جبريل شاب بسيط نال من العلم الديني ماتصح به عقيدته ومن الدنيوي مايجعله يفك طلاسم الخط ..فسقف أمانيه وطموحاته ليس بالعريض.. سقف لايتعدى الأربعة أمتار.. فكل أمله أن يبني له غرفة من الطين ( الجالوص ) تتقدمها (كشاشة ) من القش والقنا والحطب ..ولقمة عيش من غالب قوت اهل القرية..وغنماية أو إثنين لتدر له اللبن.. فبهذه الأشياء سيكون أسعد إنسان ..لايريد أكثر من ذلك..فالبرغم من بساطتها إلا انه عجز عن تحقيقها.. بعد ان ضاقت به قريته الصغيرة التي تقع على اطراف البلاد .. ولكن كان يجول بخاطره ..ماذا يفعل؟و إلى اين يتوجه ؟ وهل سوف يجد مايبحث عنه ؟ فكل هذه الأسئلة جعلته يتقاسم النجوم سهادها ..ويغلبه الدمع فيتصبر..فبعد كل هذه الصراعات التي بداخله قرر الرحيل. كان يسمع عن العاصمة ومابها من فرص للعمل ..وشباب القرية الذين يأتون في الاعياد من العاصمة وهم محملون بالهداية لاسرهم ..وكان يرى سعادتهم وهم يحملون الموبايلات والملابس الجديدة..فكل هذا دفعه ..للرحيل.. عسى أن يجد ضالته هنالك. في يوم الجمعة بعد ان صلى الصبح بجامع القرية ودع المصلين من الجيران والأهل والعشيرة والاصحاب ..ودلف إلى منزلهم لأخذ الرضا من والدته الحاجة سكينة ..وجدها مازالت على المصلاية تسبح أورادها ..فجثا على ركبتيه ..وسلم عليها يطلب منها العفو وأن تبارك له سفره ..لانه يريد أن يساعد نفسه ويساعدهم ..ولم تنطق بأية كلمة ..ولكن كلمته عيناها ..فأخذ الدمع يجري على خدها ..فقال لها أرجوك يا أمي أن تأذني لي بالسفر.. لانه كان مطيعاً وباراً بوالدته .. فلم يعصَ لها أمراً. ولم يتغيب عن القرية يوماً واحداً منذ وفاة والده قبل 17 عاماً . فقالت له والدته أمشي ياولدي راضية وعافية منك وسوف أدعو لك الله التوفيق ويجعل لك في خطوة سلامة ..ففي هذه اللحظة سالت دموعه وهو يحتضنها ..فوجد أخواته يقفن بجواره والدموع على خدودهن..فخرج مسرعاً نحو محطة المواصلات ..فوجد العربة (اللوري) على وشك القيام .. فهي الوسيلة الوحيدة التي يتراحلون عليها ..لعدم وجود شارع زلط يربط بين قريتهم والعاصمة التي تبعد آلاف الكيلو مترات .. فركب وهو يحمل معه اطناناً من الهموم .. وذكريات من القرية الجميلة المخضرة..وطموح بالوصول إلى الهدف الذي جعله يترك مرتع صباه .. جلس في مؤخرة العربة ..التي إمتلأت بالمسافرين وهم يتوسدون جوالات الذرة التي تئن من ثقلها العربة ..وبعد قرابة الست ساعات من المسير ..أخذ يتجاذب أطراف الحديث مع الركاب لان الطريق موحش وطويل ..وكان هنالك من يغني ومن يحكي النكات ..وآخر يدوبي ..حتى لايحسوا بالملل ..فمرت اللحظات سريعاً ..واخيراً توقفت العربة بإحدى المحطات للنوم والراحة وكانت الساعة قرب الفجر. فكانت والدته لاتكف الدعاء له طيلة هذا اليوم في كل صلواتها..وفقده كل من في القرية .فكان يساعد الجميع يأتي الماء من البئر ..ويحمل الذرة للطاحونة التي تبعد بضع ساعات من القرية . تحركت العربة وهي تقترب أكثر فأكثر من العاصمة .. وهو اليوم الثاني من المسير..ففي كل محطة يسأل الكمساري :هل نحن على وشك الوصول فيرد له ماهي إلا بضع ساعات ونكون داخل العاصمة . فشعر جبريل بدقات قلبه تزداد كلما إقتربوا ..لايدري أهو الخوف من المجهول أم الفرحة والإقتراب من الهدف .. فكان بداخله خليط من الرهبة والقلق. وفي هذه اللحظة سمع الكمساري يقول نحن وصلنا نقطة تفتيش العاصمة ..فمن أعلى لمح جبريل صفاً من العسكر المدججين بالسلاح وعربات شرطة النجدة وأخرى تحمل (دوشكات ) فإزداد خوفاً على خوفه ..في هذه اللحظات نزل الكمساري يحمل في يده اوراقاً (تصريح المرور) ودخل في الخيمة على يمين الشارع ولكنه تأخر لاكثر من ربع ساعة ثم عاد ودعا السائق بأن العسكري يريده ..ذهب إلى الخيمة ولكنه لم يتأخر فعاد ومعه إثنان من العساكر وآخر بلباس (ملكي ) . فصعدوا إلى العربة وأمروا الركاب بالنزول والإصطفاف على الأرض وعلى كل واحد حمل الحقيبة الخاصة به، فلم يكن عند جبريل غير كيس صغير مصنوع من فارغ جوال السكر . وليس لديه أوراق ثبوتية ولا شهادات غير شهادة (لا إله إلا الله ) فحمله ونزل ..وبحثوا في العربة فلم يجدوا شيئاً ..ثم بدأوا في بحث الحقائب الشخصية التي يحمها المسافرون على الأرض ..فكان جبريل يتصبب عرقاً وخائفاً ..فلم يجدوا شيئاً أيضاً ..وأمروا السائق بمواصلة السير..فأخذ المسافرون يتناقلون الحديث ..ماذا يجري بالعاصمة هل توجد حرب ؟؟ أم إنقلاب عسكري ؟؟؟ ولكن المساعد أخبرهم بأن هذه الإجراءات لم تكن موجودة سابقاً بدليل أنهم كانوا هنا الاسبوع الفائت ..ولكنني سمعت أنهم يتوقعون هجوماً على العاصمة من قبل قوات معارضة .. ففي هذه الأثناء وصلت العربة الى المحطة النهائية التي منها ينطلق الركاب كل حسب وجهته ..فنزل جبريل..بعد أن سلم على المسافرين وشكرهم وتحمد لهم سلامة الوصول ..ولكنه لايدري أين يذهب ..وأين ينام هذه الليلة فالساعة الآن تشير إلى التاسعة مساءاً..فأخذ يسير في إتجاه مسير المارة حتى غاص في لجة الزحمة ..وفي هذه الأثناء حدث مالم يكن متوقعا فقد سمع دوي إنفجار هائل لايعرف مصدره ..ولحقه إنفجار آخر ..وعدد من الطلقات المتلاحقة فذعر الناس وأصبحوا كل يجري بإتجاه ولم يعرفوا مصدرها ..ولكنه ركض مع الراكضين ..فشكلها معركة فإزدادت النيران فهاجت وماجت العاصمة ..وجبريل يركض الى المجهول..فجاءت طلقة طائشة أصابته واخترقت جسده المنهك فوقع على الارض والناس تطأه وهي في حالة من الذعر . فمات جبريل وماتت معه أحلامه .