة.. وفي النهاية وجد نفسه يستعير لغالبية نوادره أسلوب الكاتب الفائق الإدراك وهو كما قدمنا أسلوب اختلاقي عالمي لم يتعود عليه تراثنا الأول، لكن الأدب العربي الحديث اندرج في استعماله. وقد ساعده هذا الأسلوب الاختلاقي كثيراً في سلخ نوادره من جذورها الوقائعية وتحويلها إلى واقع يستعرض أمام المؤلف ذاته ظاهرات تستحق أن تُقدم للتسلية وما عداها. و«ما عداها» هذه هي المكاشفة أو الرسالة أو جذب القارئ نحو تدبر المعنى الدفين في الموقف الذي يُقدم له بتبسيط خادع.
وكلما تكاثرت النوادر قادمة من الذاكرة الشفهية إلى التسجيل الواقعي، تمددت أمام المؤلف معالم المجتمعات التي عايشها، فسمع فيها هاته المرويات. هنالك إذن القرية التي أخرجت الكاتب، ثم المدينة حيث تعلم نظامياً، فمدن الحضارة الغربية حيث تخصص، فالخليج العربي حيث عمل لحقبة، ثم العودة إلى مدن الحضارة الغربية ليراوح بينها وبين عوالمه السالفة. وإذا بالمرويات، شاء المؤلف أم أبى، تحتفظ ببعض لغاتها وعاداتها وتوجهاتها الحضارية والثقافية.
وهكذا تبدو إعادة صياغة تلك المرويات بالعربية الفصحى وعلى هدى الايجاز البلاغي أمراً حتمياً حتى يتم لها توحيد المنهج التقديمي. ونكتشف عند ذاك أن الذي أتاه الشوش في كتابه لا يختلف البتة عما أتاه علماء العربية وأدبها الطالع في عصور التدوين والجمع حينما نقلوا التراث الشفهي لعلوم العرب من التلقي القولي إلى التلقي التسجيلي. فالتأصيل اللغوي الذي يقوم به الشوش في نوادره لا ينقل فقط عاميات المخاطبة في المجتمعات العربية المختلفة التي خبرها إلى الفصحى، بل يترجم كل المحاورات التي تمت باللغات الأجنبية هنا وهناك وهي عامرة في ما يعرض من النوادر، فالمتزوجون بالأجنبيات، والطلاب والمبتعثون إلى الخارج، والوفود الغادية والقادمة بين الحضارتين العربية وسواها كلهم يجب أن يوحد المؤلف كلامهم في عبارات عربية فصيحة وجزلة.
وهكذا يمر من أمامنا أبطال النوادر فتقودنا حركتهم إلى مقاصد المكاشفة. إن الذين عايشهم المؤلف في المدى الأطول من تجارب حياته ليس فيهم من «العوام» إلا قلة خارج السودان وبؤرة نيرة الذاكرى ارتبطت بالخلفية القروية لأغلب المتعلمين العرب. وقد حفلت هذه التجارب، كما يتضح، بمزاملة الأكاديميين، وكبار الموظفين، ونفر من أهل السلطة، ورجال الصحافة والكتابة، وعائلات المتزوجين بالأجنبيات، وطائفة من الأثرياء الذين اشتهوا لمعة فهم عصرهم إلى جانب الغرق في ملاذه، فربطوا مسامراتهم بالنخب المثقفة في مجتمعاتهم.
الكتابة بصدق تعني أن يتكاشف الناس بحقائق حياتهم. ويجيء المحللون فيتعرفون في الصور الواقعية المقدمة على مقاصد جليلة. ولا يهم إن كان المؤلف قصد دس هذه المقاصد هناك أم لم يقصد، لكن القارئ الحصيف لا يفوته المعنى الذي تحمله الطرفة داخل حلاوتها. فإذا لخصنا مقاصد المكاشفة التي استطعنا تبينها في تنويعات نوادر الشوش هذي ألفينا شيئاً شبيهاً بما يلي:
أولاً: تفشي ظاهرة النفاق الاجتماعي وما يستبطنه من فساد.
ثانياً: إخفاق عدد غير يسير من النخب المتعلمة والثرية في أن تتصرف وفقاً للقيم الأثيرة في المجتمع العربي المسلم.
ثالثاً: البراءة التي مازال بعضها صامداً في القرية وعند العوام.
رابعاً: محاسن ومثالب التعايش مع المرأة الأجنبية.
خامساً: التنوعات الفطرية للغز العلاقة بين الرجل والمرأة.
سادساً: أزمة الخيار بين حق النفس وحق الوطن على الإنسان.
وبهذا يتحتم علينا أن نحاول تصنيف نوادر الشوش حسب الموضوعات السابقة لكي نرصد في تعميم أولي الأوزان التي منح الشوش لكل من تلك الموضوعات في امتاع القراء ومكاشفتهم.
وبينما سنركز في المحاولة الآتية على استقراء النوادر لاستخراج «رسائلها». فإننا لن نخوض في دراسة فنية للنوادر بأي حال من الأحوال. ولنكتف بالقول إننا واجدون بينها النكتة، و«القفشة» أو الاجابة الساخرة المفحمة، والصورة القلمية التي تحل بعضها في خانة اللوحة النمطية، وقد يسعى بعضها للاستتار من الوقائعية حتى تتحول إلى مجرد رموز هلامية. وسنقصر الاحالة في الفقرة التالية على إيراد أرقام ما أحصينا من النوادر الخاصة بكل موضوع في الهامش الخاص بعنوانات المواضيع.
ج دوائر التفاعل الاجتماعي المتنقل: النخب المتعلمة:
ليس في مسموعات الشوش في كتابيه فئة فاقت هذه المجموعة فساداً ونفاقاً ومخادعة ولا وطنية وابتعاداً عن القيم الأصيلة في المجتمع.
في الكتاب الأول نرى السياسي «المبرمج» في رقم 20 يُقسم بشرفه ثم لا يصدقه زائره ويرمي له بقسمه في وجهه. والوطني الخارج من السجن السياسي في رقم 36 يسمع إعلام الحاكمين يتحدث بحماس وعاطفية عن ضرورات التضحية والتنمية، بينما واقع حال البلد وما بها من استهلاكيات مستوردة يكذب فهمهم ونياتهم، ووالد أحدهم في رقم 42 يسأل ابنه مستنكراً عليه نزاهته: «ولماذا أنت يا بني أحرص على أموال الحكومة من حرصك على منفعة أبيك؟» أما المبعوث من دولته لاستجلاب المشروعات الانمائية، في رقم 51 فيفشل لأنه لم يكشف لمقرري الأمر في البلد المانح «الرقم المهم». وظننته النسبة المئوية التي يتعاطها من يوافق على المشروع.
وفي رقم 86 يشتُم الطبيب طبيباً أجرى عملية سابقة لزبونته ويسميه «الحمار» فقط ليكشف له زوجها أن العملية إنما أجراها هو نفسه، والذي في رقم 94 تعود على انتقاص كل زملائه حتى حين لم يجد في أحدهم منقصة ذمه بأنه دخيل ليس من أهل البلد، وصاحب النادرة 104 يستفتح يومه بتكهنات المنجمين بدلاً من أخبار الجرائد، أما جليس الرجل المهم في رقم 108 فيذوب تسامحاً عندما يعرف أن الرجل المهم بعد كل مداومة هذا على حضور مجالسه لا يذكر حتى اسمه، ولا يستنكر المتحدث في رقم 121 كون المبتعث اشترى شهادة دكتوراة في الفلسفة لكنه يستنكر كونه جاهلاً بالأسعار حتى يدفع فيها ربع مليون دولار.
وفي الكتاب الثاني حالات أبشع: ففي رقم 31 وهي عن بلد مبتلى بالجفاف والمجاعة، نرى الشباب المضيعين مال أهلهم ووقتهم يتهمون الأجانب العاملين في الاغاثة بأنهم جواسيس، ونعرف من رقم 55 أن الذين أثروا من المال العام يُستغنى عنهم كي يتفرغوا لإنماء أموالهم التي نهبوها، وفي رقم 60 يتخذ الموظفون زميلهم المنافق مسباراً لتشخيص اتجاهات خطوتهم أو السخط عليهم لدى الادارة، كذلك يكتشف مسؤولا الادارات القانونية والمراجعة في رقمي 83 و128 أن المديرين لا يحتملون أن تُستخرج مخالفاتهم، فلا يؤديان عملاً ويتسيبان كما يحلو لهما.. وفي رقم 95 يقابلنا «المثقف الأميري» الذي كم سود حوله الأكاديميون العرب وبمرارة صفحات طوال.
أما النسبية الأخلاقية وهي شر أمراض العصر التي أصابت المتعلمين المسلمين فتقابلنا في الأرقام 127 و158 و160، من هذه أن ينصح أحدهم زميله بأن العاقل هو الذي يقول ما يقوله الناس والأحمق هو وحده الذي يقول ما يعتقده الناس، ويرشد المحامي في رقم 139 زبونه المتورط في خيانة الأمانة الوطنية بأن يخرج من البلد ويطلب اللجوء السياسي. ولأن الصحافيين والكُتاب والفنانين والشعراء والأثرياء الذين يقدم لنا الشوش نماذجهم بكثرة في نوادره معظمهم موبوء بأمراض النخب المتعلمة هذه نعني اجتماعياً فإننا سنحاول التقليل من تحديقنا إلى أغراض النوادر الباقية من ذات الذي سلف من عدساتنا النقدية، وبذلك نترك للدارسين الاجتماعيين الذي يهمهم هذا الأمر مهمة الرصد الأكثر تدقيقاً للبعد الاجتماعي لنوادر الشوش.
الصحافيون:
من أوزار الصحافة المغتربة أن بعض الصحافيين يهاجم سلطات بعض البلدان كوسيلة لابتزازهم، وهذا نشاهده في النادرة رقم 17 من كتاب الشوش الأول ورقم 42 من كتابه الثاني. ولا يحب مسؤول التحرير في رقم 56 الكتاب الأول أن يخط للجريدة أحد الملتحين. وهذه لفتة سياسية محورها مظهر الناس، ونخشى ان أطلنا أن تورطنا جميعاً في الجدل العنيف والدموي حول مفاهيم التطرف والارهاب. وهنالك في رقمي 88 و99 من ذات الكتاب الصنف الصحافي الذي تتعدل مبادئه لتساير كل الأنظمة ويبقى في جميع الأطوار لماعاً ومفيداً لمن يوظفونه. ثم نكاد نلمس بأيدينا الجريدة التي في رقم 68 من الكتاب الثاني، والتي يسميها الراوي: حاطبة ليل، تدفع للكُتاب لأسباب أخرى لا صلة لها بما يكتبون.
أما في رقم 102 من ذات الكتاب فنرى الصحافيين الذين يستهدفون بهجومهم اليومي ودون هوادة بلداً معيناً لأن ذلك البلد ليس من محطات ارتزاقهم. ثم تستكتب صحيفة مغتربة أحدهم في رقم 143 لكنها فجأة تعيد إليه مقاله لأن الشخصية المراد التهجم عليها غيرت مسارها إلى بلد آخر.
لنقُل إن الأخيار موجودون بالطبع في كل المجتمعات التي جمع منها الشوش مسموعاته. لكن النقد السلبي متى ما يبدأ لا يعطي مجالاً للنقيض، ولهذا فبخلاء الجاحظ لا كريم بينهم، وطفيليو الخطيب البغدادي لا قنوع وسطهم، والمغفلون في كتابي ابن الجوزي لا عاقل بجانبهم، وهكذا فالأثرياء عند الشوش لا يميزهم عن مساوئ الفئات التي ذكرناها سلفاً إلا ارتباطهم بعيوب المال.
هذه الملاحظة في رأيي تبقى «عقدة» لدى جامعي النوادر العربية في غالب حقبها، ولا أدري ان كان الشوش أو سواه سيفلت منها يوماً، غير أني أعتقد أن الشوش يخفف عنا عبئها ربما بإعادة نشر نوادره المتماثلة في مقاصدها بدلاً من تكديسها على التتابع كما نرى في عزل الفصول على هدى من مقاصدها لدى أبي هلال العسكري في ديوان المعاني، والزمخشري في ربيع الأبرار والراغب في محاضرات الأدباء.
وهذا العلاج، في نظري، مفيد، حتى لا يغلبنا الانطباع بأن جميع أبطال النوادر الشوشية تغرق أيضاً في السلبيات.
نواصل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.