الخرطوم: محمد صديق أحمد: لم يخطر على بالي أو يطوف في ذهني أن موهبة القيافة التي يقصد بها علم قص الأثر أو الفراسة والذي اشتهر به البدو في الصحراء من العرب في سالف غابر الزمان، ويقصد به متابعة أثر الماشي في الصحراء على الرمل حتى يعلموا أين ذهب، تمشي حية بين الناس في عصر العولمة والتقنية العصرية، إلى أن قادتني الظروف للنزول بحمى قرية الحريراب شمال غربي مدينة شندي بولاية نهر النيل، حيث استمعت إلى قصص وحكاوى أقرب إلى الخيال عن امتلاك كافة أهل القرية لذلك العلم، الأمر الذي مكنهم من القبض على ناصية القيافة أو الفراسة حتى احتلت مكاناً رفيعاً في مقام سمات أهل القرية، وأن من ثمار تلكم الموهبة الربانية قلة زوار الليل للقرية سرقةً ونهباً لما بين أيدي أهلها من النعم والأنعام جراء وصولهم ولحقاهم للسارقين وإن بعدت الشقة وطالت المسافة وتباعد الأمد الزمني بين حادثة السرقة ولحظات القبض على الجاني، الأمر الذي شكل حامياً ومانعاً للقرية من السرقات الليلة أو النهارية. ويحكي لنا أحمد عبد الرحمن أحمد خليفة الشهير بود العجيز، أن المقدرة على تتبع الأثر صفة وموهبة ربانية فطر الله عليها الغالبية العظمى من قاطني قرية الحريراب حتى التصقت بهم، وهي دليل دامغ على حدة الذكاء ونقاء الذهن وصفاء العقل، وأبان أن سلفهم من الآباء والأجداد كان يبرع في القيافة وتتبع الأثر بدرجة تفوق ما يحدث الآن بدرجات كبيرة، حيث أن السلف بالحريراب كانت لهم المقدرة على تتبع الأثر في الحجر، وزاد أن ثمة قصص وحكاوي يراها غير الحريراب خروجاً عن المألوف جرت وقائعها وكثير من أهل القرية شهود عيان عليها، وزاد أنهم لا يتتبعون أثر النعل إنما موقع وشكل القدم، الأمر الذي يجعل المتتبع للأثر لا يهمه إن غير السارق نعله، وأشار إلى أن احدهم تجرأ على سرقة «تيس» ذكر ماعز من طرف إحدى الجزر في منتصف البحر والمياه تحيط بها من كل جانب، ويبدو أن السارق دنا بمركبه إلى طرف الجزيرة حيث كان التيس يرعى وأنزل إحدى قدميه في طين الجزيرة وجذب التيس إلى المركب وولى هارباً، وعندما افتقد صاحب الغنم التيس قص أثره بالجزيرة فوقعت عينه على أثر رجل السارق فحفظ ملامحها تماماً وتناسى الأمر، وبعد سنة من وقوع السرقة كان صاحب «التيس» يتجول في السوق، فإذا بعينه تقع على أثر الرجل التي اختطفت تيسه، فتتبعه حتى وصل صاحبه ودعاه إلى شرب كوب شاي وبعد ونسة قصيرة سأل السارق «إن شاء الله التيس الذي سرقته من جزيرة كذا في الوقت الفلاني وخطفته بمركبك قد وجدته سميناً»، فما كان من السارق إلا أن انهار طالباً السترة. وسرد لنا قصة عن معرفته بعد عدد من السنين أثر بنت ناقة من بين عدد من الجمال في الخلاء كان قد باعها إلى آخرين ببلدة أخرى تبعد أميالاً كثيرة، وأنه وجد بنت الناقة وأوضح لمرافقه أن من أثر الجمال أثر لبنت ناقته التي باعها قبل سنوات، فأرسل لأصحابها دالاً على مكنة وجودها، وختم أحمد حديثه إلينا بأن قصص اللحاق بالسارقين عن طريق تتبع أثرهم بواسطة الحريراب تستعصي عن الحصر، وأن المحصلة النهائية لفراسة وقوة ملاحظة أهل القرية أن أصبح يتحاشها اللصوص وإن وجدوا ممتلكات وأنعام الحريراب سائبة. وغير بعيد عن إفادته يقول أخوه محجوب إن اغترابه عن أرض الوطن لم ينسه ميزة أهله، وأنه استفاد كثيراً من تلك الميزة بالخارج في معرفة الأثر، وأشار إلى أن أخاه أحمد كان قد ضاع منه حمل بعد يوم واحد من ولادته، وأن امرأة بإحدى القرى أمسكته وتولت أمر رعايته، وبعد عام تقريباً قدم ابنها على بيعه بالسوق، وتصادف أن جاء أحمد إلى باحة السوق، وأنه بمجرد ولوجه في السوق رأى حمله الذي غدا كبشاً سميناً، فأشار إلى مرافقه أن الكبش بالمواصفات الفلانية ذاك هو حملي الذي ضاع مني وعمره يوم واحد، فقال له من برفقته بعد أن شكك في عقله إن ذلك مستحيل، فأصر على الذهاب إلى حيث الكبش وسأل عن صاحبه، فجاءه أحدهم فأخبره أنه اشتراه قبل قليل من آخر بواقع «17» جنيهاً، فطلب منه أحمد أن يسرع في طلبه، وبعد أن وجده أوضح له أن أحمد يقول إن الكبش هذا ملك له، وبعد لأي وطول نقاش اعترف بائعه بأن أمه قد وجدته رضيعاً في نفس الزمان والمكان اللذين حددهما أحمد. وزاد محجوب أن القيافة أضحت ميزة لأهل الحريراب حتى التصقت بنسائها وأطفالها، وختم بنداء لحكومة الولاية ومحلية المتمة التي تتبع لها القرية أن تعمل وسعها في بسط الخدمات الأساسية بالقرية، وأن تساهم في إكمال بناء المدرسة الأساسية بالحريراب. وعلى صعيد الشباب تقول الطالبة بكلية الإعلام بجامعة وادي النيل حفية عبد الدافع، إن القيافة والمقدرة على تتبع الأثر بالحريراب ظاهرة تستحق الدراسة والوقوف عندها من قبل علماء الاجتماع، وأن جميع قاطني الحريراب الآن في مأمن من تغولات السارقين، لجهة معرفتهم التامة بكيفية الوصول إليهم وإن تعلقوا بأستار السماء.